يأتيني يوميا من تفاهات اليوتيوب مايشكل مستنقعا من الأكاذيب والترهات، منها رجل عراقي يدعى خزعل مزعل يقول أنه يتقن ثمانية عشر لغة قديمة من الآرامية واليونانية القكية والحديثة والديموطيقية والهيروغليفية والآشورية والسريانية والسنسكريتية والكلدانية والسريانية والبابلية والمسمارية ولغة الانكا والساموراي والصينية ولغة عصر المسيح القديمة، ومسح الرجل كل التراث الإنسانية فلم يشاهد مكتوبا على الاهرامات والمسلات أن فرعون يذكر فيها هزيمته أو هزيمة والده أمام رجل يدعى موسى؛ فليس ثمة نبوات في التاريخ إلا خرافات وخزعبلات!
والواقع فالرجل محق في جانب أن التاريخ يكتب مكذوبا في الغالب؛ فكيف سيكتب رمسيس أو خوفو ومنحوتب وبيبي أنهم هزموا ونكل بهم. نحن هذه الأيام نطالع قصصا عجيبة عن وقائع هزمت فيها بريطانيا ولكنها تخلد انتصارات كما في معركة وباليكفالا في القرم أو غاليبولي عندما هزم تشرشل في وجه الاتراك عند مضيق الدردنيل فيما عرف بموقعة غاليبولي. ومن هذه الأكاذيب قصة انتصار بريطانيا في معركة دنكيرشن الذي عرضته هوليوود أنه انتصار بريطانيا ضد هتر والنازية فماذا جرى بالضبط عند القنال الانجليزي يومها؟
في كالجاري (Calgary) في كندا تقدم شيخ واهن هو كين ستاردي (Ken Sturdy) إلى صالة السينما، يتطلع بدهشة لما حوله بدون نظارات، مع تقوس خفيف في الظهر، إلا أنه يمشي منتصبا على رجليه بعكازة. تتدلى من صدره العديد من الأوسمة والميداليات. إنه من المحاربين القدماء يبلغ من العمر 97 عاما. جاء الرجل ليرى فيلم دنكيرك (Dunkirk) فقد اشترك في المعركة، وهو في عمر العشرين. ولكن ما أهمية هذه المعركة حتى يعمل له فيلما تشد له الرحال؟ وتوظف فيه ملايين الدولارات؟
الألمان يسمونها معركة دنكيرشن (Dunkirchen) نسبة إلى مدينة تقع إلى الشمال الفرنسي حذاء القنال الإنجليزي، حيث تم تطويق الجيش البريطاني بعدد مهول من الجند وصل إلى 400 ألف عسكري إنجليزي. طوقتهم القوات النازية عن اليمين والشمال عزين. يطمع كل امرئ منهم بالنجاة؟
أتذكر جيدا حين سمعنا لأول مرة خبر المعركة وكانت من المفكر الجزائري (مالك بن نبي) حين زارنا في دمشق عام 1971 قبل أن يفارق الحياة بقليل، وندخل نحن زنازين البعث لاحقا في الفرع 273 لصالح المخابرات العامة البعثية العبثية.
تحدث الرجل رحمة الله عليه عن ألغاز الحرب العالمية الثانية، وهذه المعركة كانت واحدة منهن؛ وليست الوحيدة من أسرار الحرب، فكل يوم يتكشف الجديد، بل وهناك من الأسرار ما مر عليه أكثر من سبعين عاما وقد يبقى في ملف الأسرار سبعين أخرى، من الأسرار المخيفة مثلا كهف لينين الذي عمل، ليصمد ولو في حرب ذرية وفيه وثائق مخيفة كان المجرم يمضي بخط يده في إعدام المئات من خيرة القوم، ومن أسرار الحرب أيضا تلك التي اطلعت عليه مؤخرا في وصول هتلر إلى أسرار السلاح الذري، بل وتجربة السلاح الذري بشكل محدود، بل وقع في يدي كتاب (سجناء العصر الذري لروبرت أوبنهايمر) ضاع من مكتبتي ربما من استعارة أحد الأشاوس الذي عمر مكتبه بكميات من الاستعارات، والمشكلة في هؤلاء المتخلفين الذين نحرص على إثرائهم بكتب قيمة فتضيع ولا من بديل وتعويض، تماما كما حصل معي في كتابي عن النسبية لبدر عبد الرحيم بعد أن درسته عددا، وكذلك كتاب علم المواريث للقلعجي.
ما حدث في معركة دنكيرك أن الجيشان الألمانيان أطبقا من الشرق والغرب على القوات البريطانية بالكماشة المعروفة منذ أيام هانيبال القرطاجي، حين قضى على جيش روماني من 80 ألف جندي بالتطويق، ثم الفرم التدريجي؛ فلم يرجع منهم إلا من نقل الفاجعة، لكل بيت في روما. منذرا بسقوط الجمهورية، حيث أصبحت علما في تكتيكات الحرب، فالتطويق يعني بكلمة مختصرة أن الجيش يقاتل من حوافه كما في دائرة تماسها من الخارج مع محيطها الخارجي فقط، فيهلك من في الداخل ازدحاما ولا يقاتل من الجيش إلا أقله وفي ظروف بائسة.
طُوَّقت القوات البريطانية بمجموعة الجيوش (ب) في الشرق بقيادة الجنرال (فيدور فون بوك Fedor von Bock)، ومجموعة الجيوش (أ) في الغرب بقيادة الجنرال (غيرد فون رونتشتيت Gerd von Ronstedt)؛ ما سماها الماريشال إيريك فون مانشتاين بضربة المنجل. لم يبق أمام البريطانيين في هذه المذبحة إلا القتل أو الأسر المهين أو الهرب إلى البحر ولكن كيف؟
هنا يتكلم القدر كما رواها لي مالك بن نبي!
لقد أمر هتلر قواته بالتوقف، وكتف يديه على صدره يتأمل القوات البريطانية، وهي تتسلل لواذا عبر البحر في ثماني ليال وتسعة أيام حسوما، فترى الوجوه خاشعة من ذل الفرار إلى الجزيرة.
لقد جند لها تشرشل يومها كل ما يعوم على سطح الماء؛ من زورق وسفينة وباخرة وبارجة لحمل هذه الكتلة البشرية من اللحم؛ فقد ألقوا عتادهم وسلاحهم ظهريا، ولاذوا بالفرار بأي سبيل. وكان يوم الفرار الأعظم في تاريخ جيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لقد ظهر سيد جديد في القارة الأوروبية اسمه هتلر.
هذا ما تعرضه السينما، وهذا ما وقف فيه صديقنا المحارب القديم الكندي السيد (كين ستردي) يحملق في المنظر، ويستعيد الذكريات باكيا، ويقول لمن حوله: كنت في العشرين من العمر في الكارثة، وهي ما ترونه مصغرا في الحجم. لقد مات الكثير ممن حولي من أصدقائي، وأنا تعرضت لإصابات نجوت منها.