(5) اللمعة الخامسة من القرآن
في مطلع سورة البقرة ندخل أولا إلى عالم الحرف بعدها مباشرة إلى عالم الغيب . القرآن يقول علينا أن نتحرر من (الريب) الشكوك. فهي الهداية وهو عالم التقوى. وأول صفة لهذا الصنف من الناس أنهم يؤمنون بالغيب كآلية خلق للضمير الجديد.
الم (ثلاثة حروف بدون معنى ولكن الحرف هو مفتاح اللغة والكتابة هي الذاكرة الجديدة للبشرية).
(ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين).
نحن إذن أمام ثلاث أفكار الحرف والذاكرة البشرية والعلم
مراحل العلم:
هناك شيء أولي وهو (السنة) وهذه تمثل استقرار الحقيقة الموضوعية في الوجود الخارجي للذهن، وانتقال هذه الحقيقة إلى الذهن وترسخها فيه هو (العلم) والرسوخ يتفاوت بدرجات والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب، ثم تأتي مرحلة التعبير أو النطق علمه البيان إنه البيان عن هذه الحقيقة، ولكن البيان يختلف مردوده بين الصحة والخطأ على قدر صواب أو خطأ استواء الحقيقة في الذهن، وأخيراً حبس هذا المعنى وتقييده في رسم معين وهذه هي (الكتابة) والكتابة هي الذاكرة الجديدة للبشرية والتي تنمو إلى ما لا حد له، وبواسطة الكتابة استطاع الإنسان أن يضيف إلى ذاكرته ذاكرة الآخرين بل ذاكرة البشرية المتراكمة ببطء عبر القرون وهنا بدأ التاريخ، ومنها بدأت خبرات البشر بالتراكم والاستفادة منها ونقلها من جيل إلى جيل.
(الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
معنى الحرف:
عندما تكونت الكتابة تشكلت ذاكرة جديدة للبشرية، وحصلت طفرة هائلة للبشرية لأن المعلومات البشرية بدأت بالتراكم والتكديس والتفاعل، وبدأت بذور نهضة الحضارات حيث أن الكتابة بدأت بصياغة البشرية صياغة جديدة، هذه المرحلة من اكتشاف الكتابة تعتبر أخطر تطور في تاريخ البشرية، لأن اكتشاف الحرف كان معناه تحويل النطق إلى كتابة تعبر عما تريد وتنقله إلى الأجيال القادمة، وهذا معنى كبير أشار إليه القرآن بالتركيز على الحرف في كثير من فواتح السور آلم أو في الإشارة إليه عند خلق آدم وعلم آدم الأسماء كلها القدرة على التعبير بالكتابة، واكتشاف اللغة لا يقل في أهميته عن مرحلة تحول الإنسان من فترة ما قبل الاجتماعية إلى الفترة الاجتماعية، أو هو بتعبير أدق: إن اكتشاف الكتابة رافق دخول الإنسان الحضارة، إن الإنسان لم يدخل التاريخ لولا الكتابة ـ على الأقل التاريخ المقروء ـ لذا كان من الأهمية أن يفتتح القرآن بالحرف (14 حرف تجمعها جملة نص حكيم قاطع له سر) في 29 سورة وهو يؤكد على الحرف.
ويبرز معنى آخر وهو البدء بالدورات الحضارية في التاريخ، لأن العديد من المجتمعات مر على تراب هذه الأرض، ولكنها كانت مجتمعات بدائية، قدرها المؤرخ توينبي في حدود 600 ستمائة مجتمع، ولكن لم يكتب إلا لعدد قليل من المجتمعات أن ترفع (حضارة) وهي في حدود (32) اثنان وثلاثون مجتمعاً ما زال منها على قيد الحياة خمسة فقط منها المجتمع الإسلامي الحالي [رأي توينبي الحضاري].
كان البدء بالدورات الحضارية مقترناً بالكتابة والقراءة أو معرفة الحرف، ولم يتسن للبشر أن يتقدموا بسرعة إلا بعد تطوير الحرف، خاصة بعد انتشار الطباعة والتصوير وصولا إلى عالم النت، وهنا يجدر أن نلفت الانتباه إلى ظاهرة وهي بروز الرسالات بشكل متواتر في هذه المرحلة من نهضة الحضارات، وليس معنى هذا انعدام النبوات في الفترات السابقة وان من أمة إلا خلا فيها نذير ولكن اقتران الحضارات بانبعاث الرسالات يجعلنا نشارك الأستاذ مالك في رأيه القائل بأن النبوات كانت العامل الكيفي المركب والباعث للحضارة، وإن كان هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل خاص نرجو أن نوفق إلى تناوله في بحث خاص..
أخطر مراحل العلم:
رأينا فيما سبق أن مستويات الوجود الواعي هو السنة كوجود موضوعي، ومردودها الصحيح في الذهن هو العلم، والتعبير عنه هو البيان، وتقييد المعنى برسم معين هو الكتابة ولكن يا ترى ما هي أخطر المراحل التي يضل فيها البشر ومنها تنبع المشاكل؟ طالما كانت سنة الله في خلقه لا تتبدل وهي واحدة ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا التبديل بتغييرها أصلاً، والتحويل بحرفها عن مجراها.
إن أخطر المراحل هي في تكوين الصورة الذهنية كمرحلة تالية للحقيقة الموضوعية، إن مردود الحقيقة الموضوعية الخارجية في الذهن له ثلاث حالات:
أ = 0 (مساوي للصفر)
ب أصغر من 1 (أصغر من الواحد)
ج = 1 (مساوي للواحد)
(أصغر من الواحد) = 1 (مساوي للواحد)
أما مساوي الصفر فهو الخطأ المطلق، وأما مساوي الواحد فهو الصحة المطلقة، وأما الأقل من الواحد فهو الاقتراب من الصحة بمقدار ونسبة متفاوتة.