أسرار الانقلاب التاريخي (3) (آثار رحلة كولومبوس)

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

خسارة المحيط وآثارها المأساوية  

الخطوة الجريئة التي قام بها الدون كريستوبال كولون والتي تحتاج الى مزيد من التحليل، في كيفية كسره حاجز الخوف من اجتياز بحر الظلمات، التي كانت نفس الملكة الاسبانية مقتنعة به عندما قالت له: إن الناس يقولون إنه بحر لايمكن ارتياده فسكت وقال: ماذا كان يقول العرب عن غرناطة؟ أجابت الملكة بصوت خافت: إن غرناطة كالنسر في الجو لاتنال. ولكن التاريخ يخبرنا أن غرناطة سقطت من الجو جريحة تحت الحراب الاسبانية، وسلم عبد الله الصغير مفاتيحها في ذل مابعده ذل، ليخلد التاريخ مكان بكاءه (مكان الحسرة)(LA PLAZA DE FEURZA) وهو يطل على مدينته التي ودعها الى الأبد، كما يخبرنا التاريخ أن بحر الظلمات أخذ اسم المحيط الاطلنطي (ATLANTIC).

     نقطتا التحجر ونتائجهما  

في الواقع لم يخسر العرب شبه الجزيرة الايبرية بل خسروا المحيط واللعبة الكونية برمتها، فعندما كانت معارك الاسترداد الاسبانية ماضية في زخمها، تُبتلع الاندلس قضمة قضمة وقطعة بعد أن تهضم التي قبلها، كان صلاح الدين الايوبي يهزم الصليبيين في معركة حطين عام 1187 م ليسترد القدس في العام الذي بعده، يظن أن دورة الحروب الصليبية قد انتهت وكانت قد بدأت فعلاً، هكذا يخبرنا التاريخ في ثلاث انكسارات مشؤومة، في سقوط طليطلة واشبيلية وغرناطة (بين الأعوام 1085 م ـ 1248 م ـ 1492 م) ففي عام 1085 ميلادية كانت الحروب الصليبية قد بدأت في الجناح الغربي قبل أن تبدأ في الجناح الشرقي بأربعة عشر عاماً. في هذا العام سقطت مدينة طليطلة، العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية، لتبدأ الحروب الصليبية في المشرق بكل ضراوة عام 1099 م، في أعنف حرب عرفها الجنس البشري، وأشدها ضراوة، وأغزرها دما، وأطولها زمنا فقد استمرت 171 عاما‍ (من عام 1099 حتى 1270 م)، وحسب المفكر المغربي (الهادي المنجرة) نقلا عن باحثة يابانية أنها كلفت حوالي مائة ألف قتيل مايعادل في أيامنا ربما أكثر من عشرة ملايين من الأنام؟ وفي عام 1086 م نجح المرابطون في إيقاف الفونسو السادس في معركة الزلاقة في نهاية القرن الخامس للهجرة الحادي عشر للميلاد ( 1086 م الموافق 479 للهجرة) وفرملة سقوط الاندلس أربعة قرون لاحقة. ولكن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يظهر انهياراً مأساوياً للعالم الاسلامي في جناحيه الشرقي والغربي، سجل ظاهرته الكاتب الفرنسي (لوي غارديه) في ظاهرة لم نتعافى من آثارها فنحن ندفع ثمنها مضاعفاً حتى اليوم في الصومال وأفغانستان وسوريا ولبنان والعراق وعبادان وتركستان.

يقول لوي غارديه: (ليسمح لنا بنوع من التنميط التاريخي. إننا نزعم أن هناك نقطتي تحجر وتجمد تتحكمان بهذه الحركة الانكفائية والدفاعية، حيث يتحصن العهد الحديث للعالم الاسلامي، هاتان النقطتان تقعان معاً في القرن الثالث عشر الميلادي وهما: من جهة الاستيلاء على اشبيلية سنة 1248 م من قبل الجيوش المسيحية الاسبانية، ومن جهة ثانية الاستيلاء على بغداد ونهبها من قبل جيوش المغول بامرة البوذي هولاكو سنة 1258 م، ولايعني هذا أن القرن الثالث عشر الميلادي؛ السابع الهجري هو عهد الانحطاط، ولكن هاتين الهزيمتين فتحتا بنوع من الانواع في تاريخ الشعوب الاسلامية ثغرة ماتزال تتفاقم) طبعا علينا أن نضيف إلى نقطتي التحجر بناء دولة بني صهيون عام 1948 ومن قبل تقطيع الجثة العثمانية عام 1928م بإعلان سقوط الخلافة على يد كمال أتاتورك (عفوا دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان فلما خر تبينت الجن الأوربي أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين!)

    الانهيار بدأ قبل ستة قرون  

إن هذه الثغرة التي اتسعت على الراقع، أدركها ابن خلدون في حس حضاري متميز فكتب في مقدمته عام 1408 م وهو يراقب سحب الظلام التاريخية القادمة من الأفق البعيد: (هذا الى مانزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وأوهن من سلطانها، وتداعت الى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر؛ فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها) ليخلص الى نتيجة منطقية في سبب عكوفه على كتابة هذه الظاهرة التاريخية وهذا الانقلاب الكوني الذي يستدعي التسجيل بشكل ملحِّ: (وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث، فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها)

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram