صراع ولدي آدم

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

وظيفة الجهاد قد تستخدم ضد الكافر (الظالم) أو ضد المسلم (الظالم) المهم أن يكون ظالما وليس كافراً. كما فعل الإمام علي ضد الخوارج. والخوارج لم يكن اسمهم ( خوارج) بل حازوا هذا اللقب تاريخياً، أما هم فكانوا يسمون انفسهم مجاهدين و(شراة) أي باعوا أنفسهم في سبيل الله. في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس (جهاداً) بل خروجاً بسبب تبني (القوة المسلحة) لفرض آراءهم بالقوة ، وهو ماوقعت فيه معظم الحركات الأسلامية في التاريخ المعاصر، لذا فالاتجاهات الاسلامية المعاصرة (العنيفة) هي (خوارج) العصر الحديث بكل أسف. لإنها ضلت طريقها مرتين. مرة في (الهدف) و أخرى في (الوسيلة). (الأولى): بوضع الغاية أن الوصول إلى الحكم يحل المشاكل (كلها ودفعة واحدة). ولم تعلم أن المشاكل تبدأ فعلاً بعد ذلك. و(الثانية) في تبني (العنف) وسيلة للتغيير.
هناك آيتان في القرآن واحدة في سورة يونس والأخرى في سورة الأعراف تصبان في ترسيخ نفس المفهوم السابق أن المشكلة ليست (نزيحكم ونقعد محلكم؟!) بل المشكلة هي تغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض أن ينتشر، وأننا سوف نعيد أخطاء الاخرين على أبشع عندما تكون تحت (العباءة الإسلامية) على ماتوقع الكاتب (حسان حتحوت) في كتاب (أوراق في النقد) من أن وصول القوى الإسلامية إلى الحكم سوف يفرز ديكتاتورية جديدة، لاتختلف في مصادرة الحريات عن دكتاتوريات المنطقة في شيء، ولايظن الأسلاميون أن خصومهم كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديموقراطي حر، ولكن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر.
تأمل الآية ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تاتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف 128 - 129 ).
لقد انتبه الإمام ابن تيمية قديماً إلى هذه النقطة أي أن الجهاد هو ليس لنشر الإسلام بل لدفع الظلم. إلا أنه انتبه إلى نصف الحقيقة حينما فاتته حرية الفكر والدفاع عنه وبنفس (مبدأ الجهاد) لذا فإن ابن تيمية دفع حياته ثمناً لفتواه التي أفتى بها، فهاهو قد ألقي به في السجن حين اختلفت الآراء، ليموت شريداً حزيناً في سجن القلعة بسبب آراءه، ولو أفتى باحترام وحماية الرأي الآخر مهما كان لنعم بحريته في أيامه الأخيرة.
من هنا نشعر بعمق مأساة العالم العربي لإن الجهاز الحضاري لم يتشكل بعد، فلا الحكومات ترحب بالمعارضة فضلاً عن إيجادها، ولا المعارضة تدرك أن المشكلة هي (ليست) في (الإطاحة بالأنظمة).
لقد أدرك (عبد الرحمن الكواكبي) الحلبي على نحو مبكر هذه النقطة بمنتهى البللورة قبل قرن وسجلها في كتابه القيم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ورأى أن الحل لايكمن في تغيير الحكومات، بل دعا إلى المحافظة عليها مع تعديلها، الذي سيكون آليا مع نمو المعارضة.
إن السيارة تحتاج إلى ( دعسة بنزين وفرامل) معاً. وليس إلى نزع دعسة البنزين ووضع أخرى محلها. ذلك أن سيارات العالم العربي كلها تمشي بدون فرامل وتقود شعوبها إلى الكوارث.
إن مانحتاجه هو تغيير نظام الفكر وليس الحكومات، لإن الأنظمة السياسية هي في النهاية إفراز عفوي للشعوب، وعدم الانتباه إلى هذه النقطة أوقع حركات التغيير السياسي والاجتماعي وشعوبها في مطبات لانهاية لها. من هنا ندرك خطأ الحركات الإسلامية في تشديدها على المناطحة السياسية واستنفاد جهدها في عمل لم ولن يقود إلا إلى الكوارث، ومن هنا ندرك أيضا ًعمق المعنى في الآية القرآنية بأن الله لايغير مابقوم ليس حتى يغيروا حكامهم بل يغيروا ما بنفوسهم .
الملاحظة الرابعة: كنت في كندا في مطلع عام 1990 م، فقدمت محاضرة للشباب في الكلية الفرنسية للتقنية في مونتريال، وتحدثت عن ظاهرة العنف وتناولت قصة ولدي آدم، فعقب أحدهم: ولكن الذي مارس اللاعنف خسر في النهاية وقتل؟ كما في الآية (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)؟ تدخل شاب ذكي في النقاش حيث أدرك أبعاد اللعبة الإنسانية واستوعب عمق القضية. حيث انتبه إلى كلمتي (الخاسرين) و (النادمين).
وهكذا استرسلنا في شرح موسع للظاهرة:
(أولاً): لم يعتبر القرآن أن المقتول هو الخاسر بل العكس اعتبر أن القاتل هو الخاسر الأعظم ولم ير أية خسارة للمقتول، وبذا تنقلب معايير الكسب والخسارة (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين).
(ثانياً): دخلت القصة بعداً جديداً حين محاولة إخفاء آثار الجريمة حيث أصيب القاتل بنوبة مريعة من تكبيت الضمير والندم على مافعل وهذا هو بيت القصيد، لإن تفاعل الحدث الإنساني في داخله يصل إلى مداه المثالي حتى مع موت أحد الأطراف، والأطراف كلها ميتة على كافة الأحوال (إنك مين وإنهم ميتون). ولكن الموت هنا وبهذه الصورة هو الحياة الفعلية ودخول الخلود.
الندم هو أول الطريق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ الضمير، واستيقاظ الضمير هو اعتراف يصحة موقف المقتول أو تبني رأيه وإحياء أفكار الذي مات، ففي الوقت الذي مات الأول واستشهد، كان هذا هو السبب في إحياء ضمير الثاني، بل وتبنيه لإفكار الذي مات لأجلها ودفن. دفن الأول بالثرى وعاد الجسد إلى مصدره الترابي، ولكن (الفكر) الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسد الترابي ليدخل عالم المطلق والخلود؛ لذا وجب أن ينظر الفرد ليس إلى حياته الفردية الهزيلة القصيرة، بل إلى عمق أثر الأفكار عبر التاريخ، فالأفكار الخالدة تبقى حية على مر الزمن، والأفراد يموتون، والحبة حتى تنبت لابد من دفنها أولاً .
يجب أن يكرس الجهد لخلق وسط حضاري جديد في العالم العربي، بأن يحرص أحد الطرفين على التوقف عن الصراع الدموي ومحاولة إلغاء الآخر ولو من طرف واحد، لإن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته، وتصفية الآخر، كما هو الحال في قصة ولدي آدم.
الاصرار على مبدأ الحوار ولو رفض الطرف الآخر، وعدم التراجع عن مبدأ المبادىء كلها (الحوار) لإنه بالحوار والثبات عليه، حتى والاستشهاد في سبيله هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف. إن كان هناك إصرار فليكن على التخلي ودفعة واحدة عن العنف المسلح، لإن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار يقود في النهاية إلى النزاع المادي. لإن الحروب تنشأ أولاً في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية . وإعلان الرأي - وضمن شروطه المنتجة - مع تحمل تبعة مسؤولية إعلان الرأي حتى لو كان في النهاية سيقود إلى الاستشهاد .
من هنا نعلم أن هذا الطريق يحتاج إلى تدريب خاص، إلا أنه على كافة الأحوال ليس بقدر تدريب الثكنات العسكرية، كما أنه أقل تكلفة في الوصول إلى أهدافه؛ بل ويفتح الطريق إلى تدريب الخصم إلى التوبة والرجوع إلى صوابه حين يدرك أن ماتريده ليس إلغاءه وتصفيته، بل إنك مستعد ليس لقتله، بل لإن تموت أنت من أجل إحياء ضميره المريض؟!. بل إن هذا الأسلوب في الصراع سوف يحيي الأمة برمتها بفتح أسلوب جديد لفك النزاعات.
هذه الصورة من الاستشهاد، أي من أجل فكرة سامية تعطي للحياة معنى، وتمد جذورها في المجتمع عبر التاريخ، وتثمر إن كانت كلمة طيبة كما حصل مع ابن آدم الذي خلد القرآن موقفه بأن طرح أسلوباً جديداً لفك النزاعات البشرية، فخلد موقفه بخلود القرآن الذي يتلى إلى قيام الساعة. فأما جسده الترابي فرجع إلى دورة الطبيعة، وأما موقفه فبقي خالداً لايموت .
(ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram