مفهوم الشهادة والشهيد والاستشهاد (2)

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة) و(الشهداء 20 مرة) و(الشهادة 26 مرة) ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت، بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي (أو ألقى السمع وهو شهيد) (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (والله على كل شيء شهيد)(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)(عالم الغيب والشهادة) (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) أو بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).

وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيها الناس من الموت في سبيل الله حصرا، بل على نحو أدق التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).

ومنه جاء كلمة (الشاهد) في المحكمة لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة، بأذن واعية وألقى السمع وهو شهيد، فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا.  و(الشهادة) بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: أولاً بنسبة ما ليس للألفاظ منها، وثانياً بالخطأ فيما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام؟

وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ.

ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ فيخسر الواقع حقيقة، ويكسب القاموس لفظة، كما يقول (النيهوم)، فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية؟ والشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة.

ستكتب شهادتهم ويسألون؟

وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى. وهنا يؤدي دور الإقرار والاعتراف لصدقه وتعلقه بفكرته والإخلاص لها بغض النظر عن صحة الفكرة.

وليس هناك من صدق أكبر من أن يقدم الإنسان حياته في سبيل قضية كبيرة.

وقد يقتل الناس من أجل عفونات كثيرة من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي، ويحصد الناس حصدا في الحروب الأهلية مثل الذباب، كما حدث في لبنان وراوندا والجزائر.

كما قد يموت أناس من أجل حفنة دولارات أو مصالح تافهة أو صراع على أرض. ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد.

ولا يوجد أرض مقدسة في نظر الإسلام؛ فالقدسية لا تخلع على التراب، ولكن تستمد قدسيتها من (القدوس) السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب و(الشهادة).

وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة. فليس كل من يموت من اجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة). ومات الكثير من الشيوعيين والفاشيين والملحدين من أجل أفكارهم فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة أو أن الفاشية منتهى التاريخ.

وهناك أناس تافهون ماتوا من أجل قضايا تافهة.

وتذكر صحفية مصرية راقبت المشنوقين على يد (العشماوي) أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات دخَّن سيجاره قبل الموت وضحك لمن حوله، وقال: هل هي سوى موتة، وهي موتتي، وكل الناس تموت، ولا يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل وآخر. فعاش مجرما ومات فيلسوفا.

وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) عندما يسأل: هل عندك استعداد أن تموت من اجل أفكارك؟ كان جوابه: لا .. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت عبثا؟!.

وفي الفلسفة المسيحية ينقل الإنجيل في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن. وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفاً من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى. ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة في أفكاره.

وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه. فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها.

والرجلان بين يدي رب العزة الآن يختصمان.

ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان فكان عبد الناصر مثل الجراح الخايب، الذي فتح بالسكين على السرطان؛ فلم يستأصله بل نشر السرطان بأشد مما كان.

ونفس سيد قطب يقول إن "كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة"؟!

ولكن الكلمات منها الصحيح ومنها القاتل؛ فإذا عاد فرانكنشتاين إلى الحياة تعدى الأمر فلم يعد مزحة بسيطة بل رعب مخيف.

ومع إعدام مروان حديد في سوريا غرق البلد في حرب شبه أهلية؟

فهذا قانون...

وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر... .

وكل محظور مرغوب...

وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما.

وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام.

وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة؟

وسقط سور الصين من اجل محظية جنرال.

وهنا تحضرني قصة؛ ففي مناسبة ما يسمى (يوم الشهداء) تبارى الخطباء في تمجيد الشهداء، بحضور مجموعة من الأمهات المفجوعات، كما كان يفعل الترابي مع حملات الجنوب، التي كان قرابينها خمسين ألفا أو يزيدون، قبل رفع الراية البيضاء للسلام، في يد سياسيين كذابين، حتى جاء دور رجل فتوجه إلى الأمهات قائلاً: لا يغرنكم قول هؤلاء فلم يكن أولادكن سوى قرابين بشرية لأصنام هؤلاء؟؟؟

فاحمرت الأحداق واشتدت القبضات، ولكنه نجا من أيديهم،  وخرج من بينهم بدون أن يضربوه بالنعال على الوجوه والأدبار.

أما الرجل فكان داعية السلام جودت سعيد ....

 

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram