حسب عالم النفس (أبراهام ماسلو) من مدرسة علم النفس الإنساني، فإن حاجيات الإنسان يمكن أن تنتظم وفق خمس طبقات من هرم، بقاعدة عريضة من خمس حاجيات فيزيولوجية هي: الشراب والطعام واللباس والمسكن والجنس، والحاجة لها تمشي حدتها مقلوبة مع أولها وتخف مع آخرها، فبدون ماء نعيش ثلاثة أيام ولكن قد نعيش العمر كلها عزابا غير متزوجين..
ويرى عالم النفس الإنساني ماسلو أن سلم الحاجيات فوق قاعدة الحاجيات الأساسية البيولوجية، هي أربع حاجات جديدة:
الأمن، والانتماء، والحاجة الى التقدير، وتحقيق الذات.
والطابق الثاني مباشرة هو (الأمن الاجتماعي)... والحاجة الى الأمن هي في عدة اتجاهات، الأمن على الحاجات البيولوجية وجوداً، وأن لا تسلب منه كالغذاء والسكن، والأمن من العدوان عليه بكل أشكال الأذيات، واختصرتها الآية الموجودة في سورة الأنفال بثلاث كلمات (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهي مصادرة حريته وحياته وانتماءه الاجتماعي.
أي إنهاء الانسان بثلاث صور: التصفية الجسدية، أو التصفية الاجتماعية في صورتين النفي الداخلي بالسجن، والخارجي بمعاناة الغربة والهجرة بكل إشكالاتها، ولا يعرف الغربة إلا من عاناها، حينما يفقد الوطن، ومعه كل الاستقرار، وكأنه شجرة تم اقتلاعها من جذورها، فإذا رجع الى الوطن بعد الغياب الطويل لم يبق وطنه الذي عرفه، كما حصل معنا، فيصبح في وضع نفسي لا يحسد عليه، فلم يعد وطنه يعجبه، ولا الغربة تسعده، فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها.
ويبقى الكثيرون من المغتربين يهومون في هذه الدوامات حتى يغيبهم الموت، فيضع الموت والفناء حداً لفقدان التوازن هذا!!
وذهب عالم النفس الأمريكي (براين تريسي) صاحب كتاب (أسس علم نفس النجاح) أن 80% من سعادة الانسان تأتي من الفعاليات الاجتماعية فتسبق المال بذلك.
ويذهب (ماسلو) الى أن توفير (الأمن الاجتماعي) يشكل مباشرة الحاجة الأساسية التي تعطي حقن التوازن الروحي للإنسان عندما يرتبط بالمجتمع.
وهو ما سماه القرآن أيضاً (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) فالضمانات ضد (الجوع) و (الخوف) أعظم شيء يمكن أن يمنحه مجتمع لإنسان.
ومن الغريب أن هذه الضمانات لا توصل الى بر الأمان على وجه اليقين، بل لابد من إضافة أكسير خاص من طمأنينة الروح.
وأتذكر من فترة أقامتي الطويلة في ألمانيا كيف كنت أتعجب منهم؟ فأقول لهم: أنتم لا تعانون من الجوع والخوف، فأنتم تسبحون في بحر من الرفاهية، وعمل مضمون، وضمانات للمستقبل ضد الشيخوخة والبطالة والمرض وحوادث العمل، ولا خوف من الاعتقالات النازية، لرأي أو نشاط أو كلمة إلا بموجب مذكرة قضائية، وينام الانسان آمنا على سربه عنده قوت يومه مطمئن الى غده.
مع ذلك كانت الوجوه كالحة مكشرة لا تشع منها أنوار السعادة والطمأنينة الروحية؟!
وكنت أتساءل لماذا؟ ما هو السر خلفه؟
وأعترف أن السر لم ينكشف لي دفعة واحدة، ولا بشكل فجائي بل جاء بالتدريج من خلال القرآن، واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة، خاصة بالاطلاع على علم النفس، ومنها مدرسة علم النفس الإنساني..
ويعتبر (ماسلو) الطابق الثالث في هرم الحاجات هو الحاجة الى (الانتماء الاجتماعي) فقد يعيش سوري في ألمانيا، يأكل جيداً، ويعمل براتب مجزي، ولا يخاف من الاعتقال العشوائي من وراء تقرير كاذب تطوع به عميل سري، ولكنه مع هذا لا يمتلك الانتماء الى المجتمع الألماني.
والانتماء هو الذي يخلق روح المشاركة الاجتماعية، والإحساس بمشاكله، والدفاع عنه لحظة الخطر، وعندما تتفشى روح عدم الانتماء؛ ينقلب المجتمع الى (شبح مجتمع) يسهل اختراقه واحتلاله، كما حصل مع تبخر نظام صدام في وجه القوات الأمريكية، غداة التهام العراق في ربيع 2003م.
ويعد ماسلو في الطابق الرابع (الحاجة الى التقدير) التي يبنيها الفرد من خلال التواصل مع المجتمع، والانتماء إليه، والارتباط المصيري العضوي معه.
ويتوج الهرم في النهاية بـ (تحقيق الذات).
وهناك مايشبه ذلك في الطرح القرآني، الذي جاء في مثل أهل القرية من آخر سورة النحل؛ أن أهل القرية حققوا شروط الصحة الكاملة عندما اجتمعت ثلاث عناصر فيها هي: (الأمن) و(الطمأنينة) و(الرزق الرغد) وعندما كفرت حصل انهيار في هذا المركب الثلاثي، ليتحول الى حالة (تلبس) مزدوج من الخوف والجوع.
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) النحل الآية 112.
وكلمات القرآن دقيقة، واعترف أنها لم تتكشف لي بسهولة لولا مفاتيح علم النفس، فيجب التفريق بين (الأمن) و(الطمأنينة) فالأولى هي (أمن اجتماعي) والثانية (طمأنينة فردية روحية)..
وأظن أنني أمسكت بالمفتاح في فهم النكد النفسي في الغرب مع كل ظروف الرفاهية التي فيها يستحمون.
فهذا المركب الثنائي (الحصانة ضد الخوف والجوع) هو شرط جامع، ولكنه غير مانع لتحقيق الحاجيات الإنسانية الكاملة، كي يستوي هرم الحاجيات الإنسانية على سوقه تماماً.
إن شرطه الناقص هو تحقيق هذه (الطمأنينة) التي طلبها إبراهيم عليه السلام في معاينة قيام الموتى الى الحياة، (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) وحواري عيسى في منظر المائدة وهي تتنزل عليهم، (وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا)، وهي ذلك المذاق التي يشعر بها المؤمنون بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وهي حالة النفس الراضية المرضية عند استقبال الموت وتوديع الحياة الدنيا (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
وهي الحالة التي حام حولها ودندن (ماسلو) في محاولة تجلية هذا البعد الجديد في حاجيات الانسان.
والآن كيف يبدو هرم الحاجيات الإنسانية في العالم الإسلامي؟