بمناسبة انعقاد مؤتمر العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) في مدينة سان دييغو (SAN DIEGO) في مقاطعة كاليفورنيا الأمريكية، في نوفمبر من العام 1995 م في ذكرى تأسيسها قبل ربع قرن من الزمان، احتشدت مظاهرة ضخمة من العلماء زاد عددها عن عشرين ألف عالم في شتى ميادين العلوم العصبية: من الذين يعملون في تشريح الدماغ (ANATOMY) وفسيولوجيا الاعصاب، وجراحة المخ، وأبحاث الخلايا العصبية، وعلماء النفس، والفلاسفة، وكيمياء الدماغ، والمخدرين، والمعنيين بالمخدرات والمدمنين وعالم الجريمة، وجماعات التنويم المغناطيسي، والمعتقدين بالباراسيكولوجيا، وأطباء النفس العصبي (PSYCHONEUROLOGY)، أطباء الصحة النفسية، وعلماء الكمبيوتر، والمعلوماتيين.
كانت عناوين الابحاث فقط (ABSTRACTS) تضم ثلاث مجلدات ضخمة. كان هدف الاجتماع هو محاولة حل المشكلة الفلسفية القديمة في اكتشاف الذات؟! من يكون أنا؟ ماهو الوعي واللاوعي؟ ماهو التفكير؟ وكان أطرف ماجاء في المؤتمر بعض الاختراقات المعرفية الجديدة التي قدمها بعض العلماء مثل (بنيامين ليبيت)(BENJAMIN LIBET) الذي يعمل في فسيولوجيا الاعصاب، من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، حول ظاهرة غياب الوعي عن الحاضر، فالوعي يتأخر دوماً عن اللحظة الراهنة بأجزاء من الثانية، فهو يلهث للحاق بنبض الزمن عبثاً، فنحن عملياً خارج الزمن الفعلي؟ ومنها التي قدمها الدكتور (انتونيو داماسيو)(ANTONIO DAMASIO) من جامعة (إيوا)(IOWA) حول فهم جديد لجدلية العواطف والعقل، في تقسيم مثير للعواطف الانسانية فيما يشبه طيف الضوء، فكما يتجمع طيف الضوء الأبيض من سبعة ألوان في حزمة واحدة، حولته الى اللون الأبيض الذي نشعر به، كذلك انبثقت تصرفات الانسان من حزمةٍ من خمسة عواطف هي : الحزن والسرور، الخوف والغضب، والاشمئزاز، ليصل في النهاية الى دراسة ميدانية مثيرة، في تطبيق مقياس خاص على قياس العواطف ونبض العقل ونظم الأفكار عن طريق فحص مادي لتعرق الجلد).
حادثة المريض ايليوت (EIIIOT):
كان الصداع الذي استولى على المريض مبرحاً، لايفارقه ليل نهار مما اضطره الى مراجعة طبيب الاعصاب الدكتور (انتونيو داماسيو) الذي اكتشف عنده ورم في المنطقة الجبهية من الدماغ.
كان المريض السيد (ايليوت) ذو وظيفة محترمة، في حياة زوجية مريحة، وفي علاقات ممتازة مع زملاءه وجيرانه، وباستشارة جراحي الأعصاب تم التداخل الجراحي لاستئصال ورم سليم في الفص الجبهي الدماغي. تمت العملية بسلام ورجع المريض الى بيته معافاً ... ولكن؟؟
تناقض الذكاء والتصرفات:
بعد العملية الجراحية بفترة قصيرة بدأت شخصية السيد ايليوت بالتغير تدريجياً، كما هي في حادثة عامل الطرق (فينياس جاج) الذي اخترق جمجمته قضيب الحديد (1) التي عرضنا قصته فيما سبق، مريضنا الجديد ولى ظهره لزملائه وعاف أقرباءه. خسر وظيفته. بدأ يدخل في مضاربات مالية خطيرة أودت به الى حافة الافلاس. انهدمت عائلته وفارقته زوجته. لم يعد يستيقظ مبكراً وتحول الى رجل بدون طموح. لم يعد يدقق في المواعيد والزمن وتحول الى كم فوضوي.
يقول الدكتور (داماسيو): الشيء الذي لفت نظري في هذا المريض والذي حرضني للبحث العلمي، هو أن ذكاءه لم يضطرب فبقيت المحاكمة العقلية صافية دقيقة، لم تخنه ذاكرته. كانت فحوصات الذكاء عنده (I Q) عادية، وتذكر الكلمات والأرقام على مايرام. قدرة المحاكمة كما هي. بل حتى منظره الأنيق وروحه الفكاهية لم يخسرها. مع كل هذا فإن المريض (ايليوت) أصبح عاجزاً في أن يترك لوحده ليحل مشاكله اليومية منفرداً. وكان السؤال ماالذي أوصل المريض الى حافة الانهيار هذه؟ وأي خلل ترتب بعد هذه العملية الجراحية التي لم تستخرج سوى ورماً حميداً تخلص منه المريض في الظاهر؟ ماهي نوعية الاتصالات العصبية التي تدمرت من جراح الاستئصال الجراحي؟
هذه الحادثة دفعت الدكتور (داماسيو) أن يكرس عشرين سنة من العمل الشاق في الأبحاث العصبية قبل أن يتقدم ببعض النتائج المتماسكة في مؤتمر جمعية العلوم العصبية في سان دييغو الذي أشرنا إليه. ولكن قبل عرض نتائج الدكتور داماسيو عندنا رحلة مثيرة في دراسة الوعي عند الانسان أماط العلم اللثام عن طرف منها.
عصر اكتشاف الذات:
اهتم الانسان بشغف في اكتشاف العالم الخارجي ونسي نفسه، ربما بسبب الصعوبة النوعية، أو ربما لشدة قربها من الذات، فكيف تريد الذات دراسة نفسها بدون إطلالة خارجية، ولكن وعي الذات في الحقيقة هو أرفع أنواع الوعي.
هذه الحقيقة انتبه لها العلماء مما جعل الرئيس الأمريكي السابق بوش يعلن عن افتتاح (عقد) اكتشاف الدماغ الانساني. واليوم لايسعى العلماء فقط لاكتشاف الكوارك في الذرة (2) ولاخفايا ميكانيكا الكم، أو ولادة النجوم في المجرات، بل يغطسون باتجاه العالم الداخلي، والنزول على سطح الكوكب الجديد: رأس الانسان.
الأبحاث العصبية اليوم هي من أكثر الأبحاث إثارةً وسريةً بأعتى من الأبحاث النووية، وارتياد الفضاء، وسبر المحيطات، وفلق البروتون.
مراجع وهوامش :
(1) تراجع مقالتي رقم 96 التي نشرت في جريدة الرياض السعودية ـ العدد 10251 تاريخ 18يوليو 1996 م الموافق 3 ربيع أول 1417 هـ (2) يعتبر الكوارك حتى الآن من أصغر الجزيئات دون الذرية فالذرة تتكون من نواة فيها بروتون ذو شحنة إيجابية والكترون سابح حوله بشحنة سلبية ، ونعرف اليوم أن نفس البروتون مكون من ثلاثة من الكوارك ولكن هل هذه نهاية الرحلة ؟ أم انها بدون نهاية باتجاه العالم الأصغر ، وهي كذلك بدون نهاية باتجاه العالم الأكبر عالم المجرات ، أي أننا مطوقين باللانهايتين من فوق ومن تحت ؟!