عيوب اللغة والأدوات المعرفية المساعدة  

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

القرآن منبع للطاقة، والتزود منه يحتاج إلى موصلات للطاقة مثل وصل الأسلاك إلى البطارية. وهذه الأسلاك يجب أن تعمل بكفاءة ومن نوعية جيدة ونظيفة من الصدأ. أذكر تماما حين بنيت بيتي في الجولان كيف شرح لي المهندس أبو طه أهمية أن تكون الأسلاك بغلظ 6 ملمتر. هنا في كندا التوصيلات الكهربية شبه أبدية. ليس فقط الأسلاك بل تقريبا كل أدوات البناء.  

وفيما يتعلق بالنص القرآني فهو مكتوب بلغة عربية (بلسان عربي مبين) فهو حقيقة ضخمة، ولكنها حقيقة مضغوطة في قناة من لغة عربية، ولكن لا يمكن تمريرها بغير هذا الطريق. حقائق لانهائية من المطلق رب العزة والجلال يتحدث بها إلى العباد في لغة محدودة وكلمات محدودة فكيف يمكن ضغط اللامحدود في المحدود؟ هنا تتبدى المعجزة اللغوية والقوة اللفظية المتعالية والنور الهادي إلى صراط مستقيم. أنا شخصيا أحفظ القرآن ولكنني في كل قراءة أفهم الجديد من تضاعيف النص.

ومعنى هذا الكلام أن فهم هذه الظاهرة يتطلب قلبا مستعدا لتلقي الحقيقة. وأي حاجز بين القلب والظاهرة يمكن أن يعيق الاتصال. وأفضل اتصال لفهم ظاهرة كونية هي الاتصال المباشر بها، بدون حجب ووسائط رديئة التوصيل.وقديما أراد موسى رؤية الله كظاهرة مادية فخر موسى صعقا. فلما أغاق قال سبحانك تبت إليك. وما حصل مع موسى حصل مع قومه حين قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. وعلينا أن نتفهم هذه الطلبات فإبراهيم لم يطلب رؤية الله لا أعرف لماذا ولكنه كان يبحث عنه في تضاعيف الكون من الكوكب والقمر والشمس. ولكنه أراد أمرا مختلفا حين طلب كيف تدب الحياة في الموت الهامد؟ هنا لم يحصل له ماحصل في سورة البقرة من ضرب لحم البقرة الميتة الميت فينهض ويدل على القاتل. بل جاءت من شكل طيور مختلفة تقطع وتوزع وإذا بها تهرع إلى بعضها البعض فتطير. يسأل أحدنا ألم يكن إبراهيم موقنا بهذه الحقيقة والجواب نعم ولكن المشاهدة غير الفكرة المتخيلة. هنا تقول البرمجة اللغوية العصبية أن الحضور في الصورة والنطق تنقل لنا الفكرة بحوالي 60 بالمائة أما الكتابة فلا تنقل أكثر من 20 بالمائة. وهناك من يتقن الكتابة فله سحر ولكنه ليس كذلك في النطق وهذه تحتاج إلى مران. وأنا أعرف البعض ممن يبرعون في النطق ولكن إنتاجهم الكتابي لاشيء. وهنا علينا أن نتذكر أن مايبقى هو المخطوط وأنا شخصيا كتبت عشرات السنوات فأبدعت ولكن النطق استعين به فيما كتبت وأحاول نقل تراثي الورقي إلى الصوت والصورة فلا أدري كم سأنجح؟

وفي القرآن توجد إشارة إلى طائفة من الناس سماهم القرآن (الراسخون في العلم) والرسوخ في العلم رحلة لا نهاية لها.

واللغة لها ثلاث مشاكل جوهرية (عيوب) تحرم من الوصول إلى الحقيقة؛ هي التعميم والتشويه والحذف؛ فأما التعميم فمثل من يقول كل شيء غالٍ، والصحيح أن البعض غال والبعض رخيص وهناك مابينهما حركة في الرخص والغلا.

وأما التشويه فقول المرء مات المريض، فمن هو؟ وما اسمه؟ وكيف مات؟ وسبب الوفاة؟ فكلها نواقص فادحة تحتاج إلى الكثير من الترميم.

وأما الحذف فمثل القول كتاب رائع، فلماذا كان رائعا وما الذي جعله كذلك؟
ولكن بقدر عيوب اللغة بقدر استخدامها بين البشر كأداة تواصل، مثل ظاهرة الرعد والبرق؛ فهي تمر عبر سلك كهربي. وهكذا فأفضل طريقة للاتصال بالقرآن الاتصال المباشر به بدون حجب ووسائط، ولو كانت كتب تفسير! فهي ولدت في عصر مشبعة بروح العصر حتى الثمالة، مثل تفسير ابن كثير الذي انتهت صلاحيته مثل أي دواء، ولنتصور أننا نتناول الأدوية التي فسدت وانتهى وقتها (صلاحيتها) أو الدم الذي انتهت صلاحيته مع ك لحاجة المريض النازف له؟

ومنه سبب الشلل في العقل الإسلامي، ويجب المرور عبر العصور لاكتشاف الظاهرة القرآنية حسب تعبير مالك بن نبي الذي كتب فيها كتابا كاملاً. ونظرا لأن الظاهرة القرآنية هي ظاهرة كونية مثل الشمس والقمر وفلق الصبح والغسق؛ فإن أي كلام عنها يأخذ طابع الذاتية أكثر من الموضوعية. وبقدر الخلفية الثقافية بقدر الاقتراب من الظاهرة. ولكن مهما فهم ووصف الإنسان هذه الظاهرة فهو يرى جزءًا منها مثل لو وقف مجموعة من الناس أمام صخرة ليصفوها؛ فهي مجموعة لا نهائية من الحقائق حتى وهي صخرة؛ فقد يحللها الكيماوي ويصف تاريخها الجيولوجي ونوعية الفلزات المعدنية التي تحتويها. كما قد يصفها الشاعر بعين حالمة. ويراها المؤرخ شاهدا على مرور حملة عسكرية بجانبها. ولكن الصخرة تبقى أكثر من ذلك؛ فقد تكون حجرا من المريخ كما قد تكون مكانا لنمو فطريات نادرة.
ويبقى السؤال كيف الدخول إلى هذه القناة المحدودة من اللغة لفهم ظاهرة كونية غير محدودة؟
هنا يتطلب الأمر البحث والاستعانة بأدوات معرفية وعلوم إنسانية مساعدة، تماما كما يفتح الجراح البطن، أو ينقب عالم الانثروبولوجيا في الأرض بحثا عن قطعة عظم وسن، أو يحدد عالم الاركيولوجيا عمر الأحافير، أو يستخدم صيادو الكنوز في الأعماق السونار.بكلمة أخرى مختصرة، إن الإنسان يخوض البحث كمن يدخل كهفا مليئا بالكنوز بإضاءة خاصة، وبقدر الإضاءة بقدر الاهتداء للكنوز، وهي هنا مثل خامات الأرض وعروق الذهب، تحتاج إلى عمليات إضافية كي يصل الإنسان إلى جوهرها النقي ومعدنها الخالص.

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram