هل مات ديكارت مسموماً ؟ (3) 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

نتابع في الحلقة الثالثة من قصة نهاية الفيلسوف ديكارت مسموما بالزرنيخ ولكن لابد من التعريج على أهم أفكار وإنجازات الرجل ولعل من ابرزها ما اهتدي إليه في مجلس كاهن كان يحرص على جمع العقول الأوربية.

طنين الذبابة وانبثاق الهندسة التحليلية:  

في ضاحية باريس عمد مفكر لاهوتي هو (مارين ميرسين)( MARIN MERSENNE)(5) في مطلع القرن السابع عشر، الى عملٍ لم ينتبه  له أحد، ولكنه كان مثل الزلزال للعقلية الأوربية، حيث كان يعمد الى عقد اجتماعين اسبوعيا يعقد فيها خيوط الاتصال بين أهل الفكر الحر في أوربا. وفي مجلسه العلمي المتواضع اجتمعت خيرة العقول الأوربية الحرة في ذلك الوقت، لتنتشر منها موجات التنوير بدون توقف.

هذا العمل كان مثل تحركات القارات الجيولوجية، ويعني للمفكرين أملاً لاينضب في إمكانية تحسين التفكير الانساني.

كان ديكارت لايكف دماغه عن العمل في كل مكان، وعندما أزعجه طنين الذبابة بدأ في التفكير عن احتمالات وجودها، فقاده هذا التفكير الى وضع قواعد المخطط البياني والهندسة التحليلية، التي أصبحت أحد أعمدة الرياضيات حتى وقتنا الحالي.

يقول جاك بيرج صاحب كتاب (عندما تغير العالم):  

(ومن الطريف والمثير أيضاً أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد في صومعة الراهب ميرسين مرتين اسبوعيا، لتسهم اسهاماً مهماً في التفسير الرياضي لتسيير الكون، فجرَّتها مجرد ملاحظات شخصية، فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتماع. أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة؛ فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي، والآخر من أسفل. هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم بالخط البياني)(6)

جمجمة ديكارت وعظامه الناقصة: 

حتى يثبت الدكتور والصحفي (آيكه بيس) مزاعمه حول تسمم ديكارت قام برحلة بحث حول بقايا عظام الفيلسوف بعد مرور ثلاثة قرون ونصف على بلاها؛ فتبين له أن عظامه وصلت ناقصة الى فرنسا  بعد دفنه في السويد عشية وفاته، حيث تم استخراجها من جديد ودفنها عام 1666م مرة أخرى في كنيسة القديس جرمان دي بري، ولم يُنتبه الى أن الهيكل غير كامل الا بعد فتح التابوت عام 1819م،  ولم تصل الجمجمة لتوضع في المتحف الانساني في باريس الا في عام 1878م .

يقول الدكتور بيس عندما وضعت يدي على جمجمة الفيلسوف أردت أن أغامر فأقوم بكحت العظام وأخذ عينة منه لكشف آثار الجريمة، فالزرنيخ المعدني لاتخيب آثاره في الكشف عنها ولو بعد قرون، ولكن جرأتي خانتي في مشهد من هذا النوع !!

وأما تتمة قصة الرسالة فَعُرف أن الملكة كريستينا قامت بحملة سياسية لإعلان موت الفيلسوف، أن سببه كان التهابا رئويا صاعقا ، وعندما علمت بأمر رسلة طبيب البلاط  قامت بمصادرتها، وأحيلت الى الأرشيف الملكي، ليكشف النقاب عنها بعد تطاول القرون،  في أرشيف جامعة ليدن التي حفظتْ الوثيقة.

التصفية الجسدية لأهل الفكر:  

جرت العادة في العصور الوسطى أن يتم التخلص من مقلقي النوم العام (كذا؟)، فأي فكرة تطرح يجب أن لاتوقظ نائماً ولاتزعج مستيقظاً، فإذا انتشرت الفكرة اعتبر صاحبها من المفسدين، فالتهمة التي وجهت لموسى عليه السلام أنه (يظهر في الأرض الفساد)...

أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك؟؟ 

وكانت العادة تجرى بعزلهم عن فكر المجتمع في ثلاث صور، فإما النفي أو السجن أو التصفية الجسدية (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله).

وينطبق على صاحب الفكر قانون الدجاجة المجروحة، فعندما تكتشف الدجاجات أن إحداهن مجروحة ؛ تُهرع إليها فتنقر مكان الجرح النازف حتى الموت، ولكن القدر التاريخي يبدو أنه يسير في مسرى آخر، في غير هذه الصورة القاتمة، بل إن التغير الاجتماعي يحدث ضمن دورة مختلفة، ترسي في النهاية لصالح الفكر التغييري الأصلح، ضمن جبروت القانون الالهي بأن الزبد يذهب جفاءً وماينفع الناس يمكث في الأرض.

ودفاع المجتمع عن أفكاره مبررٌ في قسم منها والا تعرض المجتمع لهزات لانهاية لها مع نزوات البشر بدون نهاية، ولكن صمود وأحقية الفكر التغييري هو الذي يعطيه طاقة الصمود والتحدي والصبر حتى تجاوز معصرة المحنة والتطهر من خلالها، ونقل المجتمع الى عتبة جديدة أكثر تقدمية.

وأياً كانت صحة قصة تسميم ديكارت فالتصفية الجسدية لأهل الفكر ليست جديدة ، حتى إن القرآن عندما أشار الى نفي الصلب عن المسيح كان ـ في تقديري ـ ينطلق من خلفية أهم من كونه مات على الصليب أو قُتل بطرق أخرى، فالقرآن يشير الى أن كثيراً من الأنبياء قتل، وليست جديداً محاولة صلب أحد الأنبياء (وقتلهم الأنبياء بغير حق).

في تقديري كانت حركة القرآن لنفي قصة الصلب وصولاً الى تحييد العقيدة التي قامت عليها قضية الصلب: أي التثليث وألوهية المسيح، أكثر منها لنفي الطريقة التي قتل فيها ، بسبب ارتباط العقيدة بطريقة القتل .

هوامش ومراجع:  

(5) يراجع كتاب عندما تغير العالم ـ تأليف جيمس بيرك ـ ترجمة ليلى الجبالي ـ عالم المعرفة رقم 185 ـ ص 196 (6) نفس المصدر السابق ص 201

 

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram