الخلفية السياسية للصراع المذهبي
هذا الصراع يفتح أذهاننا لفهم أرضية الصراع المذهبي، فيعطي فكرة عجيبة خفية عن نشوء الفرق الدينية، التي تلعب السياسة دوراً كبيراً في تشكلها، فليست الاديان تفجر الحروب، بل النزاعات هي التي ترتدي ثوب الدين فتولد الصراعات، وفي البلقان تشكل عند هذا (الصدع) بالذات الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية، تحت خلاف مذهبي يكاد الانسان لايصدقه ( يتعرض الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه (محاضرات في النصرانية) الى جوهر الخلاف بين الكنيستين عند نقطة انبثاق الروح القدس، وهو خلاف ربما لو سألت اليوم اتباع كلا الكنيستين لما عرفوه، فتقول كلا الكنيستين بالتثليث ولكنهما اختلفا عند نقطة انبثاق الروح القدس فقالت الواحدة بانبثاقه من الآب والابن وقالت الثانية بانبثاقه فقط من الآب)، فالكروات تابعون لكنيسة روما، والصرب تابعون لكنيسة موسكو، التي كانت من قبل في القسطنطينية، قبل تحولها الى (استامبول) المحرفة من كلمة (اسلام بول أو اسلام بوليس)(ISLAMPOLIS) أي مدينة الاسلام، كما كانت من قبل (قسطنطين بوليس) أي مدينة الملك قسطنطين، الذي اعتنق المسيحية عام 325 م وأنشأها لتكون منارة إشعاع للديانة المسيحية في الشرق، فحولها محمد الفاتح عام 1453 م الى اسمها الجديد، بعد أن حافظت على كيانها الثقافي أكثر من ألف عام، خلافاً لروما التي دُمرت على يد قبائل الهون مبكراً عام 425 م، كما حوَّل محمد الفاتح كنيستها الشهيرة (أيا صوفيا) الى مسجد اسلامي في جو من عدم التسامح، الذي كان يسود العالم وقتها، ونسي فيه المسلمون الروح العمرية في تعامله مع كنيسة القيامة، عندما رفض الصلاة داخلها، حتى لايتخذها المسلمون ذريعة فيحولوها الى مسجد، وبذلك حافظت كنيسة القيامة على نفسها حتى اليوم، شاهداً على روح التسامح والتعددية في الاسلام. ولقد شاهدت أثر هذه الروح في مسجد قرطبة الرائع حيث حشر داخله على كنيسة غير متناسبة مع هندسة المسجد في الوقت الذي لم يبق أحد يصلي في المسجد أو الأندلس. يومها قمت بالأذان في محراب المسجد وعلى ظهري طفلتي أروى وقلت فلتنتعش عظام أهلها المغيبين في قبور التاريخ.
الابحار باتجاه المجهول عبر بحر الظلمات
هذا الانهيار الذي حدث للجناح الشرقي للعالم الغربي، أي انهيار بقايا الدولة البيزنطية عجَّل بأمرين، فسقطت غرناطة بعد 39 سنة من سقوط القسطنطينية عام 1492 م وشعر الغرب بالاختناق وانقطاع السبل أمامه الى الشرق، بعد أن تحول البحر المتوسط الى بحيرة عثمانية، تسيطر عليه دولة عظمى بمقاييس ذلك الوقت، وانقطعت الطرق البرية التي أصبحت تحت رحمة الجند العثمانيين، وانقلب الشرق الاوسط حتى تونس الى ولايات عثمانية، وتكفل القرصان (خير الدين برباروسا) ومساعده (تورغوت) بإدخال الرعب في مفاصل الاوربيين، وأخذت أوربا تفكر جدياً الآن باجتياج جديد من طراز معركة بلاط الشهداء (بواتييه) بعد أن قفزت قوة اسلامية فتية جديدة الى الساحة العالمية، عندما زحف العثمانيون ثلاث مرات الى قلب أوربا كانت ذروتها حملة الخريف من عام 1683 م. فلم يبق أمام الغرب الا أن يستند بظهره بكل قوة الى مخرج من هذه الأزمة الحضارية ولو بدخول بحار الشياطين وظلماته، فاخترقت أوربا بحر الظلمات مع كل إدراكها أنها تبحر الى المجهول، الى بحيرات تغلي ناراً، ومنحدرات تخطف السفن، وسيكلوبات (كائنات ماردة) بعين واحدة تفترس البشر.
الآثار الخطيرة الناجمة عن سقوط القسطنطينية
الضغط العثماني إذاً من الشرق الذي بدأ باجتياح الضفة الشرقية لأوربا وتدمير الصرب في معركة أمسل فيلد ومقتل ملكهم لازار الذي يحتفلون بذكراه كل عام حتى اليوم، ومروراً بسقوط القسطنطينية الذي أحدث دوياً مرعباً ارتجفت له مفاصل الغرب، وتابع الزحف العثماني مسيرته الى البقان، فترتب على الامتداد وسقوط القسطنطينية بوجه خاص أمورٌ في غاية الأهمية:
الأول: تحولت القوة العثمانية الى قوة عالمية مزدوجة الامتداد (أوربية آسيوية) وبدأت في الزحف باتجاه البلقان الذي سيسقط برمته بعد قليل في أيديهم ولمدة قرون.
الثاني: تحول حس الدفاع في دول أوربا المتنازعة بعدها للدفاع عن الميراث المسيحي كوظيفة مركزية، خاصةً بعد امتداد يد العثمانيين ثلاث مرات لحصار قلب أوربا (فيينا) انتهت الحملة الثالثة عام 1683 م على ماذكرنا، عندما كان اسحق نيوتن يكتشف قانون الجاذبية ويكتب كتابه الموسوم (المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعيةPhilosophiea Naturalis Principia Mathematica)
الثالث: انتقلت الزعامة الدينية للكنيسة (الارثوذكسية) الى مركز آخر استمر حتى هذه الساعة وهو (موسكو) وهو مايفسر التعاطف التاريخي بين الصرب والروس باعتبار انتمائهما المشترك لكنيسة واحدة.
الرابع: هرب مجموعة كبيرة من العلماء الى ايطاليا، مما حرك الجو الفكري هناك، وساهم في قيام النهضة العقلية في أوربا، فمن ايطاليا بدأت النسمات الأولى لحركة التنوير، كما كانت بنفس الوقت خسارة للدولة العثمانية التي كانت قوة عسكرية ضخمة، ولكنها لم تكن ذات تألق عقلي وفكري متميز.
الخامس: ولعله أخطر ماحدث على الاطلاق، فلقد خسرت أوربا مع سقوط بيزنطة بوابة الدخول الى البحر الأسود، وهذا يعني بكلمة أخرى حرمانها من الاتصال بالهند، فعمدت الى اكتشاف طرق جديدة بعد أن قطع العثمانيون الطريق عليها، وأصبحت في وضعية المحاصر وظهره الى جدار الاطلنطي (بحر الظلمات) وليس هناك من تقنيات لاجتياز المحيطات، فكانت المحرض لاكتشاف الهند من الغرب وليس من الشرق، كما يلف الانسان لحك أذنه اليمنى باليد اليسرى، فكانت هذه الأزمة الأوربية نعمة عليها كما ظهر بعد ذلك ، لأن المسلمين سُجنوا خلف مضيق جبل طارق ، في زنزانة البحر المتوسط ، حين قفز الغرب لامتلاك أربعة قارات جديدة عبر المحيطات ، ولتصب كل كنوز الأرض في خزائنهم ، وليصبحوا مركز الثراء العالمي ، يُهرع إليهم كل من في جيبه قرش للادخار لديهم !! وما يتبعه من قيام الطبقة الوسطى والثورة الصناعية وبروز البورجوازية وقيام المؤسسات الدستورية وولادة الديموقراطية ، فكان انقلابا مريعا محزنا ، انكسر معه التوازن التاريخي بالكامل بيننا وبين الغرب.
السادس: ارتبط سقوط القسطنطينية مع سقوط غرناطة كضربة انتقامية، فسقوط الأولى كان عام 1453 م والثانية 1492 م بفارق 39 سنة، ولكن التاريخ ينقل إلينا خبراً مثيراً آخر مفاده أن شهر يناير الذي سقطت فيه غرناطة كان يدشن بالموافقة على مشروع كولومبوس لعبور بحر الظلمات في رحلة الى المجهول، بحثاً عن الذهب لتمويل حملات صليبية جديدة، ووصولاً الى الشرق من خلال الابحار عن طريق الغرب، في أعجب رحلة من نوعها لايقارنها اليوم الا رحلات ارتياد الفضاء لكشف المريخ.