انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية (3)

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 )

مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟

يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 )  ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته :

الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ .

والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري .

في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة -  ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات .

يرى مالك بن نبي  أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و   ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان .

إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية .

هوامش ومراجع  

(3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24

 

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram