ديكارت مقلوباً (1)  (أنا موجود أنا أفكر) (بحث ظاهرة الأنا في مؤتمر العلوم العصبية) 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

مع نهاية القرن الخامس الهجري عانى العالم الاسلامي من إعصارين مدمرين، الأول كان في الانحطاط الأخلاقي والسياسي، كنتيجة محتومة للانقلاب الأموي القديم، والثاني من تطويقٍ محكم، بين مطرقة المغول وسنديان الصليبيين. بل أكثر من ذلك حسب المؤرخ (توينبي) بتعبيره الإجهاز على الفريسة الإسلامية بثلاث محاور برتغالي شرقي وإسباني غربي والقوزاق الروس باتجاه ممالك التتر في القرم. أما الإعصاران فكانت خلفيتهما ثقافية بالدرجة الأولى؛ فالجهاز المناعي الفكري وخطوط الدفاع العقلية كانت قد انهارت خطاً بعد خط وخندقاً خلف خندق. حتى اختتم القرن السابع ومعه انطفأت الروح الحضارية الاسلامية، الموافق لمنتصف القرن الثالث عشر للميلاد، عندما انهارا جناحا العالم الاسلامي في فترة عقدٍ من الزمن (1) وحصل الانقلاب الكوني وبدأت الحضارة تكتب من اليسار الى اليمين، واستخدم الحصان العربي لغزو ونهب العالم الجديد في الامريكيتين. وحُبس العالم العربي خلف مضيق بحر الظلمات في زنزانة البحر المتوسط.  

أزمة العقل المسلم في القرن الخامس الهجري:  

في هذه الظروف المكربة صدم العقل الاسلامي الى أعمق أعماقه في سؤال ملح: ماالذي قاد الى الكارثة؟ وقف الامام أبو حامد الغزالي ليقوم بأهم عملين عقليين ماسحين، فيما يشبه جهاز الرادار العقلي، في البحث بين الانقاض، كما يفعل الباحثون عن الصندوق الأسود عند تحطم الطائرات. في بحث الخلل الأخلاقي، وخلفية الاعصار العقلي، فاستنفر نفسه لدراسة أربعة تيارات فكرية عاصفة كانت تجتاح العالم الاسلامي وقتها: الفلسفة اليونانية وتيارات الباطنية وفرق المتكلمين والاتجاه الصوفي.

كان ضغط المصيبة ماحقاً ساحقاً، بحيث انضغط عقل الغزالي فانحدر الى الشك. والشك دائرة مروعة وكأنها الثقب الأسود الشفاط، وهذا الذي حصل مع الغزالي. ومع تراكم سحب (الشك) اسودت معالم الطرق العقلية، وتسرب الشك الى كل المنافذ، وفي النهاية استولى الشك بالكامل على عقل الغزالي وطوقه بإحكام، حتى وصل الى الشك بكل شيء حوله، وتسربت عفونة الشك الى المدارك العقلية الاساسية مثل البديهيات الاساسية.

تساءل الغزالي: إذا كان المنام كله ضرباً من الوهم؟ فلماذا لاتكون الحياة كلها ضرباً أكبر في الخيال السقيم؟ يقول الغزالي: (فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولاتشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ماتعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالاضافة الى حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك، كنسبة يقظتك الى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالاضافة اليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ماتوهمت بعقلك خيالات لاحاصل لها)(2)

محنة الغزالي الروحية:   

وتطورت الصدمة العقلية الروحية عند الغزالي الى أن أدخلته المرض فارتمى في السرير وكاد أن يهلك، ويروي تجربته الروحية الفكرية بشكل مؤثر: (فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين واربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار الى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن ادرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفة الي، فكان لاينطق لساني بكلمة واحدة ولا استطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولاتنهضم لي لقمة؛ وتعدى الى ضعف القوى، حتى قطع الاطباء طمعهم في العلاج وقالوا: (هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى الى المزاج، فلاسبيل اليه بالعلاج، الا بأن يتروح السر عن الهم الملم)(3)

الانهدام العقلي الكبير على يد الغزالي:  

بقدر مابدأ الغزالي خطواته العقلية الأولى بجبروت في تأسيس المعرفة عندما أسس مبدأ اليقين في العلوم (4) بحيث لاتتزعزع المعرفة العقلية حتى لو برهن على عكسها بتحويل الحجر الى ذهب والعصي الى ثعابين، فالمعرفة العقلية هي أعمق وأبقى، والذي ترك كامل بصماته على العقل الأوربي؛ بقدر ماانتهى الغزالي نفسه؛ عندما سطر قلمه كتاب (تهافت الفلاسفة)  في نهاية رحلته الى حالة فراغ كاملة بالانتحار الصوفي، مما اضطر ابن رشد لاحقاً؛ أن يتدخل بعملية فكرية جراحية اسعافية لعقل مسلم منتحر بنزف داخلي، قد انهار صاحبها بفعل النزف الفكري الى حالة الصدمة غير قابلة التراجع (IRREVERSIBLE  SHOCK) فيكتب في الوقت الضائع للمباراة كتابه (تهافت التهافت)(5). لذا لم يستفد العالم الاسلامي من كتابات ابن رشد شيئاً، بل هي موضع شبهة وشك فهو من التراث المحترق.

مراجع وهوامش :  

(1) من التصادف الغريب والمحزن لمصير العالم الاسلامي أن جناحيه قطعا في فترة عقد من السنين، فسقط كما يسقط الطير بلا جناحان. سقطت اشبيلية في الاندلس في عام 1248 م بيد الاسبان ودمرت بغداد بالمحراث المغولي الهابط من الشرق في عام 1256 م (2) كتاب (المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال) أبو حامد الغزالي ـ حققه جميل صليبا وكامل عياد ـ دار الاندلس ـ ص 85 (3) نفس المصدر السابق ص 136 (4) تأمل تعبيرات الغزالي المدهشة في التأسيس المعرفي (فلابد من طلب حقيقة العلم ماهي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لايبقى معه ريب ولايقارنه إمكان الوهم والغلط ، ولايتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنةً لو تحدي بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة؛ فلو قال لي قائل: لا .. بل الثلاثة أكبر من العشرة؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبها وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه! أما الشك فيما علمته فلا) نفس المصدر السابق ص 82 (5) يراجع في هذا كتاب (تكوين العقل العربي) للمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ مثلاً فصل العقل المستقيل في الثقافة العربية الاسلامية

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram