مخطط الانحدار وإعادة البناء (3)

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

 النتيجة البعيدة وغير المباشرة لسقوط العاصمة البيزنطية:  

في القرن الخامس عشر للميلاد سقطت بيزنطة وغرناطة بفاصل نصف قرن (1453م ـ 1492 م) ويبدو وكأن سقوط الحاضرتين كانتا لوحتان متعاكستان لوقائع متناقضة، فالقسطنطينية سقطت بيد الأتراك المسلمين، القوة الناهضة الجديدة، وغرناطة بيد الاسبان، رأس الحضارة الغربية المستيقظة، ولكن التحليل الأعمق يفضي الى تكامل الصورتين، والتحام السبب والمسبب؛ فسقوط العاصمة البيزنطية جاء جوابه في سقوط غرناطة، والاستجابة للضغط الجديد، عندما قُطعت طرق الشرق الأوسط الى الهند في وجه اوربا، فاستندت أوربا بكل ثقلها وظهرها الى المحيط (بحر الظلمات) ومن هذا الضيق جاء الفرج غير متوقع.

المحيط الاطلنطي (بحر الظلمات) وسواه من المحيطات كانت مناطق تفصل السكان والحضارات، فحضارات أمريكا لم تتصل ببقية حضارات العالم ونمت لوحدها بطريقتها الخاصة، ولكن مع تطوير السفن العابرة للمحيطات على يد الملاحين العرب، تحولت هذه المحيطات الى جسور اتصال. ويمكن تشبيه السفن الجديدة عابرة المحيطات، مايشبه سفن الفضاء الحالية، بكل انجازاتها التكنولوجية الرائدة.

البحر المتوسط بحر مغلق لايشابه بحر الظلمات (المحيط الاطلنطي) فسفن المحيط يجب أن تزود بتقنية ملاحية جديدة وآلات قياس ومعرفة متقدمة من خلال خرائط لاتجاهات الرياح وتيارات البحر، ومعرفة بأمراض البحر الناجمة عن السفر الطويل لأشهر متواصلة (مثل دراسة تكيف الانسان اليوم للبقاء فترة طويلة في القمرات الفضائية) وتزويدها بالمدافع والاسلحة الكافية والمناسبة لمقاومة انقضاض القراصنة، وخزانات المياه الكافية، وأطعمة تحفظ لفترة طويلة (تم اكتشاف الفيتامينات ومعرفة مرض الاسقربوط بنقص الفيتامين سي ـ C في الجسم بعدم تناول الخضراوات والفواكه الطازجة لفترة طويلة) وبواسطة سفينة المحيط العربية والحصان العربي، تم اقتحام قارات العالم الجديد، وضُم الى ممتلكات أوربا أربع قارات جديدة بمساحة تزيد مرتين عن مساحة سطح القمر، وآلاف الجزر الغنية في المحيطات اللامتناهية. لقد كانت الهجرة والاستكشاف للغربيين الفقراء مفيدة حقاً.

وعندما تقدم الاستعماري الاسباني  المدعو (هيرناندو كورتس) لابادة حضارة الازتيك وخنق مليكهم واستباحة عاصمتهم الجميلة فوق بحيرة غناء، كان السلاح الحاسم الذي ظهر الى الساحة الذي أربك الهنود الحمر  وأثار فزعهم، هو الحصان العربي ولكن التاريخ يسجل ظهور الحصان العربي بدون فارسه.

كان الاسبان يدفنون الحصان الميت سراً حتى لايتبادر الى ذهن الهنود إمكانية موت هذا الكائن. وظهر الفارس الاسباني مثل أسطورة نيسوس اليونانية، ذلك الكائن الخرافي الجبار، قطعةً واحدةً بجسم حصان ورأس انسان،  كما حصل مع الهكسوس في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، حينما اجتاحوا الحضارة الفرعونية العريقة بالحصان المدجن، ولم يتخلص المصريون من حكم الهكسوس الا بعد مائتي عام مريرة وبنفس سلاح الحصان، دبابة العصر القديم.

عندما تقدم الزحف الاسباني بعد سقوط طليطلة الى الجنوب كان همُّ  الاسبان ومن بعدهم الانجليز، وضع اليد على المضائق فهي شرايين الحضارات القديمة، ومفاتيح التحكم، ومصادر الثروة والقوة.

في القرن السادس عشر تحول البحر المتوسط الى بحيرة عثمانية، على الرغم من هزيمة الأتراك البحرية في معركة ليبانتو 1571 م، وبرز قواد بحريون أتراك مشهورون من أمثال خير الدين برباروسا وتورغود، ينزلون الرعب في مفاصل وقلوب الأوربيين فترتبط أسماءهم  في الذاكرة الجماعية الغربية بالقرصنة (9)

لكن الاسبان والبرتغاليين شقوا طريقهم الى عنق البحر المتوسط عند رأس جبل طارق ثم قفزوا الى الشاطيء المغربي، فاستولوا على سبتة ومليلة ومازالوا، وبذلك أحكمت المدفعية الاسبانية قبضتها على المضيق، فحبست العالم العربي عملياً في زنزانة البحر المتوسط، وقطعت الطريق على أية انطلاقة عربية الى بحر الظلمات، وعندما اُكتشف العالم الجديد وحصل النزاع البرتغالي الاسباني، حله البابا (حبياً) فقسم العالم بينهما الى نصفين بالتساوي بكل بساطة. وخسرنا المحيط والى الأبد على مايبدو.

   خسارة المحيط وآثاره المأساوية وبداية انطلاقة الغرب قبل خمسة قرون:  

على الرغم من وجود السفينة العربية العابرة للمحيطات، وعلى الرغم من إمكانية الوصول للقارات الجديدة التي وصل الى بعضها التجار العرب المسلمون كما في اندنوسيا ومالقا واليابان، فإن التوجه للعالم الجديد فات الحضارة العربية، وبه دشن عصر جديد حقاً.

إن اختراق المحيط على يد المغامرين المستكشفين أولاً، ثم جموع الفلاحين الاوربيين الفقراء لاحقاً، كان استجابة للضغط العثماني في الشرق، بمحاولة الهرب باتجاه الغرب، تحت إغراء رائحة التوابل العطرة، تمولهم الشركات الاستعمارية بالمال والسلاح لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين واستبدالها بالعرق المتفوق الجديد، على الرغم من وجود مكان كاف للغازي والمغزو، ولكن سيطرة روح التطهير العرقي كانت أقوى جاذبية.

كان هذا التوجه بركة عليهم، لأن العالم القديم المكون من ثلاث قارات قفز مرة واحدة الى سبعة، منها أربع قارات جديدة أُضيفت الى ملك ريتشارد قلب الأسد وأحفاده، في الأمريكيتين واوستراليا ونيوزلندا والقطب الجنوبي. ومع تدفق الذهب من المكسيك وفلوريدا، والفضة من البيرو، وفي مدى قرن واحد، تدفقت دماء ثمانين مليون من السكان المحليين، وتم تفريغ مائة مليون من سكان أفريقيا، لزرعهم كآلات عضلية في مزارع العالم الجديد لرفاهية الرجل الأبيض، في أعظم مذبحة عرفها الجنس البشري، لم يكشف عنها النقاب الا منذ فترة قريبة كما في فيلم (يرقص مع الذئاب) وكتاب (فتح أمريكا ـ مسألة الآخر) لاستاذ السوربون (تزفيتان تودوروف).

كانت الموجة الأولى لاقتحام المحيط لاتينية (برتغال واسبان) لم تلبث أن أعقبتها الموجة الجرمانية (الانجلوساكسون) من الانجليز والألمان، بفعل القصور الذاتي والتعصب الديني وعدم تطوير النظام البرلماني في البيئة اللاتينية، باستثناء فرنسا التي عوضت تأخرها مع انفجار الثورة الفرنسية وانفجار الحرية الفكرية ومنظومة القيم الجديدة معها، التي تخلصت من الكنيسة والاقطاع في ضربة واحدة موفقة، وشقت الطبقة الوسطى البورجوازية الطريق الى الديموقراطية الجديدة بين توازن رأس المال وطبقة العمال. أما الصنف الأوربي الثالث (السلاف) فقد بقوا بعيداً عن غارة المحيط فدفعوا ثمن تأخرهم، كما رأينا في الصرب الحاليين الذين يذكروننا بعقلية صليبيي القرون الوسطى.

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram