مفهوم لا إكراه في الدين:
إن القرآن حينما طرح شعار (لا إكراه في الدين) أراد منها تحييد الجسد في لعبة الصراع الفكري، وهذا المفهوم ينبثق عنه ثلاث مفاهيم خطيرة مازال الجنس البشري يعس من أجل تحقيقها، ولم يصل الى ذلك حتى الآن الى بعضها الا بشق الأنفس.
هذه المفاهيم الثلاثة هي بالتتالي:
(1) ـ أولاً: تحييد العرق، وبذلك يتوقف الصراع العرقي وتزول العنصرية من العالم.
(2) ـ ثانياً: كما يصب تحييد الجسد في مفاهيم العنف واللاعنف فيتوقف إكراه الانسان وتعذيبه من أجل معتقداته، فلايقتل الانسان من أجل أفكاره، بل بما جنت يداه، والقرآن مشى في اتجاهين في مواجهة هذه المشكلة الانسانية التاريخية.
فهو أولاً: أعلن من جهته توقف الاكراه في العالم، بكل صوره، فكلمة (لا إكراه في الدين) كلمة جامعة شاملة لكل المعتقدات والمباديء والأديان، فنفى كل صور الضغط والاكراه وضمن أي دين أو مبدأ .
ومن هذا النبع النمير نكتشف بؤس الفقه حين دشن مشروعية قتل المرتد أي من يغير معتقداته، على الرغم من عدم وجود نص واحد في القرآن يفيد هذا الحكم الشنيع، فمن أراد دخول الإسلام ثم الخروج منه عليه أن يخرج بدون رأٍس؟؟ ومن أراد صناعة السيارات عملها تمشي للأمام فقط، فإذا دخلت الكاراج وأرادت الخروج انحشرت فما غادرته أبد الدهر؟؟
رفع الأكراه هو في اعتناق مبدأ أو تركه، دخولاً وخروجاً، وكان هذا الاعلان ـ وهو أمر مثير ـ أنه جاء من طرف واحد، وليس في صور اتفاقيات متعددة الجوانب؟ وهذا يفسر قسماً من سر انتشار الاسلام في العالم وانسياحه حتى هذه اللحظة في ضمائر البشر جميعاً.
وهو ثانياً: ترك الهامش أمام (التظاهر) بالتراجع عن المبدأ في حال التعرض للاكراه (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) كله في محاولة لتحييد الجسد عند اختلاف الآراء والعقائد، من أجل الوصول الى مجتمع انساني حر التفكير خالي من كل صور الاضطهاد والضغط المادي والأدبي، فلا تستخدم أي صورة من صور الضغط لادخال الناس بالقوة في أي مبدأ، أو إخراجهم من أي دين بالقوة، في كلا الاتجاهين، دخولاً وخروجاً.
والعنف المادي ضمن هذه البانوراما هو تلك الوسيلة التي تحتكرها الدولة لتحييد كل صور الاكراه على الانسان ضمن المجتمع كي يعيش آمناً، والجهاد بمعنى استخدام الآلة المسلحة هو لرفع الظلم عن الانسان أينما كان، والظلم من أي جهة انطلق حتى لو قام بها مسلم، من أجل إيقاف عملية إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة، فهي دعوة لأقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الانسان أممياً، وبذلك يتحول العالم الاسلامي تحت هذا المفهوم وضمن هذه الصورة الى مكان يهرب اليه اللاجئون السياسيون كل مكان وليس العكس. ومن عجيب تفكير الإصوليين أنهم يقولوا نعم هناك حرية اعتقاد ولا إكراه ولكن هذا في الدخول أما الخروج فلا؟!! بدون أي مستند من النص. وكله تأويل فاسد ضد العقل والمنطق والتاريخ والإنسانية والتطور الدافع للتقدم الإنساني ..
(3) ـ ثالثاً: كذلك يدخل ضمن تحييد الجسد حل جذري لمشكلة المرأة، كما يتحسن وضع المراة في العالم، فوضع المرأة غير مريح في الشرق والغرب على حد سواء، وعندما يتم تحييد الجسد من خلال الجنس، تتوقف المساومة على جسد المراة، التي أخذت طابع المراهنة على الجنس، ونسيان انها انسان كامل وروح متميزة.
مفهوم تحييد الجسد في الصراع الفكري:
لعل ديكارت لو بعث في أيامنا الحالية كان سيتمتع بوضع اوربا وكيف أينعت الثمرات التي وضعها هو وجيل الفلاسفة من القرن السابع عشر، وما وصلت إليه في الخلافات الفكرية، فالانسان في الغرب لايعذب من أجل أفكاره، ولايقتل من أجل معتقداته تركاً أو اعتقاداً وتحولاً، كما أن الأرض الأروربية أصبحت إن شئنا أم أبينا ملجأً للفارين السياسيين، الذين يبحثون عن نجاة لجلودهم من محاكم تفتيش القرن العشرين، فالمسعري السعودي حمته بريطانيا وحين تدخلت السياسة فطيرته لكوبا وترينيدياد تدخل القضاء البريطاني فأعاده لضباب لندن، كذلك الحال مع الغنوشي والبيانوني في اسكتلنده وويلز. كذلك الحال مع البيطار البعثي والحوراني الاشتراكي الذي آوتهما فرنسا، والعطار الذي يقضي بقية أيامه في سلام في آخن من حيث انطلقت الحملات الصليبية على الشرق الأوسط في القرون الوسطى، عظة للغافلين وآية للمتوسمين..
كذلك حققت الحضارة الصناعية ماهو أهم من انتاج السيارات والطيارات من نقل السلطة السلمي، وتدخل أوربا الآن تحولاً مذهلاً لم يعرفه الجنس البشري من قبل وهو الاتحاد بغير طريقة نابوليون أو هتلر، فلم تعد ألمانيا فوق الجميع بل مثل الجميع، ولم يعد توحيد أوربا بمدرعات غودريان ومدفعية نابليون بل باتفاق المونتان لإنتاج الحديد المشترك في الوحدة الاقتصادية. وحكام أوربا يجتمعون ليتحدوا بدون اجتياح أحد للآخر، وبدون أن يخسر أحد زعامة أو مالاً أو أرضاً. ولايعني هذا أن نهاية الرحلة الانسانية سوف تختم على طريقة فوكوياما بالديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية الغربية، فالانسان الغربي حقق الرفاهية والأمن الاجتماعي ولكنه لم ينجح في الطمأنينة الروحية بعد، أما نحن في عالم الأطراف والمحيط؛ فلا رفاهية ولا أمنا، بل رحلة الجوع والخوف والتيه والهولوكوست إلى قرون طويلة، وذرارينا الذين يولدون في الشرق المنكوب ليس أمامهم إلا المجهول والانفجارات والمذابح الأهليه والحروب الطائفية وحكم البعث والعبث، ومؤامرات النصرانية والناصرية والشيع والتشيع والوقوف في خنادق الزمن متجمدين عند خلافات طواها الزمن. والرحلة طويلة أمامنا لنتعلم، ولكننا لن نخرج عن خط التحول التاريخي بحال، إنما هي المسافة الزمنية قرونا بين ذلك طويلة..