جودت سعيد حيا وميتا 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

 

جودت سعيد ودع الحياة الفانية والتقى بخالقه الأعلى. عاش للعلم. ضرب وعذب وسجن وسرح من وظيفته وعاش بسيطا أقرب للفقر والزهد والعفة. كتب العديد من الكتب الخالدات في ترسيخ ثلاث مفاهيم العلم والإيمان والسلام. لم ينافق ولم يكن من وعاظ السلاطين .

كنت سهرانا حين تقاطرت الي الرسائل تنقل نعي (جودت سعيد). تأكدت من الخبر أنه مات في مشفى في تركيا (استانبول) بعد إصابته بالكورونا.  الرجل عمّرطويلا وعاصر القرن العشرين بكوارثه من الحروب الكونية وولادة دولة بني صهيون. كانت ولادته 1931 وموته 2022م. ويكبرني بـ 14 سنة. بكل أسف لم يترك خلفه مذكرات شخصية. وبالنسبة للمغاربة فبعضهم يعرفه والأكثر يجهله. جاء إلى المغرب فبقي فيها شهرا يتنقل فيها بين المدن المغربية ويحاضر ويتحدث. والشعب المغربي فيه ثلاث صفات: الكرم بما يستحي أمامه حاتم الطائي، والانفتاح الثقافي بسبب طول الشواطيء والاتصال بالأمم (سواحل على بحرين بطول 2791 كم) والطبيعة الجميلة وكأن الله اقتطع قطعة من الجنة فأنزلها إلى الأرض وسماها المغرب. لكن إبليس لم يطرد منها بعد! أما آدم فهو كادح إلى ربه كدحا فملاقيه.

كانت شخصيته عجيبة في مزيج من الإيمان والتواضع والتقوى والخشوع والدأب الثقافي والاطلاع المعرفي على كل الثقافات. مر بأربعة مراحل فكرية من العنة والعته السلفي حتى استيقظ من السبات السلفي بصدمة فكر مالك بن نبي الجزائري بفضل دأبه واطلاعه الواسع على الفكر منوعا. ثم ودع العنة السلفية إلى رحاب الفكر العالمي وأخيرا بللور مفاهيم السلم والعلم والإيمان. كان في المراحل الأولى صداميا ولم يكن موفقا حين كان يصرخ كفرت بآلهتكم الثالوث المقدس (الشعار البعثي : الوحدة والحرية والاشتراكية) فهي شعارات جميلة وكان بالأحرى أن يقول لا للاستبداد أما الشعارات الثلاث فهي صحيحة والسبب هو بقايا الفكر السلفي الذي كان يحمله، فهم لايفقهون من السياسة حرفا ولا من الفكر إلا نقيرا. دخل الرجل معتقلات البعث العديد من المرات وكنت معه في حبسه الأخير حين زربونا في غرفة تتسع لشخصين فكنا عشرة لانحسن مد أقدامنا. وبقينا في هذا المعتقل سوية فترة 250 يوما مايعادل حكم سنة قضائية.

ليس من مراجعة ولا زيارة ولا محاكمة ولا تهمة سوى الاعتقال التعسفي. والعالم العربي اليوم في معظمه معتقل في سجون لاتنتهي من أي اتجاه لأي اتجاه. بعدها انسحب إلى بيته في الريف يدعو من حوله بهدوء ويلقي بعض المحاضرات ويكتب بعضا من كتبه. وما صدر كان إضافة جيدة لتجديد الفكر الديني مثل مذهب ابن آدم الأول. وكان حريصا على وضع قسم من آية دوما كعنوان لكتابه. وهكذا صدر كتاب حتى يغيروا ما بأنفسهم يبحث فيه منهج التغيير بأربعة أفكار رئيسية أن التغيير الاجتماعي حتى يتم يجب حمله من كتلة حرجة فلو غير فرد مابنفسه قد يجر على نفسه الويلات ولذا لابد من حصول كم حرج من الناس على أفكار حرجة للتحرك بها في التغيير. الاية تقول إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ثمة حركة في التغيير يقوم بها أولا الإنسان. ويجب أن تكون كتلة ولايشترط فيها أن تكون مسلمة بل أي قوم. والتغيير يمكن أن يتم في أي قطاع من صحة وتعليم واقتصاد وحكم وسياسة.

جودت سعيد ودع الحياة الفانية والتقى بخالقه الأعلى. عاش للعلم. ضرب وعذب وسجن وسرح من وظيفته وعاش بسيطا أقرب للفقر والزهد والعفة. كتب العديد من الكتب الخالدات في ترسيخ ثلاث مفاهيم العلم والإيمان والسلام. لم ينافق ولم يكن من وعاظ السلاطين . حوصر في قريته فاستمر يدعو إلى فكرته بصبر. وحين اندلعت الثورة السورية كان بجنب الأمة في وجه النظام الطاغوتي المافيوزي.  في النهاية مع الحريق الأعظم هاجر إلى ديار العثمانيين حيث أنهى حياته صادقا غير منافق أو متسول أو متوسل. كان الرجل صادقا مع نفسه وافكاره وعاش للفكرة في نموذج متفرد يندر أن تراه في بني البشر.  هنا يحدوك الأمل أن الجنس البشري يبدع كائنات تستحق أن تسجد لها الملائكة. انا شخصيا كان لي الشرف مضاعفا مع هذا الرجل مصاهرة فتزوجت اخته ليلى سعيد التي كانت نسخة جودت سعيد الأنثوية مع تفوق عليه. واستفادتي منه بفهم وتطوير آليات الصراع المدني بالطرق السلمية واخيرا دخولنا المشترك إلى معتقلات البعث العبثية.  عاش جودت سعيد طويلا وتجاوز التسعين ومات سريعا فلم يثقل على من حوله. وترك خلفه إرثا فكريا محمديا نقيا لا يمكن لأي فرد مهتم بنهضة الأمة إلا واعترف واغترف من معينه. هو الآن في حضرة الله غير خائف ولا مضطرب ولاحزين بل يرى حبيبته هالة وتلمبذته ليلى المفضلة في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

وحين يتناهى لسمعي موت الانسان اكرر: بعد مائة عام لن يبقى منا احد لا نحن ولا أبناؤنا ولا احفادنا ولا اولاد احغادنا.  أحفاد احفادنا سيكونون شيوخا بالعكاكيز واهنة أقدامهم عاشية أبصارهم مهترئة ذاكرتهم على حافة قبورهم. الموت يسحق الفرد ولا يأبه ولكن النوع يتابع الحياة بإصرار وعناد.  ومع كل ليلة يدلف الى القبور 140 ألفا ومع كل شروق شمس يولد 370 ألفا فيزداد الجنس البشري كل 24ساعة 130 ألفا ومليار من الانام كل عشرة سنوات مثلي ومثلك من يقرأ كلماتي.

 

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram