بين الحب والحرب  

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

يحتفل الناس في يوم 14 فبراير من كل عام بالفالانتين (عيد الحب)، بينما يعيش العالم العربي حالة الحرب؛ وفي عالم الكلمة الفرق بسيط بين حب وحرب، أما في عالم الواقع فالأول حياة والثاني موت. وبسبب غياب المرأة عن «الربيع العربي»، فقد تحول إلى شتاء وأوحال وبرك دماء وموت. 

لقد ترددت في كتابة مقالتي عن الحب، وأنا أرى بلدي سوريا وقد تحول إلى جثة يجري تقطيعها بين القوزاق الروس والفرس والعجم وأحفاد ريتشارد قلب الأسد. فهل من نور في الظلمات؟ فعلاً يجب استحضار الإنسانية في ذواتنا ونحن نشهد موت الإنسان.

لقد سُئِلت امرأةٌ عجوز عن الحب وما معناه، فأجابت: أول مرة سمعت هذه الكلمة كنتُ صغيرةً، وكان من والدي الذي قبلني وقال إني أحبك؛ فقلت الحب هو الحنان والأمان والحضن الدافئ. وعندما بلغت سن الرشد وجدت رسالة من شاب فيها كلمة «أحبك»؛ فعرفت أن هناك من يريد مشاركتي الحياة، وأدركت أن الحب عطاء ومشاركة، والكراهية ارتداد على الذات، وتدمير لها قبل الآخر. وعندما تزوجت كانت أول كلمة قالها لي زوجي: أحبك؛ فعرفت أنها المودة الخالصة من قلب شارك الآخر حياته. وحين غبت عنه قليلاً أرسل لي يخاطبني بكلمة «أحبك»؛ فعرفت أن الحب شوق وافتقاد. وحين ولدت بأول طفلي، جاء زوجي، وكنت متعبة على السرير، فأمسك برأسي وقبلني وقال: أحبك؟ فعرفت أن الحب امتنان وعطف. وحين تقدمت بنا السنون وتقوست الظهر وشاب الشعر التفت إلي زوجي عصر يوم فقال: كم أحبك؟ وحين بدأنا نمشي مستندين على العكاكيز، وكل منا يسند الآخر، قال لي والدمعة في عينه: هل تعلمين كم أحبك؟ فعرفت أن الحب وفاء وصدق.

هناك من تزوجا فأحبا فالتهبا بعاصفة عشق ليس لها قرار. هل الزواج هو إنجاب الأطفال وبناء عائلة؟ والجواب أيضاً إنها نصف الحقيقة، فهناك العديد من الأزواج من دون أطفال، سواء بانعدام القدرة أو الرغبة بعدم الإنجاب، وهناك المطلقات مع كومة أطفال. فما هو الحب يا ترى؟

إن الزواج هو مزيج من العواطف والكيمياء والجنس والإنجاب، وقد اختصره القرآن الكريم بكلمات: سكينة ومودة ورحمة ولباس وحمل وإنجاب. واعتبره آية مثل دورة القمر ونبات الزرع والرياح المرسلات.

ولأن المرأة هي من تذكرنا بالحب، فلأنها تحمل الثقافة والجنين، فتربي الطفل وترضعه الثقافة، وتنقل له اللغة والمفاهيم، فيتحول إلى كائن اجتماعي، ولولا المرأة لبقي الإنسان أقرب للشمبانزي والغوريلات. المرأة هي أم الحضارة ولولاها لما انبثقت الحضارة، وهو كشف تعرف عليه علماء الأنثروبولوجيا. المرأة هي سيدة الجمال الباهر، واللطف والأنس، والشخصية المؤثرة، والثقافة باعتدال وتسامح. سحر المرأة جذب كبار السن، ليبنوا بمن هن أصغر سناً؛ فـ«بيكاسو» سيد اللوحة وأبو السيريالية تزوج من أربع فاتنات كانت الأخيرة منهن في العشرينيات. و«شليمان» الكهل أبو الاكتشافات، لم يشأ أن يضع كنز «بريام» من أنقاض طروادة، إلا على صدر حبيبته الصغيرة اليونانية ذات العشرين ربيعاً. و«سنان» أبو العمران بنى ما بنى جسور الإمبراطورية العثمانية، تزوج في نهاية حياته بشابة صغيرة وهو في الثمانين؛ فأنجبت له غلاماً زكياً. ونابليون وهو في جزيرة المنفى «سانت هيلانة»، آنسته خليلة حملت منه بطفلة، ولدت له في باريس كانت نابليونة. و«سيشرون» أبو الخطابة والجمهورية، أنهى حياته في حضن شابة صغيرة وهو في الستينيات، فمنحته أجمل ساعات حياته في دنيا طوقتها الحروب الأهلية والمؤامرات والدماء تجري كالأنهار

الحب فيض داخلي 

الحب يفيض من النفس بعد معالجة التشظي الداخلي، وتحقيق وحدة النفس داخلياً بتفجير حب الذات أولاً بالصلح الداخلي، من خلال رد الاعتبار للذات واحترامها والاعتراف بها؛ فلا يمكن أن نحب الآخرين قبل أن نحب أنفسنا، ولا يمكن أن نحترم الآخرين مالم نحترم أنفسنا، ونعترف بذواتنا ونتأملها في ضوء جديد، بل ولادة جديدة ، فالانسان بعد الولادة الرحمية أمامها ولادات أخرى.

أشار القرآن اليها عندما قال (أو من كان ميتا فأحييناه) فهذا مؤشر الى أن النفس تقسو (فتصبح كالحجارة أو أشد قسوة) وأن النفس تمرض بمرض (فطال عليهم العمر) وتصل الى الموت بانقطاع (الصيرورة) فالحياة تدفق لايتوقف للصيرورة، ولكن قد يتعفن الانسان فيموت قبل الموت، ويجب أن نفهم الضلال والشقاء كحالة نفسية من موت النفس في الحياة، بتعطيل منافذ الفهم كمصادر تغذية للروح، والايمان تلك النشوة من الأمل المشرق والنشوة العارمة من معايشة الحياة والناس والتاريخ.

الحب هو ذلك الترياق الذي يعيد الحيوية الى مفاصل الجسم كي يعيش مستقبِلاً لوميض ومؤشرات الحياة التي لاتنتهي. وأعجب ماتركه لنا التراث الاسلامي مذكرات رجل فقيه دشن اتجاهاً عقلانياً بالكامل في الاندلس عرف بالمدرسة الظاهرية، ولكنه في كتابه (طوق الحمامة في الإلفة والإيلاف) يتحدث بكل صراحة عن الجنس والحب، في حديث يتناول عشرات التجارب والقصص له شخصياً ولإصحابه، في تفكيك فلسفي وتحليل نفساني بديع مثير، مما يجعلنا نفهم صورة التقوى على نمط جديد من التوازن النفسي، وإشباع الحاجات، وضبط الغرائز بالتروية المعتدلة، وعدم السباحة في الهلوسات الجنسية، والمطاردة السرية للقصص الخليعة، وانتظار برامج المحطات الفضائية بعد منتصف الليل، أو الاشتراك في برامج التشفير مدفوعة الثمن بالعملة الصعبة.

يذكر (ابن حزم) في كتابه قصة حب عجيبة عن رجل اندلسي هام بجاريته حباً وغضب منها يوماً فباعها لآخر (لنعذر ابن حزم فهكذا كانت الأيام وقتها) ثم شعر بعظم غلطته، فحاول استردادها بكل مايملك، ويبدو أن الفتاة كانت غير عادية مما جعلت الثاني يعشقها حتى العظم؛ فلما احتكما الى الوالي قدمهما الى تجربة مريعة هي الى حافة الموت أقرب! فالوالي كان على شرف عظيم (مرتفع من الأرض) فطلب من الأول رمز حبه وصدقه في التعلق بها؟ فما كان منه الى أن رمى بنفسه من الشرف فهوى مترضرضاً نفد من الهلاك بقوة الحب، فطلب من الثاني أن يفعل كما فعل صاحبه فتردد فدفع بالجارية الى الأول.

الحب أعمى، وانجذاب ساحر، وقوة تعلق، ومعنى في الحياة، ونمو لايعرف التوقف، وأحياناً يموت صاحبها كلفاً وعشقاً وهياماً بالهدف. ولله في خلقه شؤون.

وراجعوا في هذا كتاب صحاح اللغة للثعالي لتكتشفوا أن للحب 11 درجة.

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram