هل مات ديكارت مسموماً ؟ (2) 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

والآن ما الذي قاد ديكارت الى السويد ليلاقي حتفه فيها!!  

في خريف عام 1649 م أرسلت ملكة السويد كريستينا (ابنة الملك جوستاف أدولف)(GUSTAV  ADOLF) ضابط كبير برتبة أدميرال الى الفيلسوف المتواري في هولندا والذي كان يُروى عنه دوماً  المثل:

(عاش سعيداً من توارى في الظل وأمعن في الاختفاء عن الأنظار) تطلب منه المثول إليها الى استوكهولم لتتعلم على يديه (فن التفكير الصحيح)؟!

كان ديكارت يومها يعيش في هولندا متوارياً، يغير بيته أربع وعشرين مرة في أقل من عشرين عاماً، قد سمع بأهوال محاكم التفتيش والمصير الذي تعرض له الفيلسوف والعالم الأيطالي (جاليلو)، كما أن حرق جيوردانو برونو الذي دُشِّن به القرن السابع عشر حين أحرق حياً في ساحة عامة في روما، في عام 1600 للميلاد، عن عمر يناهز 52 سنة بعد سجن وإذلال لفترة ثماني سنوات؛ جعلت ديكارت يلجأ الى هولندا التي انتشر فيها روح التسامح الديني، فكان يسافر الى فرنسا بين حين لآخر لتدبير أموره المالية، ليعود الى هولندا يعيش حياته الخاصة بعيداً عن الناس في صحراء اجتماعية، ولكن في جنة فلسفية.

وفي هذه الدوحة الفلسفية كان يقطف ثمرات يانعة للفكر الانساني، وفيها أنضج معظم أفكاره فكتب معظم مؤلفاته بما فيها أعظم كتاب له، الذي اشتهر به وهو (المقال على المنهج) الذي أرسى فيه القواعد الأساسية للوصول الى الحقيقة في العلوم.

الشك أداة معرفية للوصول الى اليقين !!    

كان ديكارت يطمح الى الوصول الى الوثاقة واليقين التي تتمتع بصلابتها الرياضيات، بحيث يؤسس بقية العلوم على هذه القاعدة من اليقين، وكان كتابه (المقال على المنهج) في إطار توليد اليقين من أرضية الشك .

كان الشك الذي استولى على عقل ديكارت كبيرا رهيبا، بحيث قاده الى قطيعة معرفية مع عقلية العصور الوسطى؛ فشطَّب دفعة واحدة الآراء المسيطرة في المجتمع.

وشق الطريق الى اعتماد المحاكمة العقلية سبيلاً للفهم أكثر من الآراء المسيطرة، فليس هناك من وسيلة لقتل العقل مثل التقليد واتباع آراء الآباء، كما نعى ذلك القرآن على كفار قريش (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) ومضى به الشك كما حصل مع الإمام الغزالي سابقاً، حينما اهتزت عنده حتى الضروريات والمحسوسات.

كان يخاطب نفسه إذا كان كل الشعور موجوداً في المنام ولايزيد المنام أن يكون وهماً كاملاً!! فما الذي يضمن لي أن لاتكون الحياة برمتها نوعاً من الوهم الخادع على صورة منام كبير؟!

وإذا كانت الحواس تخدع، والمعرفة تاتي عن طريق الحواس، فكيف يتأتى لي أن أصدق هذه المعلومات المتدفقة الى عقلي وطريقها هو الحواس؟!   استمرت رحلة الشك حتى مرض الغزالي؛ فكاد أن يهلك كما روى في كتابه المنقذ من الضلال، وأما ديكارت فلم يمت ولكن دماغه كاد أن ينفجر في ليلةٍ حاسمة غيَّرت مجرى حياته بالكامل، في شتاء قاسي، وحرب الثلاثين عاماً الطاحنة تزهق أرواح الناس على الأرض الألمانية.

ليلة ديكارت التاريخية: 

ابتدأت حرب الثلاثين عاماً الدينية على الأرض الألمانية في عام 1618م، ولم تنته إلا عام 1648م، بعد ثلاثة عقودٍ كاملة قتل فيها الملايين من الناس من كلا الجانبين والمذهبين، من البروتستانت والكاثوليك، وعم الخراب، وانتشرت المجاعة، وتحولت ألمانيا الى أنقاض اشتركت فيها جيوش شتى من كل القارة الأوربية، ولم تُترك فظاعة الا ارتكبت، على عادة الحروب الأهلية.

ولكن أشد من عانى يومها، كان الشعب الألماني الذي مات منه ذبحاً قرابة الستة ملايين ونصف، من أصل تعداد سكان يصل الى عشرين مليوناً فقط، مما اضطر الكنيسة يومها الى استصدار قرار اشتهر بقرار نورمبرغ، أباحت فيه تعدد الزواج استناداً الى قصص العهد القديم، لتعوض النسل المنقرض، ولم تنتعش ألمانيا الا بعد مرور ثمانين عاماً (3).

ويصاب الانسان بالعجب الى حد الانبهار، كيف تولدت أفكار المنهج عند ديكارت في جو حروبٍ أهلية واضطرابات من هذا الحجم؟

ففي هذا الجو الجهنمي العجيب يروي ديكارت قصة عجيبة؛ عندما أجبرته الثلوج والبرد الى الاحتماء طيلة الشتاء الى غرفة دافئة، لايعكره فيه هوى ولاهم او حزن، حتى كانت ليلة عمد فيها الى التفكير؛ فكاد دماغه ان يحترق من وهج التفكير (كما يروي)(4) ثم جاءه مايشبه الوحي من التفكير بحيث انفتحت أمام بصيرته الطريقة الجديدة في قيادة العقل الى الأحكام الصحيحة.

إن ديكارت عندما شك في كل شيء وصل الى طرح هذا السؤال: إذا كنت أشك في كل شيء، فهل هناك شيء ولو كان وحيداً منفرداً لا أشك فيه يقيناً؟ كانت اللمعة العجيبة التي التمعت في ذهنه: نعم قد أشك في كل شيء، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه يقيناً هو أنني أشك، والشك تفكير، فهناك إذن حقيقة أساسية هي أنني أفكر لأنني أشك، وعندما أفكر فأنا موجود، على صورة من الصور، أي أن هناك حقيقة لوجودي على شكلٍ من الأشكال، فحقيقة التفكير تعني أني موجود على صورة من الصور.

ومن هنا أطلق ديكارت عبارته التاريخية: أنا أفكر أنا موجود.   

هذه الفاتحة المدهشة في نقلةٍ عقلية بسيطة، ولكنها في مثل ثقل الجبال، هي التي ساقته فيما بعد الى تأسيس الفكر المنهجي التحليلي اللاحق، الذي اشتهر به، عندما أرسى المربعات الفكرية الأربعة المعروفة :

ـ لا أقبل شيئاً مالم يكن في غاية الوضوح

ـ  كل قضية مركبة تحلل الى عناصرها الأولية

ـ  بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية

ـ  تجرى عمليات النقد الذاتي والاختبار للتأكد من كافة مراحل العمليات العقلية لإحكام ضبطها.

هوامش ومراجع:  

(3) يراجع بالتفصيل عن كارثة الحرب هذه كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت (4) كتاب المقال على المنهج ـ ترجمة محمود محمد الخضيري ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، ويعد هذا الكتاب من روائع النثر الفرنسي، وقوته هي من بساطته وسحر الأدب الذي يغلف كلماته

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram