الشحرور ومنهجه، المناهج المعرفية للوصول إلى الحقائق

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

ويبقى طريق الوصول إلى الحقيقة صعبا وعرا

أرسل لي الأخ المغربي اليوسفي أن الشحرور صاحب منهج اللغة للوصول إلى المعنى في القرآن أنه فارق الحياة في أبو ظبي، تحديدا حيث المركز الاستراتيجي للحرب على الاتجاهات الإسلامية، وحيث تنفق الأموال لقتل الربيع العربي، ودعم حفتر الانقلابي خليفة المقذوف القذافي.

لقد راسلني أيضا أخ فاضل يقول أنه وقع اخيرا على كنز معرفي في 43 حلقة لرجل يدعي وصلا بالحقيقة، وأنه فكك جوهر القرآن فوصل إلى لبه، ووضع يده على مخ الحقيقة خالصة، وأن أسرار القرآن باحت له بتفاصيلها؟

ومثل هذا الأدعاء سمعته منذ ان كنت صغيرا، وأذكر أنني رجعت يوما إلى البيت طفلا ووالدتي تصرخ فرحا أن الشيخ محمود رأى النبي ص في منامه وهو ينذر أمته من شر قادم، وأن الحل في سورة الأنعام، والدليل هو شعرة من لحية النبي ص. قالت أمي وهي تقلب القرآن التركي بين يديها، حيث لم تكن تعرف العربية، وتقسم بالله وهي تشير إلى بقية من ندفة صوف أنها شعرة النبي لاريب فيها، كانت رسالة الشيخ محمود مكونة من صفحة من مزاعم يقول فيها أن أعظم الفضل هو كتابة مائة نسخة منها وتوزيعها على كل من يعرف، وينصحه باستنساخ مائة، فيعم الفضل ولا يبق بيت حجر ومدر ووبر إلا ودخلت عليه نصيحة الشيخ محمود الذي رأى النبي ص في المنام. ولو كان في أيامنا لصور منها مائة ألف أو يزيدون.

ومثل هذه القصص كما في قصة الأمام الذي اختفى في السرداب قبل ألف عام، أو المسيح الذي قفز إلى السماء فأتباعه يحتفلون كل عام بحمل الصليب إلى جبل الجلجثة مع الموسيقى الحزينة، أو الشيعة وهم يلطمون أنفسهم كل عام بالسلاسل والناس تزعق واحسيناه؟ ثم يتوجهون إلى قتل أولاد يزيد السوريين في درعا والغوطة.

والحاصل تأتيني الرسائل واليوتيوب كل يوب عن مزاعم كثيرة وأنبياء كذبة ودجالين رائعين، ومشعوذين فنانين ومهرطقين مردة يعتلون صهوة البيان في المحطات الفضائية، ويبقى طريق الوصول إلى الحقيقة صعبا وعرا.

أذكر من الأنجيل فقرة يقول فيها المعلم ما أرحب الطريق الذي يقود إلى الهلاك وكثيرون يسلكونه، وما أضيق الطريق الذي يقود إلى الخلاص وقليل من يسلكه،

نرجع إلى الشحرور الساحر اللغوي الجديد وهو يفسر قصة نوح فيخرج منها بأشياء عجيبة مثل أن من ركب السفينة كانوا فريقين كفرة ومؤمنين!؟

ولكن كيف والقصة كلها تقوم على أن نوح قال لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا؟ هنا يأتي الساحر اللغوي فيلعب بالفقرة القرآنية ويقول تأملوا هذه اٍلآية؟ و(أهلك) إلا من سبق عليه القول ومن آمن. (مات وهلك إلا من آمن ومن سبق عليه القول أي لم يؤمن؟!)

يقول الرجل ـ عفوا اللاعب في سيرك اللغة ـ ليخرج أرانب بيضاء من القبعات السوداء. نحن هنا أمام فقرة واضحة ان من ركب السفينة مع نوح بعد أن هلك من هلك، هم من سبق عليه القول، ومن قد آمن. هنا نحن أمام كلمة (أهلك) بمعنى الهلاك والفناء؟ وإلا بمعنى عائلتك ومن حولك؛ فإن لعبنا بالكلمة لغويا فيمكن أن نخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، ولكن السياق كله يقول أن نوح دعا الرب وكلفه بأن يبني سفينة تنفع يوم الطوفان فيمسح المجتمع الوثني من وجه الأرض.

أسئلة ملحة عن نوح، ليس القصد منها نوح، بقدر طرق التداخل المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق، بكلمة أدق محاولة الوصول إلى درب الحقيقة؟

والنموذج الذي بين يدي يشكل طريقتين منفصلتين للوصول إلى الحقيقة  مجسدة في قصة نوح والطوفان؛ الطريقة الأولى هي توليد الحقائق من الألفاظ، والثانية الوصول إلى درك الحقائق من البحث في الأرض والتاريخ والوقائع.

نموذج هذا ما طرحته أنا عن قصة نوح والأبحاث الأركيولوجية، والثانية الطريقة اللغوية التي اعتمدها محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن) من تفكيك النص القرآني، وبناء الحقائق من اللغة.

والآن إلى المعمل والعمليات، فمتى حدث الطوفان؟ وأين حدث الطوفان؟ هل فعلا عم الكرة الأرضية كلها؟ هل من دلائل آركيولوجية وأنثروبولوجية وبالينتولوجية عن ظروف حدوث مثل هذا الطوفان الذي لم يبق ويذر؟ هل من المعقول أن نوحا حمل على سفينة متواضعة، ربما أصغر من سفن كولومبوس حيوانات الأرض جميعا؟ لماذا حدث الطوفان وما هي دلالته التاريخية؟ متى عاش نوح أنثروبولوجيا وكيف عاش أكثر من ألف سنة؟ ثم ما هي طبيعة الصراع الذي نشب بينه والمجتمع المحيط به؟

كل هذه الأسئلة أضعها تحت المجهر ليس فقط من أجل القصة؛ بل من أجل المناهج المعرفية للوصول إلى الحقيقة.

أقول هذا لأنني منذ زمن اطلعت على كتاب الشحرور في أول صدروه (الكتاب والقرآن) حين تعرض لموضوع القصص القرآني، وكيفية الدخول على الحدث التاريخي لتفكيكه؟ وهو ما نسميه في علم الجراحة المدخل أو الأداة (Approach) فالدخول لاستئصال الزائدة الدودية، تتم بمشرط وملقط ومبعِّد وخيط، ويتم الدخول عليها من شق مك برني (Mc Burney) وهي في الزاوية السفلية اليمنى من البطن. كذلك الحال في الدخول على الأنورزما الوعائية، فهذه تحتاج ما ذكرنا بالإضافة إلى وسائل تشخيصية معقدة، و(جرافت) أي شرايين صناعية.

كنت في زيارة إلى مدينة (الدمام) في السعودية حين اجتمعت بأخوة أفاضل تناقشنا فيها حول مداخل (المناهج للوصول إلى الحقيقة) أو لنقل بكلمة أدق محاولة الاقتراب من الحقيقة. أنا أعرف الشحرور، وهو رجل فاضل مجتهد، ولكن كما كان أرسطو يقول إن أفلاطون عزيز علي، ولكن الحقيقة هي أعز على قلبي من أفلاطون. ولأن الشحرور الشامي لم يعد نكرة، بل يؤسس لفكره هنا وهناك، وجب شرح نظريته إنصافا له.

أنا أعرف الشحرور شخصيا، وهو رجل فاضل مجتهد، ولكن كما كان أرسطو يقول إن أفلاطون عزيز علي، ولكن الحقيقة هي أعز على قلبي من أفلاطون. ولأن الشحرور الشامي لم يعد نكرة، بل يؤسس لفكره هنا وهناك، وجب شرح نظريته إنصافا له. والرجل يخرج على الفضائيات من حين لآخر، بل هناك من ذهب إلى اعتباره أنه المجتهد 14، وأنه صاحب المذهب السادس الجديد؟ وسمعت أنه طُلِب من الكونجرس الأمريكي لشرح رسالته، كما أن الاستخبارات السورية رأت فيه منافسا ممتازا للأصوليين الذين يناجزونهم بقوة السلاح، فيأتي ضمن اللعبة السياسية إن شاء أو أبى، من حيث علم أو جهل. والمهم فالمدخل الذي دخله الشحرور على قصة نوح ينتهي فيها إلى أمور لطيفة، وكثير من (التناقضات) يتعجب منها الإنسان كيف وصل إليها هذا الرجل الذكي، ولكن كما يقول ديكارت: (أن أعظم النفوس يمكن أن ترتكب أفظع الرذائل فليس من أحد محصن؟). والموضوع كما يقول ديكارت إنه لا يدور حول ذكاء وغباء، بل كيف نوجه عقولنا، ومنه وضع هندسته العقلية بعنوان (المقال على المنهج)، وقال أنه مفيد حتى للأتراك؟ على العموم فإن النتائج هي التي تحكم على الأفكار والمدارس والمناهج. إن أخذ عينات من مفكر وكتاب أمر جيد، كما في أخذ عينة دم بسيطة من مريض مصاب بالتهاب كبد وبائي من نوع سي (Hepatitis C ).

مرة أخرى أكرر مع أرسطو قوله لأفلاطون: أنت عزيز علي ولكن الحقيقة أحب ألي. أو هكذا نزعم؛ فالحقيقة النهائية هي عند الرب، ونحن باجتهادنا قد نقترب من الحقيقة شبرا أو نبتعد قدر أربعين خريفا. وينقل عن (ليسنج) من فلاسفة التنوير قوله: لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يمناه، والشوق إلى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر؟ إذا لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت: يا رب بل التي في يسراك فالحقيقة المطلقة هي ملك لك وحدك لا شريك لك. وينفع في هذا أيضا قول (آينشتاين) عن الحقيقة أن التعرف عليها مرة واحدة لا يكفي بل يجب غربلتها دوما فقد تكون زيفا كاملا! إن الحقيقة على فرض وجودها تشبه تمثال الرخام المنتصب في الصحراء والمهدد في كل لحظة بالغرق في عواصف الرمل، وما يبقيه ملتمعا في هذه الصحراء هي الأيدي التي لا تمل ولا تكل وتنفض عنه الغبار باستمرار.

إنها فلسفة اكتشاف الحقيقة وصقلها المتكرر فالحقيقة قوة حيوية وليست كماً جامداً كما ترون. هناك أسئلة ملحة عن نوح، ليس القصد منها نوح، بقدر طرق التداخل المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق، بكلمة أدق محاولة الوصول إلى درب الحقيقة؟ والنموذج الذي بين يدي طريقتين منفصلتين للوصول إلى الحقيقة  مجسدة في قصة نوح والطوفان؛ الطريقة الأولى هي توليد الحقائق من الألفاظ، والثانية الوصول إلى درك الحقائق من البحث في الأرض والتاريخ والوقائع.

كان أول عهدي بالرجل حينما اطلعت على كتاب الشحرور (الكتاب والقرآن) حين تعرض لموضوع القصص القرآني، وكيفية الدخول على الحدث التاريخي لتفكيكه؟ ومسألة الشقوق وهو ما أثار زوبعة ضده أن لاحرج على المرأة أن تخفي شقوق الثديين وهذا يكفي في اللباس. وكما يقول المثل خالف اعرف وهو أسلوب معروف حتى في علم السياسة والطب والاقتصاد. كان ذلك في منزل داعية اللاعنف السوري (جودت سعيد). ويومها علق سعيد على ماتحدث به الشحرور أن الخطأ يحق له أن يعيش، وأن يسمح لكل الآراء بالوجود والتعبير، وهو ما أكرره أنا ايضا من فتح الميدان لكل الاتجاهات، فقد اطلعت على أراء مفكرين مغاربة شتى اتخذوا العلمانية منهجا في حياتهم وطلقوا الملة والديانة والتدين، ولاحرج؛ بدون التصريح بذلك، وعلينا أن نحميهم من خناجر الحشاشين وقنابل الانتحاريين، كما حصل لفرج فودة في مصر حين سئل الغزالي عنه فأيد مسألة قتله لأنه مرتد، ويجب تطبيق حد الردة عليه بيد الدولة فتقص رقبته، ومن قام بقتله فقد (افتئتوا على حق الدولة) على حد تعبيره.

لقد اطلعت على ماكتب الشحرور ونصيحتي أيضا لمن يرد عليه أن يقرأه جيدا ليفهم منهجه في فهم القرآن، وهناك العديد ممن رد عليه، وتمنيت من الأخ عفانة الأردني أن يرد بغير الطريقة التي قام بها، ولكن كما أقول فلكل فلسفته في الحياة وفهم الأشياء، ويمكن الاطلاع على كتاب الأخ الأردني عفانة وكيف فهم الشحرور. وكتاب بيضة الديك وهو غيض من فيض من الردود.

قبل كل شيء وأنا الطبيب الجراح  وهو مانسميه في علم الجراحة المدخل أو الأداة (Approach)، فالدخول لاستئصال الزائدة الدودية، تتم بمشرط وملقط ومبعِّد وخيط، ويتم الدخول عليها من شق مك برني (Mc Burney) وهي في الزاوية السفلية اليمنى من البطن.

كذلك الحال في الدخول على الانورزما الوعائية، فهذه تحتاج ما ذكرنا بالإضافة إلى وسائل تشخيصية معقدة، وجرافت أي شرايين صناعية.

وحين ذهبت إلى الدمام اجتمعت بأخوة أفاضل، تناقشنا فيها حول مداخل المناهج للوصول إلى الحقيقة، أو لنقل بكلمة أدق محاولة الاقتراب من الحقيقة.

أنا أعرف الشحرور، وهو رجل فاضل مجتهد، ولكن كما كان أرسطو يقول إن أفلاطون عزيز علي ولكن الحقيقة هي أعز على قلبي من أفلاطون!.

نموذج ماطرحته للدخول على القرآن بما سميته (الأدوات المعرفية المساعدة) هي قصة نوح والأبحاث الأركيولوجية، والثانية الطريقة اللغوية التي اعتمدها محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن) من تفكيك النص القرآني، وبناء الحقائق من اللغة؟

إن كل مستوى وكائن له طريقة خاصة في التعبير والحديث، سواء الجلود أو لحاء الشجر، أو طبقات الأرض التكتونية، ويدخل في هذا قصة نوح وأين يمكن العثور عليها؟

وحين يتحدث القرآن عن ريح عاد، يقول ماتذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، فلا يعقل أن يكون تأثير الريح، أشد من الريح النووية العاتية، التي ثبت أن عقارب الصحراء الجزائرية لم تتأثر بها وخرجت تلعب؟ وهذا يفتح عيوننا مرة أخرى على مشكلة اللغة وعيوبها كما قالت بذلك مدرسة البرمجة من العيوب القاتلة الثلاث؛ عن عدم الدقة والتضخيم والنقص. (التعميم والحذف والتشويه)

فلنبدأ أولا بالأشياء الجيدة، ونحن معه في هذا.

نوح تاريخيا يأتي في الوسط تماما، بين آدم أبو الأنبياء (يقول شحرور أن آدم لم يوح إليه) وبين الرسل الذين جاؤوا في عصر الكتابة، ولكن الشحرور و(باللعب على الألفاظ) خرج بمفهوم يقول أن نوح عاش أيام الكهوف، أي قبل ثلاثين ألف سنة، وربما عاصر إنسان نياندرتال (اختفى في هذا الوقت بين 30 ـ 35 ألف سنة)، ولكن كيف يمكن الحكم على هذه الفترة التاريخية ومن أين الأدلة؟ ولكن الشحرور سيد السيرك يخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، ويلعب بالألفاظ مثل الروليت ليستخرج ما يريد؟ فيضربن بأرجلهن يعني الستربتيز. ويمكن لـ (حمو) المرأة أن يراها عارية تماما كما خلقها ربها. وغض البصر لا يعني غض البصر، بل يمكن أن يبحلق. (الغض من الغضاضة الطراوة). وأن قطع يد السارق لاتعني القطع بل خدش اليد بجرح؟ وإلا هل يعقل أن نسوة يوسف قمن بعملية قطع اليد عند الرسغ حين حدقن في يوسف الجميل حين أكبرنه!، ولكن لم يجبنا الشحرور على فرعون الذي قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو حكم الحرابة في قطع اليد أو الصلب؟ ربما الصلب هنا لايعني الصلب بل خدش اليد ؟ يكفي أن نغير مكان الحرف ليتغير كامل المعنى.

نحن معه في أن نوحاً بسفينة متواضعة لم يكن بمقدوره أن يحمل كل حيوانات العالم، بمن فيهم الدب القطبي والكنجارو الأسترالي واللاما من جبال الأنديز؟ إن مفتاح الحقائق مرة أخرى ليس الألفاظ، بل البحث في الأرض والآثار، في حين أن الشحرور يرجم بالغيب. فكيف يمكن أن يقرر أنه في عهد نوح لم يكن ثمة من صلاة وصيام وزكاة ولا أي شكل من أشكال العبادات؟ وكيف له أن يقرر أنه كان في مجتمع ليس فيه نقد وعملة؟ وأنه عاش في منطقة منخفضة محاطة بالجبال، ولعله أي الشحرور معه صور ديجتال عن المنطقة التي عاش فيها نوح؟ وهذه الطريقة هي الفارق بين لعبة اللغة، ومسيرة الفلسفة الوضعية المنطقية، وبتعبير القرآن، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)(فصّلت:21). إن كل مستوى وكائن له طريقة خاصة في التعبير والحديث، سواء الجلود أو لحاء الشجر، أو طبقات الأرض التكتونية، ويدخل في هذا قصة نوح وأين يمكن العثور عليها؟

ومما جاءني من أخ فاضل من السويد العشرية التالية ولنضعها للتقييم: أن الرسول ص رجل صالح ولايلزمنا إتباعه. جواز تبديل الشريعة كل خمسين سنة. المتقون هم علماء الفيزياء والفلاسفة. الزنى بين شخصين لاغبار عليه بشرط الإخلاص (ربما تفسير موضوع ملك اليمين). النبي لايحق له الكلام في الغيبيات باستثناء القرآن. أن الحدود والتعزيرات ليست من الدين. يبث الفكر الماركسي (ربما لأنه أرسل من قبل البعثيين إلى روسيا وهناك امتص الثقافة الشيوعية؟) يعتبر أن الرسول ص يفسر القرآن مثل أي مفكر. الصلاة ليست عبادة. لايحرم شرب الخمر مالم يسكر؟

ونرى من هذه العشرية أن بعضها يستحق الذكر، وبعضها ضعيف، وثالث متهافت؛ ومن المهم تتبع أقواله وأين ذكرها؟ وفي أي كتاب وردت؟ فالناس في الوقت الحاضر لم يعودوا يقرئون بل كل ماسك التلفون الذكي ويلعب به! ولكن عصر اليوتيوب سينقرض أيضا، ومشكلته أنه ليس مثل النص المقروء. أنا شخصيا لو جاءتني مقالة بصفحات تصفحتها بسرعة ووقفت أهم ماجاء فيها، مشكلة اليوتيوب عليك الصبر والإنصات إلى الأخير حتى تستوعب وتفهم وتنصف القائل، وهذا ينطبق على أعداد لانهاية لهم من الدعاة والمفكرين والسياسيين والأفاقين وهم أكثر من رمال صحراء النفود. وهذا يذكرني بنيلسون مانديلا الذي كانت في جنازته كريستين لاغارد مديرة الصندوق الدولي في 13 ديسمبر 2013 فنوهت بعظمته (قائدا شجاعا وصاحب رؤى) لنتكتشف أن الرجل لم يطلق من محبسه إلا بعد الموافقة على المحافظة على مصالح المافيا البيضاء (يراجع في هذا كتاب صندوق النقد الدولي ـ تأليف ارنسا فولف ـ عالم المعرفة رقم 435 ص 75).

أتابع مابدأته في مقالاتي حول الرجل في محاولة لإنصافه وأهم شيء هو مراجعة وتصفح ماكتب وقد فعلت أنا، وقرأت للرجل، وأزعم أنني فهمت حول ماذا يدور؟ وإن كان ثمة تطور في رحلته الأخيرة حين بدأ في استخدام العلوم الإنسانية المساعدة لدعم اتجاهه وهذا جيد.

وهنا وفي هذه النقطة يشتد النزاع جدا حول المناهج المعرفية للوصول إلى الحقائق، وتكلم ابن خلدون أيضا عن هذا الجدل بين اللفظ والمعنى والحقيقة، وقال أنه عند الاختلاف، يجب تطليق الألفاظ، والتخلص منها والحج إلى شمس المعنى وقنصه ثم إلباسه اللفظ المناسب. وكلمة شجرة تاخذ قوالب وألبسة لانهائية من الألفاظ (شجرة بالعربي ـ باوم  Baumبالألماني ـ تري Tree بالإنجليزية). والغزالي نبه جدا إلى هذه الورطة، التي وقع فيها الشحرور الشامي حين أراد الوصول إلى الحقائق من الألفاظ؟ فقال أي الغزالي القديم في كتابه المستصفى من أصول الفقه :

"اعلم أن من أراد الوصول إلى المعاني عن طريق الألفاظ ضاع وهلك، وكان مثله مثل من يريد المغرب وهو يستدبره، ومن قرر المعاني أولا ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد نجا".

وشرح هذه القاعدة الهامة، أن البشر حين يتنازعون حول الألفاظ لايصلون قط إلى نتيجة، ومن الضروري التخلي عن الألفاظ، والتفاهم حول المعاني وماذا نريد تماما؟ وحين نتفق على المعنى نعمد إلى اللباس المناسب من الألفاظ فنخلعه عليه، ولذا استخدم القرآن لفظ الغائط وهو بالأصل ليس البراز العضوي، بل المنخفض من الأرض، وكذلك الحال في كلمة الوضوء الذي يعني بالأصل الطهارة فتحول إلى آلية محددة لاستعمال الماء قبل الصلاة.

ولكن مع الوقت وبالاستعمال يتحول الغائط إلى المعنى العضوي، وأذكر جيدا من الدكتور (سبح) في كلية الطب كيف كان يقول: مهجور مستعمل خير من معلوم غير مستعمل، ويقصد بهذا أن الكلمات هي صناعتنا، ونحن من نسعملها ونعطيها المعنى والوظيفة.

ومن المؤسف أن اللغة هي قناة التفاهم، وبدونها ليس من تفاهم، ودخلت البرمجة اللغوية العصبية على الخط لتقول لنا؛ إن التواصل هو ثلاث أشكال الكلمات والصوت والسيمياء، بمعنى أن الكتابة تنقل 17% من المعنى، كما هو الحال في هذه الكتابة التي أنجزها حول مناهج البحث عن الحقائق، أما الصوت فيرفع النسبة إلى ربما 35 % ولكن الحضور الكامل وحركات اليدين والرأس والتخاطب المباشر قد يرفع مستوى نقل المعنى إلى حوالي 67 % ولم نصل بعد إلى 100% ..

ومنهج الشحرور هو من هذا المستوى المتردي جدا، خارج العلوم الإنسانية المساعدة من التاريخ والأركيولوجيا والأنثروبولوجيا والبالينوتولوجيا.

وربما في المستقبل قد يصل الجنس البشري إلى تفريغ معلومات الدماغ إلى الكمبيوتر بطريقة كهرطيسية سريعة؛ فيكسب مرتين الإفراغ الكلي والسريع والنقل بدون تزوير وخداع؟ أو هكذا نقول؟

والآن إلى المعمل والعمليات فمتى حدث الطوفان؟ وأين حدث الطوفان؟ هل فعلا عم الكرة الأرضية كلها؟ هل من دلائل آركيولوجية وأنثروبولوجية وبالينتولوجية عن ظروف حدوث مثل هذا الطوفان الذي لم يبق ويذر؟ هل من المعقول أن نوحا حمل على سفينة متواضعة، ربما أصغر من سفن كولومبوس حيوانات الأرض جميعا؟  لماذا حدث الطوفان وماهي دلالته التاريخية؟ متى عاش نوح أنثروبولوجيا وكيف عاش أكثر من ألف سنة؟ ثم ماهي طبيعة الصراع الذي نشب بينه والمجتمع المحيط به؟ أيضا يأتي الشحرور ليقول أن نوح لم يعمر ألف سنة؟ ويعتمد في هذا على نصوص من أيام بابل أن السنوات لم تكن سنوات، ولكن القرآن يحدثنا عن 309 سنة لأصحاب الكهف فأين تقع في منظومة الشحرور؟ ليس هذا فقط بل كيف نفهم جن نبي سليمان وحديث الطير والجبال مع داوود؟ ودابة الأرض وسرعة الضوء الذي أحضر به من عنده علم عرش ملكة سبأ؟ أو عروج الأمر إلى السماء في زمن مقداره خمسين ألف سنة ممن تعدون؟ نحن بالطبع نفهم محاولة إدخال العقلانية إلى النصوص بما فيها ملك اليمين أنها سارية المفعول فلا نسخ في آيات القرآن بل حتى العبودية مرحبا بها حتى لانعطل النصوص وأن الوصية في الميراث تعطى مهما كان الوريث حاصلا من نسبة؟ نحن مع الشحرور في ورطة فعلية؟ أم أن العقلانية شيء مختلف. نموذج ذلك سرعة الضوء وصلنا إليها ولكن القرآن حدثنا عنها وامثالها كثير من تفتيت الحجر بالأمواج الصوتية كما هي في معالجة حصيات الكلية فاقترب منا معنى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته متصدعا. القرآن إذا يشق الطريق إلى المستقبل والشحرور يحاول ضغطه في مفاهيم قاصرة.

كل هذه الأسئلة أضعها تحت المجهر ليس فقط من أجل القصة؟ بل من أجل المناهج المعرفية للوصول إلى الحقيقة.

 

نحن معه أيضا في قصة غمر المياه أنها لم تكن لكل الأرض، بل كانت محدودة في بقعة معينة، ولكن أين؟ فهذا هو السؤال الذي لايمكن فكه باللعب بالكلمات، كما خرج بذلك الشحرور أنها منطقة منخفضة من الأرض مطوقة بالجبال، ومن يجيب على مثل هذا السؤال ليس اللغة بل البحث الأريكيولوجي في طبقات الأرض، وهو ما أعلنته بعثة علمية درست الأرض والبحر الأسود، لتخرج بنظرية متواضعة، تقرب إلينا القصة القرآنية، وهي يمكن أن تكون صحيحة، وأين وقعت؟

وهل كانت المياه بهذا الجبروت، خلاف ماقاله الشحرور أن الأمواج لم تكن عاتية بل كانت أمواجا عادية، ولكن شكلها كان مقوسا، مثل ظهر الموجة لا أكثر، وهو شيئ يثير الضحك فعلا؟

أرجع إلى تفسيره وفهمه لقصة نوح فأقول طالما كان نوح من نوع (ماقبل تاريخي Prehistorically) أي قبل عصر الكتابة، فنتوقع أن الطوفان حدث مع بدايات الثورة الزراعية، أي عميقا في الزمن أكثر من ستة آلاف سنة، وهو موعد البشرية مع الحصاد والزراعة وبداية الجتمع الثقافي. وهو ما أعلنه البحث الأركيولوجي أن الطوفان ربما حدث قبل 7500 سنة وبقوة عارمة اكثر مما صورها القرآن والعهد القديم. والقرآن حين يتحدث عن صحف إبراهيم وموسى، فهو يؤرخ لبروز الرسالات العظمى، بعد زمن اختراع الكتابة، (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)، فإبراهيم عليه السلام خرج في حدود قبل 4000 سنة، وموسى قبل حوالي 3500 سنة، وهي الفترة التي تلت اختراع الكتابة قبل 5000 سنة، وهذا صحيح من دراسة التاريخ واللغات وعلم الفيلولوجيا، وليس من خلال اللعب بالكلمات كما فعل الشحرور رحمه الله، بل الرجوع إلى التاريخ الذي بدأ مع اختراع الكتابة، فنحن عرفنا من مكتبة نبوخذ نصر التي كشفها (هنري ليارد) في نينوى (الموصل) عن 25 ألف لوح مكتوب باللغة المسمارية، حقيقة ماجرى في تلك الأيام، ليس كذب الملوك بل فكرة ماذا كان يحدث؟ من وجهة نظر من كتب؟ والعثور على قطعة نقد معدنية لاعلاقة لها برشوة وصدقة، بل تؤرخ حقبة تاريخية أن هذا النقد كان موجودا. وينطبق هذا أيضا على الكتابة الهيروغليفية، ولغة المايا لولا حماقة الأسبان في تدمير آثارهم فلم يحل لغزها حتى اليوم.

ثم نأتي إلى بعض الإفكار العجيبة في قصة نوح عند الشحرور حين يختار طريق اللعب بالكلمات، وهي قصة قديمة شرحها الفيلسوف النمساوي (فيتجنشتاين Wittgenstein) أنها لاتوصل إلى الحقائق قط.

والآن لنقف أمام بعض المزحات من كلام الشحرور وسنعتبره نوعا من الطرافة لتحلية البحث والابتسام معها؟ فما هي ؟؟

مات الشحرور عند الأعراب في أبو ظبي حيث مركز الدراسات الاستراتيجية لحرب الاتجاهات الإسلامية، وبناء العلمانية العربية الجديدة بدين تفوح منه رائحة الديزل. وأوصى بنقل جثمانه إلى قلعة البعثيين ولايستبعد أن يصلي عليه البراميلي كما صلت (كريستيان لاغارد) مديرة الصندوق الدولي في جنازة نيلسون مانديلا في 13 ديسمبر 2013 ووصفته (قائدا شجاعا وصاحب رؤى) بعد أن أخبرنا (ارنست فولف) في كتابه عن (صندوق النقد الدولي ص ـ 75 سلسلة عالم المعرفة رقم 435) أن ثمن إطلاق مندلا من محبسه كانت خيانة حزبه والتستر على المافيا البيضاء التي تمسك بالبلد، ومن يريد الإنصات إلى أسرار التاريخ فليذهب وليقرأ كتاب (ستيفان تسفايج) عن (ساعات القدر في تاريخ البشرية).

يقول الشحرور أن   ابن نوح أولا ليس ابنه بل كان الأب النبي (ديوث) عفوا من التعبير يدخل الرجال على امرأته؛ فتحبل من أحدهم فيولد ابن نوح ولا يعلم نوح؟كيف وصل شحرور إلى هذا المعنى قال ـ وباللعب في اللغة السحرية ـ أن الولد غير الابن؟؟ لنعتبرها مزحة لا أكثر!

لننتقل الان إلى نكتة سمجة أيضا ولنضحك قليلا؟

قال من حمل نوح في السفينة كان الكافرون والمؤمنون؟؟

بكلمة ثانية نسف كل المعنى الذي بدأ فيه نوح رحلته بتدمير كل بنية المجتمع الوثني فلا يترك على الأرض منهم ديارا.. عفوا .. عفوا إن نوح لم يدعو عليهم إلا بعد مسرحية الطوفان ؟؟ لماذا ؟؟ الجواب خاف من الانتقام ؟؟ عجيب إليس كذلك ..

إنها اللعب باللغة وهي لعبة رائعة يمكن أن نصل إلى أي شيئ فيها.. (راجع صفحة 675 حتى  690 من كتابه القرآن والكتاب). فار التنور معناها حمم بركانية، ومن غرق منهم ساقهم الماء إلى فوهة البركان (كان شاهدا أنثروبولوجيا على ماحدث)، كان الرجل يصور الحدث بكاميرا ديجتال! والبنين تعني البنيان وليس الذكور، وقد يكون معناها البنان؟ والنساء لاتعني النساء بل النسيئة التأخير (سورة آل عمران الآية زين للناس حب الشهوات من النساء) وقد تعني النواس والنوسة لاندري؟ وأرذل العمر لاتعني الشيخوخة بل التوقف عن العلم عند سن 25؟؟ وامرنا مترفيها تعني زادوا؟ والفرار لايعني الفرار بل خرق العرض؟ وجهارا لاتعني الجهر بل اللطف. ولايضربن بأرجلهن تعني الستربتيز. إن قصص الشحرور تذكرني بقصة الملا الكردي الذي كان يفسر نصا من الفقه، وينقله من العربية إلى الكردية..

يقول النص إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حية يبقى السمن حلالا!

قال الملاالكردي للتلامذة بدقة (في اللغة الكردية باللفظ ويدركها الأكراد من قرائي= اجر ميشك كت رون آف رون حلال) إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت ثعباناً (انتبه لكلمة حية وحية)؟يقف طالب نبيه فيسأل يا ملا كيف دخلت فأرة وخرجت ثعبانا؟ يصيح الملا به اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر. والشحرور عنده هذه القدرة من تحويل الفيران إلى ثعابين وديناصورات؟

ويبقى عمر نوح وهو الأمر الذي لم يخوض فيه الشحرور، وكان سيمتعنا جدا لو وقف وقال؛ إن كلمة ألف سنة تعني مائة عام، وبالتالي فنوح عاش خمسين سنة، وهو متوقع من قصر العمر في تلك الأيام المحاطة بالحروب والمجاعات ونقص التغذية؟ وليس فتح البوابة كما فتحها العلم عن أسرار طول العمر بعد كشف الكود الوراثي عند الإنسان، فهذه لايمكن للغة أن تلعب فيها؟؟ على كل رجع الشحرور وراجع كتب نبوخذ نصر وقال أن ملوك الزمان في ذلك الوقت عاشوا كذا من الأيام وببالتالي نوح لم يعمر فترة عشرة قرون ويزيد. عفوا يمكن للشحرور أن يغني مثل الشحارير فيخرج كل شيء من الأنغام؟

إن منهج الشحرور يمكن وبواسطة السحر اللغوي أن يفتح لنا ابوابا لانهاية لها من المسرحيات المسلية. والآن إلى المنهج التاريخي الوقائعي، الذي يحاول فهم قصة نوح ومكانها في التاريخ، ومحاولة الإجابة على الأسئلة التي بدأنا فيها البحث خارج لعبة اللغة ومنها عمر نوح.

القرآن والتاريخ:

لايوجد كتاب اعتنى بالتاريخ وسننه واعتبره مصدراً للمعرفة مثل القرآن، ولايوجد كتاب في تاريخ الجنس البشري أكد على مفهوم القانون وسنة الله في خلقه كما فعل القرآن، ولايوجد كتاب وقف عند حوادث تاريخية بعينها يتكيء عليها ويستفيد مثلما جاء في القرآن. وبالمقابل لاتوجد أمة لم تستفد من كل هذه الثروة العقلية كما فعل المسلمون، في استعصاء عقلي عنيد غير مفهوم وغير مبرر ولاعقلاني جداً، حرَّكها من خانة دول المقدمة والعظمى والمركزية، الى خانة دول التخلف والقاع والاتباع والمحيط والاطراف، في لغز يحتاج فك طلاسمه الى بحث تاريخي عقلاني موسع لاكتشاف بدايات وآليات الخلل.

ثلاث مفاهيم تأسيسية:

فهذه ثلاث مفاهيم تأسيسية في جدلية القرآن والتاريخ.

اعتبر القرآن أولاً التاريخ ليس مجرد حوادث تائهة طائشة عشوائية، لايضمها خيط، ولاينتظمها قانون، بل نظر الى التاريخ أنه تدفق وصيرورة، تمسك حركته مفاصل سننية، وتنير طريقه واتجاهه نواظم كونية غائية عظمى.

واعتبر القرآن ثانياً التاريخ مصدراً للمعرفة، تماماً مثل الطبيعة والنفس، فهذه الحقول الأولية هي كلمات الله الأساسية، والنسخة الأصلية من كلمات الله، التي لاتقبل التزوير والتحريف والتبديل والتأويل المضطرب، والتفسير اللاعقلاني، فصخرة أو جبل، شجرة أم نهر، هرم فرعوني أم سور الصين، نقش مسماري أم هيكل عظمي، أدل على نفسه بنفسه من أي نص كتب عنه، مهما كان مصدره.

وثالثاً وقف القرآن أمام أحداث تاريخية بعينها، يعتمدها كمقارنة؛ بين مايولد من بطون الأيام الحبالى، وما بين الحق الذي جاء به.

هذا العرض المقارن يفتح الطريق أمام علوم قرآنية قد قصَّر العالم الاسلامي حتى اليوم في تأسيسها، لإنه شخر عبر القرون، وانفك عن الواقع، فكما رسخت ورست واستوت علوم، من أمثال القراءات والتجويد والأحكام والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، فإن الطريق لم يعبد بعد أمام دراسات من طراز الدراسات التاريخية القرآنية المقارنة، التي سنشرح طرفاً من طبيعتها في نماذج قادمة.

وهكذا فإن ينابيع القرآن المعرفية لن تنضب في شق الطريق الى فضاءات معرفية متجددة. هذا إذن هو المفتاح للدخول إلى النص القرآني باعتماد العلوم الإنسانية المساعدة. وليس باللعب بالكلمات.

التاريخ يتحرك وفق قوانين نوعية

التاريخ إذاً يتحرك وفق قوانين نوعية، والتاريخ مصدر للمعرفة، والتاريخ دراسة مقارنة؛ فهذه محطات عقلية تأسيسية للمعرفة، ومفاتيح كبرى لحركة تجديد العقل الاسلامي، وإضاءة القرآن على نحو غير متوقع. هذا التوجه في القرآن كمفتاح لبناء العقل السنني، وتوليد العقل الاستدلالي، وتهميش وتحييد الاسطوري والخارق والخلاب، ودخول الباب لفهم أحداث التاريخ وفق قوانين تحمل إمكانية وكمونية التكرار في سياق كوني منتظم، والإشارات القرآنية لإحداثٍ تشكل مفاتيح لفهم حركة التاريخ الانساني بانعطافاتها المصيرية، في مثل قصة يوسف في القرآن، والعصر الذي عاش فيه، ولماذا استخدم القرآن لفظ (الملك) ولم يستخدم لفظ (فرعون) ويراجع في هذا سورة يوسف حيث تكرر استخدام كلمة الملك على لسان يوسف، في حين استخدمت لفظة فرعون على لسان موسى، مما يوحي بعصرين مختلفين لنظامي حكم متباينين، ونحن نعرف أن مصر تعرضت لاجتياح عسكري من الشرق الأوسط على يد الهكسوس، الذين جاؤوا من سوريا الحالية بتقنية حربية متطورة، باستخدام الحصان والعربة الحربية، ولم يكن الدولاب معروفاً عند المصريين بناة الإهرام، فكل حملة بناء الاهرامات تمت بدون عربات أو عجلات أو حصان، كما لم يكن الحديد وتصنيعه أو الاسمنت قد أصبح في متناول اليد، وإنما اعتمدت عضلات الانسان وذكاءه، واستمر حكم الهكسوس ربما 150 عاما إن لم يكن اكثر؛ صعد يوسف فيها الى منصب حكومي رفيع يعادل رئيس الوزراء الحالي، وتم طرد الهكسوس لاحقاً على يد المصريين من الجنوب، بعد التمكن من تقنية الهكسوس على يد بسماتيك، وانصب غضب الفراعنة على الطابور الخامس العبراني الذي انتشر وتكاثر في زمن حكم الهكسوس عدداً وثراءً ونفوذاً، يكفي أن نعرف لاحقاً أن أحد أغنى أغنياء العالم كان عبرانياً هو قارون، ولكنه كان متعاونا مع السلطة الفرعونية على حساب معاناة الشعب العبري، كما جاء في التعبير القرآني (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم)

ويدخل تحت هذا المضمون الهزيمة العسكرية الساحقة التي مني به الفرس، في مطلع الربع الأول من القرن السابع الميلادي، في سلسلة تطاحن عسكري، من نوع الحروب العالمية في العصر القديم، يجعلنا نفهم لماذا وفي هذا الوقت بالذات وفي هذا المكان بالتحديد، في فك أسرار التساؤلات العقلية الخمسة لماذا ؟ كيف ؟ متى ؟ أين ؟ ومن؟

ويراجع في هذا سورة الروم (غُلِبَتْ الروم = بالضم والكسر ُ أي قهرت بيزنطة وهزمت) وسوف نرى أيضا في بعض هجومات الاستشراق (مثل كتاب مخطوطات القرآن) تلك التي يزعم بها صاحبها الذي يحمل اسم عيسى (المسيح) وخلفه مؤسسات مالية عملاقة يقول فيها أنها (غًلَبَتْ= بالفتح والفتح حيث يصبح المعنى مقلوبا بالكامل بين أن يَغْلِب أو يُغْلَب أي أن بيزنطة هي التي انتصرت) وهنا ينقلب المعنى مدورا، ولكن السياق هو الذي يحكم أين ترسو الآية بين أن يكون الفرس قد أطيح بهم أو الروم؟ فالآية تقول أن الروم يُهْزَمُون ثم ينتصرون وفي ذلك الوقت يفرح المؤمنون لأنهم آهل كتاب وليسوا وثنيين.

نفس القصة والقانون ينطبق أيضا على الاية التي ذهب لها الشحرور في قرآنه الجديد أن معنى النساء ليس النساء بل (نسيء) في محاولة متعثرة بل ومدمرة للنص القرآني، وهي محاولة مكررة منه لكثير من أيات القرآن، فيما يشبه وضع لغم أرضي تحت النص القرآني لنسفه بالكامل؛ فهو يريد أن ينقذ المرأة بزعمه أن تكون متاعا فيقول إن كلمة النساء هنا لاتعني النساء بل (نسيء) (انتبه ليس من الإساءة) ! ويمكن أن تراجع الآية في أول سورة آل عمران، ثم استعراض 57 موضعا في القرآن الكريم وهي تذكر كلمة النساء، وموضعين لكلمة النسوة، ولنتصور أن فرعون في آية يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم أن الآية تقول ويستحي نسيئهم ! أو الاية يانساء النبي تعني يانسيء النبي! أو الآية تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم أنها تعالوا ندعوا نسيئنا ونسيئكم. إنه السخف لا أكثر ولا أقل.

ومنه يقول القرآن أيضا في سورة آل عمران وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وماهو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.

إنها محاولات خايبة مدمرة لتوليد قرآن جديد ليقولوا هذا من عند الله. وعلينا أن نفهم أن الحرب ضد الإسلام تلك التي تدشنها مراصد الصراع الفكري (بتعبير مالك بن نبي) هي من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان عن الفتنة وهو حديث جدا جميل علينا تذكره دوما، ونحن نواجه قرآين جديدة بتأويلات تزعم أنها تدافع عن القرآن، وهي يجب أن تفعل هذا لتكون مثل الحرباء. تتلون كما قال إقبال عن مناة أنها شابة فتية في كل عصر. (تلون في كل حال مناة شاب بنو الدهر وهي فتاة).

أما الحديث فهو:  كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وآله وسلم- عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ{نَعَمْ}، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِك الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟قَالَ: {نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ}، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُه؟ قَال:{قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَديِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ}، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْد ذَلِكَ الخَيْرِ مَنْ شَرٍّ؟ قَالَ: {نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْها قَذَفُوهُ فِيهَا} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: {هُمْ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِألْسِنَتِنَا} قُلْتُ: فَمَا تأْمُرُنِي إِن أَدْرَكَنِي ذلك؟ قَالَ: { تَلْزَمْ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإِمَامَهُمْ} قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَام؟ قَالَ: {فَاعْتَزِلْ تِلْكِ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَ المَوتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.

مع كتابة هذه الأسطر قامت قيامة الشحرور فهو في دار الحق يواجه ربه. الشحرور  صاحب كتاب القرآن والكتاب وأن الكتاب غير القرآن. ونحن بهذه الأسطر نضع فكره تحت مسبار النقد ولايهمنا جثمانه. وكثيرون ممن قرأوا لي اختلط الأمر عليهم. فنحن هنا لسنا في صدد الشماتة بالرجل بل نرجو له الرحمة كما علمنا القرآن: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا!

والنقد الذاتي هو صادم موجع ولكن لابد منه من أجل تقطير الوعي في عيون النيام والغافلين، أو أنصاف الأميين من متلقي ثقافة المشافهة من اليوتيوب.

ومن أجل رسم خارطة طريق لكيفية الوصول إلى محاولة الوصول إلى فهم التاريخ والنصوص، لابد من اعتماد ماسميته (الأدوات المعرفية المساعدة). فنحن حين نأكل، أو نجري عملية جراحية، أو نبني بيتا؛ فنحن أمام أدوات نستخدمها من ملعقة وشوكة وسكين في الطعام، ومبضع وملقط وكاوي كهربي في الجراحة، ومثلها في بقية المهن والنشاطات الإنسانية، فعلينا استيعاب هذا الأسلوب في الوصول إلى درك الحقائق أو هكذا أزعم. ولأن مصدر القرآن هو المطلق فيجب التقدم إليه بإدوات شتى في محاولة متواضعة من الاقتراب من فهم النص أو هكذا أزعم.

يقول الفيلسوف (ليسنج): لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يمناه والبحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم خيرني؟ إذن لجثوت على ركبتي متواضعا وقلت يارب بل أعطني التي في يسراك لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك.

وعلى هذا النسق ينقل عن الشافعي من تراثنا في الجدل العقلي إنني على حق ويحتمل الخطأ وأنت على خطأ ويحتمل أن تكون على حق.

ومما أذكر من مجلة 15 ـ 21 التونسية نقلهم لاثنين من تراثنا أقبلا على الحوار فقال أحدهما للآخر هل لك في المناظرة؟

قال الآخر نعم ولكن على عشرة شروط: أن لاتغضب ولاتعجب ولاتشغب ولا تجعل الدعوى دليلا ولا تقبل على غيري وأنا أحاورك ولاتجوز لنفسك تأويل آية ونص على مذهبك إلا جوزت لي تأويلها على مذهبي وأن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف وعلى أن يكون سعي كلا منا أن يكون الحق ضالته والرشد غايته.

وفي المغرب اقترح علي صديقي خليل من الجديدة أن يقيم موسما للمناظرة مع مفكر مغربي ينادي بالانفتاح العقلي وتحريك المرض العنصري؛ فكما كان المرض في الشرق من شيعي وسني وكردي وعلوي وتركماني فهو في المغرب أمازيغي وعربي، وهو مرض سرطاني قاتل.

وبالطبع فهناك من يخرج رأسه ويعلن هذا، ولكنهم لايتمتعون بدهاء نموذج آخر في الصراع الفكري. وفي القرآن أن الانحرافات ثلاث: كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، وأن يشتري به المثقف ثمنا قليلا، كما هو في الحال في دول (الجازوال) التي تنفق على الحرب بمال منهمر، وفي مؤسسات مشبوهة تحمل أسماء من نوع (مؤمنون ولكن بدون حدود)، كما هو الحال في صاحبنا الشحرور الذي يرى البوذي والمسيحي أنه مسلم. وهو خلط لم يقل به القرآن، ولكن قرآن الشحرور قابل للتلون بكل لون طالما كان اللعب بالكلمات ممكنا، كما في كلمة نساء الموجودة في القرآن في 59 موضعا ليقول أن معنى النساء ليس نساء بل (نسيء) فكل كلمة تعني ولا تعني أي شيء! الآن لنتصور أن القرآن يقول يانساء النبي (أنها يانسئ النبي) ويمكن للقاريء أن يجرب المواضع الخمسين ويطبق عليها قواعد القرآن الشحروري.

ألا إن الحرب الفكرية أكبر بكثير مما نتصور تقودها المخابرات العالمية وبإماكن تنطق بلغتنا من أجل توليد الثورة المضادة وتكريس الطواغيت في عالم العروبة المريض.

وصديقنا الشحرور دخل على النص القرآني بأداة اللغة فكان مثل حاوي السيرك يخرج أرانب بيضاء من القبعات السوداء. ونحن في الطب إذا أردنا معرفة قصور الدرق أو نشاط البروستات أخذنا عينة من دم المريض فعرفنا أنه مصاب بخمول في الدرق، أو هورومون (PSA) لمعرفة الميل للتسرطن. وكذلك سوف نفعل بعينات من الدم الثقافي عند صديقنا الشحرور.

أيضا هنا ثلاثة أفكار جوهرية في مناقشة الرجل.

ـ أولها الإنصاف لأي فكر واحترامه كائنا من كان ولو كان من صديقنا الماركسي شحرور. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل إنسان له دينه الذي ينتسب إليه.

ـ وجرت العادة عندنا نحن الأطباء أن نتتبع قصة المرض والمريض بمعنى معرفة سيرة هذا الرجل ومن اين نبع. أنا شخص اعرف الساحة الفكرية العربية والسورية جيدا أو هكذا أزعم وأعرف المفكرين الإسلاميين وعلماء الفقه والشريعة والساحة الفكرية لست عنها بغافل ولذا كما يفعل الإطباء علينا تتبع سيرة الرجل وهو ماسنفعله في حلقة خاصة في البحث.

ـ الأمر الثالث أن مراصد الصراع الفكري كما يسميها ماللك بن نبي تخوض حربا ضروسا. ليس النظام السوري المافيوزي واحدا فيها بل هناك مراصد للصراع الفكري ومعاهد للدراسات الاستراتيجية تتبنى الرجل. وعندما سألتْ ابنتي هل هو غافل عنها؟ قلت لا أظن فالخلفية الفكرية التي يحملها هي في أعماقها كارهة للإسلام ومحاربة له. ولكن طرق الحرب اختلفت فنحن في ساحة حرب فظيعة وقودها الناس والحجارة والأسلحة والأفكار الشريفة وغير الشريفة؛ فالكل سواء  عند أئمة الاستكبار العالمي، وإلا كيف نفهم قتل مليون سوري، وتهجير نصف الشعب.

وأمام هذه الأحجار الثلاثة علينا أن نفهم أن اللعبة أكبر بكثير من المغفلين من أنصاف الأميين الذين يتثقفون مشافهة باليوتوب. ولذا سوف نحاول أن نستعرض طريقة خاصة في محاولة الوصول إلى درك الحقائق، أو هكذا أزعم، وهي اعتماد الأدوات المعرفية المساعدة وليس اللعب بالكلمات كما قال يوما الفيلسوف النمساوي فتجن شتاين (Wittgenstein) أن اللغة لاتزيد عن لعبة.

نتابع في الدراسة المقارنة بين منهج الشحرور باللعب بالكلمات، وبين استخدام الأدوات المعرفية في هدف الاقتراب من فهم الوقائع ومنها هذا التطبيق الهام لفهم التاريخ.

الدقة في التقدير الميتافيزيقي التاريخي:

لماذا يبزغ عصر الاسلام في هذا الوقت والمكان على وجه الدقة؟ في تقدير ميتافيزيقي؛ يجلي التاريخ بعضاً من أسراره التاريخ بعد حين، فلو انبثق الاسلام قبل قرن من ولادته لعاصر قوى مختلفة وامبراطوريات متماسكة نسبياً. إذن لانستطيع أن نفهم شروق شمس الاسلام بدون فهم تاريخي (راداري) معمق، يعرف أن خروج الاسلام في هذه اللحظات التاريخية، سوف يواجه امبراطوريات محطمة واهنة، استنزفتها حروب مدمرة، فقام الاسلام يكنس بقايا حطام الامبراطوريتين في الشرق الأوسط، أكثر منه مواجهة هذه القوى. لايمكن فهم مثل هذه الأمور بدون التشبع بالوعي التاريخي، وإن العرض الذي قام به المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه تاريخ البشرية يعطي تصورا عن الوضع، بحيث يمكن فهم دلالة الآية القرآنية (الله أعلم حيث يجعل رسالته فهذه التساؤلات تفتح الطريق لإدراك أنعطافات التاريخ المصيرية.

في مواجهة أعظم حضارة في العصر القديم:

وتشكل قصة موسى عليه السلام نموذجاً مختلفاً وهو يواجه أعظم حضارة في عصره؛ أمريكا العصر القديم، وهو واضح التصور ودقيق العبارات مع فرعون، أنه لايريد تغيير المجتمع المصري أو التبشير فيه، وكان يمكنه أن يفعل ذلك، فهو صاحب رسالة.

كانت كلماته واضحة وعباراته مقتضبة أن أرسل معي بني إسرائيل، ليس لإن سدس الشعب المصري، الذي هو كتلة الشعب العبراني، في أسفل قاع المجتمع يؤدي دور الآلة العضلية للإنجاز الحضاري بتنظيم عقلاني فرعوني. ليس لإن موسى عليه السلام يتوقع منه إذا خرج به من أرض مصر، سيكون ذلك الشعب وتلك الأمة التي يبني عليها الآمال. إن موسى أوعى من أن يقع في مثل هذا الفخ، مع جيل اعتاد ضرب السياط على ظهره، وأخلاق العبودية.

إن هدف موسى لن يظهر واضحاً في مصر، بل سيكشف عنه النقاب بعد العبور، ومشاكله من صناعة عجل الذهب، والتعدي على هارون أخيه، وارتكاب الفواحش، والحنين الدائم لرائحة البصل والثوم المصري، فجهازهم الهضمي لم يتعود الطعام المريء الممتليء بالبروتين والعسل (المن السلوى) بل مازالت الأمعاء معتادة على الخضراوات المصرية ، كما لم ينفعهم، لاسيل المعجزات التسع في مصر، ولاتشقق الصخر في الصحراء فيخرج منه الماء، أو تحريك السحب والغمام  تظللهم من حر شمس صحراوية لاهبة.

كان موسى ينتظر أن يدفن هذا الجيل في الصحراء، كي يخرج من ذراريهم خلال أربعين سنة جيل صحراوي جديد خشن، لايعرف الا لفح الشمس، والهواء الطلق، واليد العاملة، والحرية والكرامة، في نموذج جديد مختلف جداً عن جيل العبودية في مصر.

كان جيل العبور إذاً ليس الأمة التي أرادها موسى، بل كانت المادة الخام، التي سوف تفرز الجيل الجديد، الذي لن يعاصره موسى، بل يشهد تهيئته فقط، ليتحرك به يشوع باتجاه الأرض المقدسة.

وتبقى في النهاية قصة الطوفان الذي يدشن لأحداث كونية مفزعة من حجم جراحات مناخية لطوفان لايبقى ولايذر، وموت جماعي بالغرق لإمم كاملة، كي يحمل قبطان العالم الجديد النبي نوح عليه السلام، البذور الصالحة من بقايا العالم القديم المهدم، كي يبني عالماً جديداً مختلفاً.

هل الدُسر هي المسامير؟

استوقفتني في سورة القمر منذ فترة طويلة لفظة (دسر) أفادتني بعض كتب التفسير أنها المسامير المعدنية، فنوح عليه السلام نجار فهو يهيء السفينة لينجو من الغرق الأعظم، بألواح من خشب ومسامير وقار، ولكن المسامير تعني اكتشاف الحديد وتصنيعه، وهذه لم تعرفها الحضارة الفرعونية مثلاً إلا في القرن الثامن قبل الميلاد. وبقايا الفراعنة لم تقدم لنا مادة في طوفان من حجم كوني ضرب الحضارة المصرية، ولكن ملاحم وأساطير بلاد الرافدين نقلت بشكل واضح ومكرر، عن ظاهرة طوفان كوني مريع من حجم فلكي حدث في المنطقة، فهل كان الطوفان ياترى فقط في منطقة محددة يجب التنقيب عن حدودها؟

ظهر هذا واضحاً في ملحمة جلجميش التي كشف النقاب عنها البحث الاركيولوجي من مكتبة نبوخذ نصر الآشوري، في بقايا مدينة نينوى، مدينة الموصل العراقية حيث ظهرت مكتبة عملاقة صفحاتها ألواح من الطين قد حفر عليها مايشبه عمل المسامير، مما جعلها تأخذ لقب الكتابة المسمارية ، المكتبة الآشورية هذه أشارت بشكل واضح الى طوفان أهلك الحرث والزرع والنسل، ولم يُبق على شيء في منطقة بلاد الرافدين.

منذ الألف الثالثة قبل الميلاد استقر في الوعي الجماعي الانساني قصة طوفان مهول عم المعمورة. تم الكشف عن هذا في حفريات نينوى في منتصف القرن التاسع عشر، على يد شاب انجليزي اسمه اوستن هنري لايارد  AUSTIN HENRY)  LAYARD)  كان في طريقه، في رحلة سياحية باتجاه سيلان عام 1839 م، فأثارت انتباهه حفائر نينوى (الموصل في شمال العراق الحالي) مما جعله يصل لاحقاً الى الكشف عن تراث أدبي حافل من مكتبة الملك (نبوخذ نصر) باللغة الآشورية، فيها إشارة الى قصة الطوفان، وكان (هنري رولنسون) الذي كان يعمل ملحقاً عسكريا في السفارة البريطانية في إيران، ثم المقيمية البريطانية في بغداد لاحقاً ، قد فك أسرار اللغة الفارسية القديمة من النقوشات التي حفرها الملك الفارسي (دارا الأول) على حجر (بهستون) في كرمان شاه، ويشبه كشف حجر رشيد في إثارته وأهميته، الذي فك ألغازه (شامبليون) الفرنسي في جهد استغرق عشرين عاماً، واخترق الحضارة الفرعونية فأنطقها وبعثها الى الحياة تروي سحر القرون. هذا هو أسلوب فهم التاريخ وليس اللعب بالكلمات التي قد تفيد كل شيء أو لاشيء على الإطلاق؟

الزلزال الذي يعصف بالمنطقة ليس من طبيعة جيولوجية بل فكرية. حاليا في دول الخليج الأكثر تشددا تحصل ردة مخيفة ولأمور كانت في السر فقفزت إلى العلن، وهي تخضع لقانون رد الفعل؛ بفارق أن ردود الفعل الاجتماعية تختلف عن قوانين الميكانيكا. كما أن الإسلام يعاني من ثلاث مخاضات مخيفة، وهي تذكر بالعصر الذي عاشه أبو حامد الغزالي حين كانت الزحوف المغولية والصليبية تعصر المنطقة بين المطرقة المغولية والسندان الصليبي. ولم تكن دولة بني صهيون قد ولدت بعد. ويقول في هذا (محمد عبدة) أن المنطقة حين تنفست الصعداء كان ارتخاء مريضا لأن الغارة التي بعدها ستكون أِشد هولا. حين تم استعمار معظم العالم الإسلامي من الهند حتى المغرب.

نحن حاليا مبتلون بثلاث بلايا: الفكر العلماني الذي يقول بالقطيعة المعرفية، أي أن كل متعلقات الإسلام أصبحت للتاريخ، يمثل هذا اتجاه أركون الجزائري وليس الوحيد. والثاني تيارات الخوارج الدموية الجديدة (داعش) التي تفرز نموذجا يخدم أعداء الإسلام أكثر من الإسلام. وهناك تيار خفي لكنه أشدهم خبثا كما هو الحال في السرطان. أو مرض الايدز بالفيروسات القلوبة أو العكوسة (HIV = Retrovirus). قد يتساءل القاريء وماهي الفيروسات القلوبة أو العكوسة؟ حين أعلنت وزيرة الصحة الأمريكية عام 1982 م عن المرض للمرة الأولى كان الظن أنه مرض بسيط سوف يتم تحديد هويته والقضاء عليه كما تم استئصال الجدري من كل العالم عام 1977م حين أعلن عن آخر حالة في الصومال.

لفهم ملعنة وخبث فيروس الأيدز علينا فهم الآلية الأمراضية لاندلاع الأوبئة؟ فالجراثيم المعندة سابقا ومعها الفيروسات تهاجم الجسم وتدخل إلى الأخلاط الداخلية فيستنفر الجسد نفسه ويقضي عليها. أما فيروس الأيدز فهم يدخل بنية الخلية حيث الكود الوراثي (DNA) فيصبح قطعة منه. هنا يقوم الجسم المسكين بالتكاثر وهو يحمل معه الفيروس مخبئا وكأنه قطعة من تركيب الكود الوراثي.

الطريقة الثالثة الجديدة في تدمير بنية العقل المسلم ليس بالتطرف المجنون ليعطي تطرفا إباحيا كما يحصل في دول النفط. كما أنه ليس في مواجهة واضحة كما في العلمانيين جماعة القطيعة المعرفية وأن تاريخنا هو ظلمات بعضها فوق بعض. بل الدخول إلى بنية القرآن وهو ماتبقى لهم بعد الهجمة على الحديث النبوي وتلغيمه من الداخل ونسفه. فهذه هي طريقة الشحرور التي زعم فيها أنه سيأتي بقرآن أخر للقرآن يبدله بدون تبديل. وهي طريقة خبيثة مدروسة تماما في مراصد الصراع الفكري في المنطقة، وتقودها مؤسسات تنفق بمال منهمر لتوليد فكر جديد هو قرآن بدون قرآن، أو حركات إسلامية كما في (اللامؤمنون بدون حدود عفوا مؤمنون بلا حدود). وهو أيضا حسب مفاهيم الشحرور أن المسلم ليس هو من نعرفه بل كل أصحاب الديانات مسلمون فهناك المسلم البوذي والكونفوشيوسي بل والشيوعي أيضا. والطريق لذلك هو أن نأتي بكلمات القرآن، ونقول هذا من عند الله وهو ليس من عند الله. تأمل معي الآية من سورة آل عمران: وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بالطبع علينا أن لاننسى في النهاية أبطال الإعجاز العلمي الذين يريدون خياطة فكر انتهت صلاحيته وهو مايسميه مالك بن نبي الإفكار القاتلة والأفكار الميتة.

حاولت أنا الانتباه إلى الدخول على القرآن الكريم في مشروع ضخم من أجل وضع مدخل جديد لفهمه وبين يدي هذا النموذج الذي تحدثنا عنه في الأبحاث الاركيولوجية وهكذا فمثلا رولنسون فعل نفس الشيء مع حجر دارا بجهد استغرق اثني عشر عاماً، اضطره أحياناً أن يشد نفسه بالحبال ويتدلى مثل القرود على ارتفاع 300 قدم، معرضاً نفسه لأشد الأخطار في نهم علمي لايعرف الاشباع، دفعه لمتابعة عمله في العراق، ليميط اللثام عن القصة الكاملة للطوفان، من خلال مكتبة مكونة من خمسة وعشرين ألف لوح من الطين المحروق قد نقشت فيه حروف غريبة بمايشبه وخزات المسمار مما جعلهم يسمونها اللغة المسمارية.

ومما جاء في اللوح الحادي عشر من  المكتبة الآشورية وصف رهيب للطوفان:

(هبت الرياح ستة أيام وست ليال طغى السيل والعاصفة والطوفان على العالم . ثار السيل والطوفان معاً كالحشود المتحاربة. وعندما أشرق اليوم السابع انحسرت عاصفة الجنوب، هدأ البحر وسكن الطوفان، نظرت الى سطح العالم وقد ران عليه الصمت، أصبح البشر كلهم طينا.

كان سطح البحر يمتد مسطحاً كسقف البيت، فتحت كوة فسقط النور على وجهي، عندئذ انحنيت طويلاً، جلست وبكيت، جرت الدموع على وجهي، إذ كان الماء طاغياً في جميع الأنحاء.

عبثاً تطلعت بحثاً عن الأرض، ولكن على مبعدة أربعة عشر فرسخاً ظهر جبل، وهناك رست السفينة، ثبتت السفينة على جبل نيصير، ثبتت ولم تتزحزح(( ملحمة جلجميش ( THE EPIC OF GILGAMESH ) حققها ونقلها الى الانجليزية ن . ك . ساندرز ( N . K . SANDARS  ) ترجمة محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ قاضي ـ  دار المعارف بمصر ـ ص 90)ولعل اليهود من سبي بابل حملوا معهم هذه الأساطير فجاء ذكرها بشكل واضح في العهد القديم، باختلاف أن المياه التي تدفقت لم تكن أسبوعا، على الرواية الكلدانية للطوفان، بل دام تدفق المياه أربعين يوماً، وهكذا تم تسجيل طوفان مرعب في الذاكرة الجماعية للجنس البشري.

رواية العهد القديم:

وإذا كان الطوفان في ملحمة جلجميش قد استغرق اسبوعا من تدفق المياه بدون توقف، فهي في العهد القديم أربعين يوماً، وبالطبع لايمكن مقارنة الدقة والبلاغة الموجودة في القرآن مع النص الذي سنورده

نتابع الجدل حول طوفان نوح لنفهمه بصورة أكبر من اللعب بالكلمات للوصول إلى درك الحقائق. فلقد جاء في العهد القديم ـ سفر التكوين ـ الاصحاح السابع ص 13 مايلي:

"وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض . وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض . وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا ًعلى الأرض. فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض. فتغطت جميع البلاد الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه. فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات التي كانت تزحف علىالأرض وجميع الناس. كل مافي أنفه نسمة روح حياة من كل مافي اليابسة مات. فمحا لله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس والبهائم والدبابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً"

أما القصة التي يعرضها القرآن لقصة الطوفان فقد جاءت  بعرض يؤكد الخراب المرعب الذي ترتجف له المفاصل، من طوفان تتحرك أمواجه كالجبال، وتحولت السماء الى مصبات مائية كونية تصب دفعة واحدة، في الوقت الذي تنسطم كل تصريفات الأرض الصحية، ليس لتشفط الماء الى أعماقها، بل لتتدفق المياه منها بشكل مقلوب جداً، في إشارة عجيبة لبدء تنفيذ العملية من تنور هو بالأصل للخبز، لتتدفق منه المياه في مشهد صارخ على انقلاب الحياة العادية بالكامل. في حالة إشباع مائي للأرض لم تعرفه من قبل ولامن بعد.

حدث كوني من هذا الحجم وسفينة معالجة في الغالب بألواح الخشب وألياف (الدسر) تربطها (جاء في كتاب لسان العرب لابن منظور الأفريقي ـ الجزء 4 ص 284 و 285عن لفظ دسر: والدسار خيط من ليف يشد به ألواح السفينة وقال الزجاج كل شيء يكون فيه نحو السمر وإدخال شيء في شيء بقوة ... وفي تصوري أنه إذا تم استخدام مسامير فكانت من نوع الاسافين الخشبية بسبب عدم معرفة الحديد في ذلك الوقت الغارق في القدم) والقار تطلى به لمنع تسرب الماء، كله يشير الى حدث (ماقبل تاريخي)(PREHISTORIC) والمعلومات الجديدة التي تدفقت اليوم من خلال تعاون مجموعة كبيرة من العلماء من خبراء المحيطات والجيولوجيين، التي تنقب كل شبر في الأرض، وصلت في نهاية ديسمبر من عام 1996 م الى اختراق معرفي جديد في قصة الطوفان.

ولايعني هذا معلومات يقينية نهائية، بحيث تركب الآية القرآنية عليها، فهذا فضلاً عن أنه ابتسار للعملية التاريخية، وتهالك على تصديقات لم تقل الأرض فيها كل الحقيقة، ولكنها تنفع في تقريب قصة الطوفان، الذي تحدثت عنه كل الكتب القديمة والاساطير وانتهاء بالقرآن في عملية إجماع غير معهودة لحدث من حجم فلكي، وشهادة لذاكرة جماعية انسانية، تعرضت لحدث كوني غير قابل للمحي من الذاكرة الجمعية. هنا نحن أمام جدل جديد للاقتراب من الحدث. فليس كلمات القرآن هي التي ستقودنا إلى ماحدث بالضبط بل اتباع المنهج القرآني كما جاء في سورة العنكبوت: قل سيروا في الأرض. صديقنا الشحرور قام باللعب على الكلمات كما يفعل حاوي السيرك فيستخرج من القبعات السوداء ارانب بيضاء؛ فأخبار الأرض هي النصوص الجديدة التي تتكلم. كانت النصوص المكتوبة هي التي تتكلم، ولكن النص الجديد الذي تكلم الآن تحدث بلهجة ولسان جديدين: من باطن الأرض، والحفريات وبقايا الرسوبيات، ونحت الطبيعة، وتآكل الشواطيء، وحديث الاوقيانوس، وبقايا الحيوانات المحفوظة في براد الطبيعة.

تروي قصة عجيبة حدثت قبل 7500 سنة في نهاية العصر الحجري، مع العصر الحجري الحديث، بعد الثورة الزراعية وقبل انطلاق الحضارات، عن تحول جغرافي، وانقلاب كوني، وقصة بداية اشتعال زناد انبعاث الحضارات من رقدة المجتمعات البدائية، ففي هذه الحقبة كان الجنس البشري قد شق الطريق الى الثورة الزراعية وبدا في اختراع الأدوات البدائية الأولية، وتكاثر حول بحيرة عظمى في منطقة خضراء غناء هي البحر الأسود، الذي لم يكن يومها بحراً بل بحيرة حلوة المياه، أقل حجما بقليل من البحر الأسود الحالي، وإذا نظرنا الى الخريطة فسوف نرى أن البحر الأسود ينفتح بمضيق البوسفور، حيث تجلس على  حافته الغربية مدينة القسطنطينية التي سيصبح اسمها استانبول، ليفتح بعدها على بحر صغير هو بحر مرمرة، ثم ليضيق مرة أخرى ليشكل المضيق التاريخي، الذي عبره الملك الفارسي (كزركسيس) للهجوم على اليونان المعروف بالهلسبونت: الدردنيل حالياً، أو الذي سيهجم منه الحلفاء على تركيا في الحرب العالمية الأولى، في هجوم خائب على جزيرة غاليبولي، كلف الحلفاء مئات الآلاف من القتلى.

التشكل الجغرافي إذاً بحر مرمرة ومضيقان للأعلى والأسفل؛ الأول البوسفور الذي يشكل عنقاً يتصل بالبحر الأسود، والثاني قناة ضيقة تصل الأسود بالمتوسط.

ولكن قبل ثمانية آلاف سنة لم يكن الوضع الجغرافي هكذا، حيث لم يكن هناك وجود للبحر الأسود، بل كانت بحيرة مفصولة عن المتوسط بعتبة صخرية ضيقة بدون فتحة، تمتد خلفه البحيرة العظمى الحلوة بشعوب تتكاثر على شطآنها، تتمتع بحياة راقية في مستوى شعوب تلك الأيام، بعد أن قفز الانسان من حياة الغابة والجوع، الى انتاج الطعام والتحول من حياة الصيد وجمع الثمار الى الثورة الزراعية، وتشكيل المدينة، وتنظيم العمل  وتخصصاته، وبداية شق الطريق الى الحضارة.

تحول كوني مفاجيء

وفجأة يحدث تحول كوني بارتفاع مستوى مياه المحيطات غالباً من ذوبان جليدي كوني. قبل 7500 سنة بشكل صدمة، مما يحرك مستوى المياه وحركتها، بفعل تغير درجات الحرارة، لتتحرك أمواج عملاقة عاتية قادمة من البحر المتوسط الى مضيق الهلسبونت (الدردنيل) فبحر مرمرة، لتضرب بكل عنف العتبة الصخرية حذاء البوسفور، ثم تحد ث الكارثة ويتم خرق البوسفور، ليصبح مضيقاً سوف تجلس عليه لاحقاً بعد آلاف السنوات من طوفان نوح أجمل عواصم الدنيا.

نتابع في نهاية الجدل بين منهج دراسة التاريخ من وقائع الأرض وبين اللعب بالكلمات؛ فيخسر الواقع حقيقة، ويربح القاموس كلمة على حد تعبير (النيهوم). في الواقع الدخول إلى النص القرآني بفكرة علمانية ثم تلغيم النص القرآني فينسف هي طريقة في غاية الخبث، وربما تعلمها نا الشحرور من المادية الماركسية حين كان في روسيا يدرس على يد أستاذ روسي مستشرق اسمه (خرا  كوفيسكي).

إذن نحن أمام النص إما في طريقة دراسة ماحصل بالنص والكلمات وإما الرجوع إلى التاريخ ووقائع الأرض.

ومن هنا تبدأ قصة الطوفان الذي طرح للنقاش كسيناريو محتمل، الذي وصفه العالمان الأمريكيان اللذان وصلا الى تأكيده عن طريق عمل قامت به سفينة بحث روسية في البحر الأسود عام 1993 م، كل مافيه أنه يشبه طوفان نوح الموصوف بفارق أنه أسوء بكثير مما جاء في الكتب المقدسة، فالماء حسب العهد القديم يرتفع 15 ذراعاً ولكنه في السيناريو الجديد مايزيد عن 150 متراً.

مع مطلع العام  الميلادي الجديد 1997 تم الاعلان عن كشف آركيولوجي مثير تقدم به فريق علمي جيولوجي آركيولوجي أمريكي (العدد الأول من مجلة الشبيجل الألمانية لعام 1997 م ص 138) وقد قدم البحث في نهاية العام 1996 كل من العالمين الأمريكيين (ويليام راين) (WILLIAM RYAN) و(والتر بيتمان)(WALTER PITTMAN) أثار ضجة علمية في نقابة الأبحاث الأمريكية، لبقايا طوفان اجتاح منطقة القوقاز واوكرانيا وبلغاريا والمنطقة المحيطة بالبحر الأسود الحالي، واندفع بكل جبروت، عندما ارتفع مستوى المياه فجأة في المحيطات والبحار قبل 7500 سنة في نهاية العصر الحجري، أو مايعرف بالعصر الحجري الحديث، وكانت منطقة البحر الأسود بحيرة داخلية مغلقة، تعيش على ضفافها قبائل شتى تنعم برغد العيش، طورت نظام الزراعة وشيئاً من الأدوات البدائية، وأمام هذا الاجتياح المرعب لمنسوب المياه صدمت الأمواج العاتية العتبة الحجرية في غرب تركيا لتخرقها وتشكل مضيق البوسفور، ولتتدفق كميات هائلة من المياه وكأنها تغلي في قدر، لتملأ البحيرة بقوة اندفاع وعنف يزيد عن قوة تدفق شلالات نياجارا ب400 مرة، ليتحول البحر الأسود الى مايشبه (البانيو) الذي امتلأ بالماء و (طفطف) من حوافه، بحيث أن المياه زحفت تفترس بغير رحمة حواف البحيرة بمعدل كيلومتر يومياً، لتصل الى عمق مائة كيلومتر عندما هدأ الطوفان، مما جعل المناطق المحيطة بالبحيرة تتحول كلها الى عالم سفلي تحت الماء، ولتغرق مستودعات غلال حبوب الجنس البشري في تلك الأيام، بالماء المنهمر من أبواب السماء، والمتفجر عيوناً من الأرض، كما وصف القرآن، لتغمر مساحة مائة ألف كيلومتر بارتفاع 150 مترا، في حوض مالح اقتلع كل أثر للحياة من المياه الحلوة، التي كانت عامرة تدب بالحياة في أعماقها بما فيها الديدان، كما دلت على ذلك أعمال الحفر وتحليل الرواسب البحرية، التي قام بها علماء المحيطات والاركيولوجيا والاختصاصيين بالاساطير والميثيولوجيا الشعبية، من التي نقلتها  سفينة روسية حفرت في عمق البحر الأسود.

المنطقة الوحيدة التي شمخت ونجت من إعصار الطوفان كانت منطقة القرم، وأما الشعوب التي استوطنت هناك في منطق غناء محيطة بالبحيرة القديمة الجميلة ذات الشواطيء اللازوردية الخضراء، فكانت بين خيار الغرق أو النجاة بالهرب من المنطقة كلها، وكانت هذه الحركة ذات أثر إيجابي كما ذهب الى ذلك العالم الاركيولوجي البريطاني دوجلاس بايلي (DOUGLASS BAILEY) الذي رأى أن هذه الاعصار الكوني بين الغرق والموت الجماعي، وبين الهجرة حذر الموت، قادت الى انتشار تقنية زراعة الأرض، ونقلت بدايات الحضارة الى مناطق متفرقة من الكرة الأرضية، وسارعت في بزوغ الحضارة. فهذا الطوفان المدمر كان زناد الاتقاد لمشعل الحضارة.

بقي أن نقول في آخر المطاف أن حرب الخليج ضد صدام جلبت معها أخبار جهنمية عن أحبار اليهود العلماء، الذين يعيشون على عقلية التوراة قبل 7500 سنة، حيث  تم إماطة اللثام عن أخبار سرية، من تفكير اسرائيلي مدروس بدقة (نشرت هذا الخبر مجلة الشبيجل الألمانية وقتها، حيث إزيح النقاب عنها عندما  وضعت الحرب أوزارها) عندما ازداد وخز  رشق أبر الصواريخ، والاندفاع الى استخدام أسلحة الدمار الشامل، أن يفكروا جدياً في اصطناع طوفان نوح جديد من حجم أفظع هولاً وأشد نكرا، فاستنفرت اسرائيل سلاحها النووي، وخططت لضرب السد العراقي على دجلة،  بحسابات دقيقة، لإنتاج طوفان نوح من مستوى عصري، فلو تم ضرب السد العراقي الواقع في المنطقة الشمالية من بغداد؛ فسوف تتدفق كمية من المياه تكفي لإحداث موت جماعي بالغرق لمليون ونصف من السكان، بحيث تغرق الموصل وماحولها بالكامل، ليصل منسوب المياه في النهاية حذاء بغداد الى حوالي المترين؟‍‍! (بالمناسبة أثناء احتلال داعش للموصل تحركت مخاوف مشابهة)

فأرسلنا عليهم سيل العرم

إن سد مأرب الذي يتحدث عنه القرآن بأن أهله  كانوا يعيشون على جنبه بين جنتين عن يمين وشمال، تحولت بعدها بفعل تدفق سيل عرم الى بقايا من أعشاب جافة وشوك مؤذي وأكل خمط وإثل وشيء من سدر قليل، الذي انفجر عليهم عندما فجروا وحادوا عن الخطة الكونية، بضرب من الذنوب والأخطاء لانعرفها على وجه التحديد، مالم نشق الطريق الى الدراسة المقارنة التي أشرنا إليها؛ فبإخطاء قليلة ينهار السد،  ويندفع الماء المحتقن، يكفي أن يُخرق بمقدار أصبع، وينام الناس عن الخطر ليتدفق عليهم، ومعه انهيار حضارة بكاملها يمزقون شر ممزق تحت رحمة الطوفان.

وأنا شخصيا لم أفهم الآية القرآنية حتى زرت اليمن وسد مأرب الذي بني في موضعه سداً جديداً ولكن أضيق مسافة وبكلفة مائة مليون دولار، وقامت جامعة دارمشتات من ألمانيا بإعادة تركيب خطة البناء السابق بالكمبيوتر والقدرة الهندسية الحضارية التي يملكها أهل اليمن منذ ذلك الوقت، وصليت بجانب السد وقرأت آيات سورة سبأ فانفتحت المعاني تماماً أمام عيني .

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram