في عام 450 قبل الميلاد عاش الفيلسوف ( زينون ZENON) في مدينة ايليا الواقعة في جنوب ايطاليا وأثار تناقضاً عقلياً لم تفارق مخيلة الفلاسفة وتفكيرهم عبر العصور، حتى أدركت مغزاه العميق الرياضيات الحديثة المتمثلة في ميكانيكا الكم، فما هو الشيء المثير في قصة هذا الفيلسوف الذي مات وارتاح في قبره، ولكنه لم يدع الفكر الانساني يرتاح حتى مطلع القرن العشرين؟! بل ماهو هذا المصطلح العجائبي: (ميكانيكا الكم) ؟؟ وأين ولد وعلى يد من؟ وماهي ظروف ولادته؟ وأثره على الفكر الانساني؟ والآثار الفلسفية التي انبنت عليه؟ ولكن لنبدأ بالقصة المسلية، قصة السهم الذي لايطير، والعدَّاء الذي يريد السباق فتتَّسمر قدماه في الأرض، وإذا أراد بطل طروادة (أخيل) أن يلحق بالسلحفاة، عجز عن ذلك مهما حاول وبذل؟!! وثق أيها القاري أنني لاأمزح كما أن الفلاسفة هم أكثر الناس جدية ومنهم صاحبنا الفيلسوف (زينون)
إن السهم الذي ينطلق لايطير، والقذيفة التي تندفع تبقى مسمَّرةً في مكانها، والعداء الذي يركض في الملعب واقف في مكانه؟!! هذه الكلمات قد يتوقف القاريء عندها ليعيد قراءتها والتأكد منها هل هناك خطأ مطبعي؟ لا... إن العبارة قد انُتقيت على وجه الدقة؛ فالفيلسوف كان يعني مايقول وهو يرى الكون يضج بالحركة من حوله!! فكيف وصل الى هذه النتيجة العجائبية؟
إن السهم حتى يطير والعدَّاء حتى يركض، أو أخيل حتى يلحق بالسلحفاة فإن النتيجة واحدة، فلا السهم يطير ولا العداء يتحرك قيد انملة في الركض فهو مسمر في مكانه، ولن يلحق أخيل بالسلحفاة مهما حاول وبذل من جهد!! ولكن كيف؟؟
طرح زينون الموضوع على الصورة التالية: حتى ينطلق العدَّاء ليقطع مسافةً ما، فإنه لابد له من قطع نصف المسافة، ولكن نصف المسافة بذاتها حتى تُقطع لابد من قطع نصفها أيضاً، أي ربع المسافة السابقة، وهكذا فنحن بدون توقف مع حركة (نصف النصف) الى مالانهاية؟! بكلمة ثانية فإن العدَّاء حتى يبدأ في الانطلاق وفي كل مرة مازال أمامه بدون توقف نصف نصف المسافة، فيبقى مسمَّرا في مكانه لان رحلة اللانهاية ليس لها توقف؟!! ينطبق هذا أيضا على حركة السهم فهو في اللحظة الواحدة يشغل مكاناً واحداً، فلايستطيع أن يشغل مكانين في نفس الوقت، أي هو ساكن فيه، إذ لو كان متحركاً لانتقل في الحيز، ونظراً لان مجموع حركات السهم هي مجموع (هذا السكون) كان معناه أن السهم لايتحرك؟!! كما أن أخيل الذي يريد أن يلحق بالسلحفاة البطيئة لن يصل اليها مهما حاول لان أمامه أن يقطع دوما نصف (نصف) المسافة التي بينهما، ولكن السلحفاة هي دوما أمامه مهما تكن المسافة تافهة، لانه سينحبس في نصف النصف التي تفصله عن السلحفاة بدون نهاية!! .
ولكن مهلاً ياسيد (زينون) أن مانراه أن السهم يتحرك فيجرح ويقتل، وقذائف الروس قطعت أجسام المسلمين في سوريا وسواهما من المدن، كان (زينون) يجيب بكل هدوء: نعم وأنا معكم في أن مانراه أمامنا من حركة السهم وأثره واقع، ولكنني اعتبره بحكم الوهم لانني لا أجد سنده العقلي مبرهناً كما أن الحجج التي اتقدم بها لاتدحض!! فالتحليل العقلي البارد كما ترون يقودني الى أن السهم لايتحرك والعداء مسمَّرٌ في مكانه وأخيل لن يلحق بالسلحفاة؟ فالمكان كما ترون مكون من نقط لاتنتهي، والزمان مكون من آنات لاتخلص، ولما كان الجسم المتحرك بين نقطتين يكون أثناء حركته بينهما خارج المكان؛ فإن الحركة تصبح ممتنعة لانعدام المكان الذي تحدث فيه.
ولفك هذا الارباك العقلي لفهم الكون والحركة فيه تعددت الاجابات بدءً من ارسطو حتى ايامنا الحالية، مرورا بفلاسفة المسلمين الاشاعرة الذين قالوا بالجزء الذي لايتجزأ، فتقسيم زينون يجب أن يتوقف عند حافة ما من أجل تمرير الحركة من نقطة الى أخرى، وانتهاءً بالفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) الذي طرح فكرة (الكانتور في اتصال الكم الرياضي) لفك معضلة زينون، عندما نتصور وجود عدد لانهائي من النقط بين نقطتين، فإن هذا يفضي الى اجتماع النقاط فتتصل الحركة. فمشكلة الحركة التي أثارها زينون قديماً ليست بهذه السهولة أو السخف، بل تقوم على جدل عميق، وهي في الواقع محاولة لفهم الحركة وكيف تحدث من خلال التأسيس العقلي لها، فزينون أراد أن يثبت لمن حوله أن الحركة تحدث ليس على الطريقة التي يظنون ، بل لها منطق خاص ، وهذا هو الذي جاءت به (ميكانيكا الكم) حديثاً؛ فالعالم الفيزيائي (هايزنبرغ) الذي جاء بمبدأ (الارتياب أو عدم التحديد: UNCERTAINTY PRINCIPLE) أو اللاحتمية (INDETERMINISM) أدرك أن زينون كان على حق واختصر المشكلة على النحو التالي في الفيزياء الذرية: لانستطيع أن نعين وعلى وجه الدقة مكان وسرعة الالكترون ؛ فعندما نريد تعيين مكانه نُخفق في معرفة سرعته ، وإذا عرفنا سرعته غاب عن أعيننا وكأنه الشبح فتبخر فلانعرف أين اختبأ ؟! أو بكلمات زينون القديمة: لايمكن للجسم أن يشغل حيزا ويكون متحركاً في نفس الوقت.