نكتب عن التاريخ الحزين لنا والمفرح لغيرنا ونؤرخ ليوم الثاني من يناير من عام 1492م قبل 530 سنة نهاية غرناطة والوجود العربي الإسلامي. بنفس السنة يحصل تطور تاريخي مفصلي فما ذا حدث؟
قبل مايزيد عن خمسة قرون وفي أيام خريف عام 1492 للميلاد، رست ثلاث سفن اسبانية تحمل اسماء (نينيا) و (سانتا ماريا) و(بينتا) بامرة البحار الايطالي كولومبوس على شاطيء أحد جزر البهاما، في أكبر غلط جغرافي عرفه تاريخ العلم، وفي أكبر كشف ولدته الصدفة المحض، ليقلب تاريخ الشعوب الاوربية الفقيرة الجاهلة، فالارض التي كانت ثلاث قارات تحولت الى سبعة، مضيفةً أربع قارات غنية الى حساب الغرب، ومعها آلاف الجزر الغنية التي لايحصيها العدد، في أكبر انعطاف وخسارة تاريخية للعالم الاسلامي.
يكاد الانسان لايصدق عندما يقرأ مغامرة البحار الايطالي (كريستوفرو كولومبو)(CRISTOFRO COLOMBO) الذي سماه الاسبان (الدون كريستوبال كولون) (DON CRISTOBAL COLON) والذي اشتهر لاحقاً باللغة الانكليزية العالمية تحت اسم كريستوف كولومبوس (CHRISTOF COLUMBUS)( مجلة الشبيجل الألمانية (DER SPIEGEL) عدد 1 ـ عام 1992 م ص 100 وقد نشرت يومها بحثاً مزلزلاً تحت عنوان نهب العالم الجديد (DER RAUB DER NEUEN WELT) في ست حلقات لكشف الآثار العميقة والبعيدة لرحلة كريستوف كولومبوس، ولفظة (الدون) تعني بالاسبانية السيد العظيم (وكريستوبال) معنى حامل المسيح و(كولون) معنى الستعمر أو المستوطن، وهكذا فاسمه أصبح يرمز الى حمل رسالة المسيح ونشره من خلال الاستعمار والاستيطان في العالم الجديد ومن هنا جاءت لفظة الكولونيالية بمعنى الاستعمار من كلمة كولون) الذي ظن بوصوله الى جزر البحر الكاريبي أنه قد وطأ الهند، في لحظة تاريخية حاسمة، وبقي تحت تأثير هذا الخطأ الجغرافي الفادح حتى مماته عام 1506 م، وهو في الواقع اكتشف ماهو أهم من الهند، اكتشف عالماً جديداً لم يكن الهنود الذين اكتشفهم فيه هنوداً، بل كانوا السكان الأصليين لقاراتٍ جديدة غنية حظي بها الغرب في ضربة حظ تاريخية بين غفلة العالم الإسلامي عن مسار التاريخ وضعف السكان الاصليين. والهنود الحمر الذين أبادهم المستوطنون الأوربيون بالبنادق والمدافع والحرب البكترولوجية لم يكونوا هنوداً من قريب أو بعيد، في صدفة تاريخية عجيبة لم يحلم بها أحد. ولكن التاريخ حقق عندها انعطافاً لمصلحة الغرب ضد العالم الاسلامي. الشيء الذي توصل إليه البحار كولومبوس لم يفطن الى قيمته لا نفس المكتشف ولا الجيل الذي قام بهذه المغامرة الكبرى. ونحن اليوم نستطيع أن نفهم الحدث أكثر بكثير من نفس مكتشفه الاساسي كولومبوس بعد الامساك بالكرونولوجيا التاريخية ولماذا يحدث الذي لايحدث؟
يطرح الكاتب (النيهوم) تساؤلاً حزيناً على هذه الصورة: (وطننا العربي يقع في خانةٍ تضم أكثر الشعوب عجزا عن ملاحقة مسيرة الحضارة، وهو موقع لا مبرر للشكوى منه، سوى أن الحضارة بأسرها ولدت في وطننا، وأن السفن والاسلحة التي ارتاد بها الاوربيون قارات العالم الجديد كانت في ايدينا قبل أن يعرفها الاوربيون بثلاثة قرون على الأقل، فلماذا يحدث الذي لايحدث وكيف يمشي وطن وناسه الى الوراء؟).
وعندما يحاول أن يفهم البانوراما التاريخية أو السياق الكوني ويحاول الامساك بالكرونولوجيا التاريخية يصف أبعاد الانقلاب التاريخي بكلمات قليلة ومعاني حزينة ومزلزلة: (في العالم القديم الذي شهد غارة الصليبيين على الوطن العربي منذ ألف سنة تقريباً كان العرب هم أصحاب الجيوش النظامية المتطورة، وكان موقعهم على أبواب آسيا وأفريقيا يضع بين أيديهم المفاتيح الذهبية للتجارة بين القارات، ويضمن لهم معركة سهلة ضد عصابات صليبية مفلسة، يقودها رجال أميون من طراز ريتشارد قلب الأسد). ويقرر الكاتب بعد ذلك تحول المسار التاريخي لميزان الغرب على الصورة التالية: (في العالم الجديد الذي نعرفه الآن يملك الصليبيون المفلسون أنفسهم وهم شعوب غرب أوربا جميع مفاتيح التجارة الدولية بين القارات ويملكون أيضاً ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربعة أنهار من كل ستة أنهار، وخمسة فدادين، من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، وثمانية قروش، من كل تسعة قروش ونصف). ولكن ماهو السر خلف هذا الانقلاب الصاعق؟ يجيبنا الكاتب بقوله : (سبب هذا الانقلاب الصاعق أن شعوب أوربا الغربية بحكم موقعها على المحيط الاطلسي في عصر تميز بتطوير الملاحة المحيطية على أيدي العرب، قد ارتادت فجأة ثلاث قارات ومئات الجزر المأهولة بشعوب بسيطة السلاح والتنظيم، فأبادت سكانها بالبنادق، وفتحتها لاستيطان ملايين من مواطنيها، الذين تولت الشركات أمر تهجيرهم، وتمويل مشروعاتهم في العالم الجديد، منذ مطلع الغارة خلال القرن السادس عشر)
فكرة الكرونولوجيا التاريخية
عندما نرى كولومبوس مع تسعين بحاراً يضعون أقدامهم في جزر البهاما من جزر البحر الكاريبي، وهم يظنون أنهم وصلوا الى الشرق من خلال الابحار غرباً، على أساس كروية الأرض، ويسمون أهل الجزر الطيبين الذين يحسنون استقبالهم ويرحبون بهم بالهنود، تبقى هذه (اللقطة) من الكرونولوجيا التاريخية في إطار الرحلات الممتعة والمغامرات الشيقة، كما نرى أفلام الرحالة والقراصنة، ولكن الفيلم يكون قد بدأ من هذه اللحظة، فإذا أمسك أحدنا باللقطات التاريخية بدون ربط الواحدة بالاخرى، فإنه لايفهم السياق التاريخي ولايضع يده على السر المصون، القريب المحجوب عن العيون، والفيلم نفهمه عادةً بسبب وصل اللقطات ببعض وإدخال الحركة عليه بالسرعة، فالمنظر الواحد يبقى جامداً ولكن تتابع اللقطات والمناظر بسرعة معينة، يدخل عليه الحياة، ويعطينا بالتالي إدراك المغزى الخفي خلف هذه الأحداث التي تتالى، من حصيلة مجموعات جامدة من اللقطات، فهناك سببية تربط بين الأحداث.
جدلية السبب والنتيجة
من هنا نعلم أن كل حدث هو نتيجة لما قبله وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده، ويصدق هذا على الأحداث الرهيبة التي شاهدناها في راوندا وبروندي وزائير ولاحقا سوريا من زحف الآلاف الهاربة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا، في حروب أهلية بئيسة لا تشذ عن صرامة القانون الاجتماعي الذي أوردناه في جدلية الأحداث، ضمن سياق سنة اجتماعية. فما حدث الآن بين قبائل الهوتو والتوتسي لم يأت من فراغ، بل لابد من رؤية السياق التاريخي وتبادل آثار الفعل ورد الفعل المدمرين، من تبادل جرعات الحقد والانتقام المتبادل، وتوزيع أدوار القوة والمذابح المتواترة. كذلك الحال في البوسنة فلا يمكن رؤية الأحداث في ضوء مذابح عام 1992 م بل العودة الى معركة (أمسل فيلد)(AMSELFELD) عام 1389 م التي خلَّدها العثمانيون في تاريخهم باسم معركة (قوص أوه) قبل ستمائة عام من ذلك التاريخ، بل العودة الى التقسيم التاريخي، الذي قام به الامبراطور ثيودسيوس عام 389 م حينما قطع الامبراطورية الى حصتين بين ولديه اركاديوس وهونوريوس، ولم تتحد الامبراطورية بعد ذلك قط، حذاء صدع تاريخي في المنطقة التي نسميها اليوم البلقان، دعى الى حدوث شرخ ديني موازي للشرخ السياسي.