مع كتابة هذه الأسطر يمسك العالم أنفاسه على احتمال حرب بين روسيا وأوكرانيا مما دفعني إلى وضع بانوراما عن حماقة الحروب وانها ثلاث: جنون وجريمة وإفلاس أخلاقي. وقد يستغرب القاريء لو قلت له : إن زمن الحرب قد ولَّى وأننا نطأ بأقدامنا عتبة ( عالم السلام ) ونحقق علم الله القديم فينا وسيعتبرني بعضهم مسرفاً في التفاؤل أو غير واقعي بل قد يرى البعض أنني أتكلم ضد التاريخ وأحداث العالم !!
نعم قد يختلط هذا الأمر على كثير من الناس وهم يسمعون طبول الحرب ويرون فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة ، ولكن الغوص الصبور والتأمل الفاحص في بطن الواقع ، سيكشف الغطاء عن بصيرتنا ؛ أن هذه المظاهر هامشية وجانبية أمام زخم التدفق العام لحركة التاريخ ، فهذه الفرقعات هي بقايا فلول جيش منهزم أومحتضر في سكرات الموت ، فالعالم أصبح الآن وكأن رأسه في عالم السلام وقدماه ملوثتان في برك الدم وهو يخرج منها ، فدماغه مع العهد الجديد ، وأطرافه مازالت في العهد القديم ، وعدم تصديق هذا التحول النوعي الجديد يأتي من عدم حضور العالم و ( شهود ) مايحدث فيه ، والكهنة ( الجدد ) للعالم الصناعي يدركون تماماً أن سحرهم قد بطل وأن أصنام القوة لاتضر ولاتنفع ، ولكنهم يحاولون احتكار الامتيازات في العالم الجديد حتى الرمق الأخير .
مازلت أتذكر الدكتور كامل رأسه متألماً على وضع مدينة ( جروزني ) وبوطين يحولها إلى أنقاض ويتصاعد منها رائحة البارود وتسقط في بركة دم . وعقبت زوجته قائلة : يحق لهم أن يدافعوا عن أنفسهم ؛ فالروس سمحوا باستقلال الكثير من الجمهوريات فلماذا يحرمون منها الشيشان؟ صديقنا بوطين كان رئيس قسم الستازي بعشرين ألف غرفت تنصت على مواطني ألمانيا الشرقية.
إن صورة الدمار والحروب في بؤر التوتر والنزاع تشوش البانوراما ( الصورة الشمولية ) التي رسمناها عن مصير الحرب وزوال المؤسسة العسكرية ، فماذا نقول عن مذابح راوندا والبوسنة ؟ وصراع اذربيجان والأرمن ؟ والحرب الأهلية في الصومال وأفغانستان ؟ بل ماذا نقول أمام شهادة ( ويل ديورانت ) وهو المؤرخ الحجة في التاريخ الذي يقول في آخر كتاب صدر له : (( الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والاربعمائة سنة الأخيرة ( 3421 ) من التاريخ المسجل لاتوجد سوى ( 268 ) سنة بغير حرب)) فعلى حساب ديورانت المذكور يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط ، لإنه مع كل دورة ( 14 ) أربع عشرة عاماً في التاريخ تلطخت ( 13 ) ثلاثة عشر عاماً منها بالدم الإنساني وسكت منجل ( عزرائيل ) ملك الموت سنة واحدة فقط ؟! فإذا أخذنا هذه الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة من مآسي التاريخ المروعة ، وجعبة التاريخ مليئة من مثل تدمير حضارة الازتيك في المكسيك على النحو الذي رسمه ( تزفيتان تودوروف ) في كتابه ( فتح أمريكا مسألة الآخر ) ( 3 ) حيث كشف النقاب بعد مرور خمس قرون ومن خلال استنطاق نفس النصوص التاريخية للغزاة الاسبان ( المبشر لاس كاساس ) عن إبادة ( 80 ) ثمانين مليون من أصل ( 100 مائة ) مليون نسمة كانوا يعيشون في الأمريكيتين ، تم إبادة معظمهم على يد الاسبان والبرتغاليين .
أم ماذا نقول عن حصار قرطاجنة وذبح معظم سكانها على يد الرومان عام 164 قبل الميلاد وحمل ماتبقى منهم عبيداً إلى ساحات المجالدين لتسلية الرومان المتخمين ، أم ماذا نتكلم عن تراجيديا شعب ( الوبيخ ) من شعوب شمال قفقاسيا المجاورة لمنطقة الشيشان الحالية ، الذي لم ينقل إلينا خبره إلا رجل واحد فقط ، سجل النهاية المروعة لذوبان أمة بأكملها في قصة ( آخر الراحلين ) بحيث تنقل لنا بوضوح مآساة شعوب شمال قفقاسيا في منتصف القرن التاسع عشر ، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسوريا ومصر هذه القصة من قصص التراجيديا التي لاتقترب منها قصص التراجيديا العالمية بشيء ، لاقصة البؤساء أو قصة عاصفة وقلب ( 6 ) لــ ( فيكتور هوجو ) ، لاقصة ماجدولين للمنفلوطي ، أو قصص ديستوفسكي وتولستوي ، لإنها رواية شعب يفنى بكامله فلايبقى حتى من يقص خبر اختفاءه من سطح الأرض ، إنها ليست قصة عاطفية ومأساة فردية ، بل هي مصير أمة ونهاية شعب بالكامل ، إنها قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة ولايتركها إلا وقد بكى مرات ومرات .. وروعتها أنها ليست قصة من تأليف الخيال ، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل ، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه الإنسان .. إلى درجة أن البعض فكر أنه من الأفضل للانسان أن يهرب من المجتمع ويرجع إلى الغابة التي خرج منها مرة أخرى ، فثعابين الغابة ووحوشها أرحم من بطش الانسان وظلمه ...
ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف الذين هربوا إلى الجبال ولجأوا إلى الكهوف ، لإنهم توقعوا شر ميتة فيما لو عادوا إلى قومهم ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ) كله بسبب الخلاف في الرأي ، حتى ضنوا بالكلب أن يعيش في ذلك المجتمع ، فمجتمع من هذا النوع ليس فيه الضمانات حتى للحيوان ؟! ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا ) ولاغرابة في هذا الكلام فالمجتمع الإسلامي لاتموت فيه القطط جوعا والكلاب هرسا بدواليب السيارات ، بل يغفر الله لمن سقى كلباً عطشاناً ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت . ولكن صبراً فهذه ليست القصة ولاكامل الجرعة ، فلابد من تملي الصورة جيداً ورؤية التاريخ الإنساني في ضوء جديد ...
والسؤال الكبير والمحير والذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو لماذا الحرب ؟ كيف يقتل الإنسان أخيه الإنسان ؟ كيف نشأت الحرب وتطورت ؟ أين نشأت وماهي ظروف تكوينها الجنينية ؟ وماهي جذور العنف والحرب عموماً ؟ ثم إلى أين وصلت اليوم ؟ وماهو مصيرها في المستقبل ؟