بنيت الأهرامات لغرض الخلود، وتم ترقية تقنية التحنيط من أجل الخلود، وليس من خالد، وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، ولكن الشيطان دخل إلى آدم من هذا المدخل بإغرائه بالخلود، وهذه القصة مكررة في كل الثقافات حتى أيامنا الحالية.
كما أعلنت مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 16/ 2017 عن قهر الموت بالتقنية الحديثة، ومن هذه البوابة تقول الأساطير اليونانية أن الساحرة (سيرسا CERCA) أقنعت مجمع آلهة الأوليمب بمنح الخلود لـ (أوديسوس ODESIUS) الضائع عبر البحار والقفار، في رحلة العودة بعد اجتياح طروادة وتدميرها وحرقها بالنار ونهب تماثيل الآلهة الذهبية، بعيداً عن زوجته الحبيبة (بينلوبي PENOLOPY) كي يسقط في أحضان الساحرة الماكرة، وتصور ملحمة ( جلجاميش) من الألف الثالثة قبل الميلاد رحلته الى أرض (أتنابشتيم) البعيدة، يحضر منها زهرة اللوتس، كي تهب الخلود لصديقه (انكيدو) ولكن الحية في رحلة العودة تبتلعها، ولا ينجو جلجاميش من الموت، كما لا يعبر انكيدو الى الخلود، في جو حزين، من حيرة الإنسان أمام صدمة الموت؟
يجلس جلجاميش فيبكي وتجري الدموع على خديه ويستعيد كلمات (أتنابشتيم): (ليس هناك خلود. هل نبني البيوت لتبقى الى الأبد؟ هل يستمر فيضان الأنهار؟ ليس هناك خلود من قديم الزمان. النائمون والموتى كم يشبهون بعضهم.. أي جلجاميش إلى أين تتعجل المسير؟ إنك لن تجد أبداً تلك الحياة التي تبحث عنها؟! عندما خلق الإله الإنسان جعل الموت من نصيبه، ولكنه أبقى الحياة في حوزته، أما أنت يا جلجاميش فاملآ بطنك بأطايب الطعام. امرح وابتهج نهاراً وليلاً. البس الجديد واغتسل بالماء، داعب الطفل الصغير الذي يمسك بيدك، واجعل زوجتك سعيدة في أحضانك، فهذا كله أيضاً من نصيب الإنسان).
أمام هذه الظاهرة العصية تقف البيولوجيا والتاريخ والفيزياء تنظر المسألة من ثلاث زوايا. البيولوجيا تحاول التمرد على الموت بظاهرة السرطان؛ فيموت الإنسان وتبقى خلاياه المتسرطنة تتكاثر بجنون لا يعرف التوقف. وحاول الفراعنة بناء جبال مروعة من الأحجار المرصوصة تتحدى الزمن، عسى أن يتحرروا من قبضة الفناء الى عتبة الخلود، وقربت الفيزياء بواسطة النسبية بشقيها (الخاصة والعامة) فكرة الخلود، عن طريق سرعة الضوء والكتلة الكبيرة؛ فإذا قارب الإنسان سرعة الضوء توقف الزمن، وإذا استوى على مسطح عرضه السموات والأرض توقف الزمن، في تأطير غير مباشر لفكرة الخلود والاقتراب منها، كما أن القرآن أشار الى امتداد العمر في نموذجين: نوح الذي عاش تسعة قرون ونصف؛ ألف سنة إلا خمسين عاما، هذا في الدعوة، ولكنه لبث في قومه أكثر، ولا نعرف كم عمَّر الرجل بعد جزر الطوفانً، وابتلاع الأرض الماء، وإقلاع السماء بمائها المنهمر. كذلك نموذج مجموعة الشباب الذي هربوا الى كهف قصي تضمهم فجوة منه، في نجاة من مجتمع مشرك أحادي الرؤية، يقتل كل إمكانيةِ تفتحٍ للإنسان، تهرب منه حتى الكلاب (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) تجاوزوا في رقدتهم الثلاثة قرون، بطريقة التبريد KRYO من خلال قوانين فيزيائية كونية وبيولوجية (التقليب وعدم التعرض للضوء).
في داخل كل واحد منا حنين فلسفي الى فكرة الخلود، ما جعل الأميرة (صوفيا شارلوتنبرج SOPHIA CHRLOTENBURG) تُسِرُّ لفيلسوف التنوير (لايبنيتس LEIBNITZ) أثناء حوارات فلسفية عميقة، أنها تنتظر الموت كتجربة تغنيها في فهمها لمعنى الوجود وتنضم الى مكونات الشخصية، وتبقى الذاكرة الأخيرة، والتجربة النهائية، التي تنضم للتجارب والذكريات بدون عودة منها. إنها تتلهف على الموت؛ فهو سيبوح لها بالكثير من الأسرار، ويحل لها كثيراً من الاستعصاءات العقلية، والعقد غير المفهومة، من أسرار التاريخ، وألغاز العلم، التي لم يوفق الفيلسوف في حلها؟ رحلة الموت عندها تبقى شيقة جديرة بالإثارة، لما تتوقع فيه من كشف الغطاء فبصر الإنسان يومها حديد. هكذا كانت تسر لي زوجتي ليلى سعيد رحمها الله بنفس المعاني، أن أشياء كثيرة من أسرار التاريخ سوف تراها واضحة بعد الموت؟
وتقوم البيولوجيا حالياً بإثارة ضرب من الخيال مثير من خلال عالم (الشهادة) بإمكانية مد اليد الى أحد أسرار الخلية، ودفعها الى الشباب المتجدد، والعمر المديد، والصحة الوافرة، راهن عليها مليونير البترول من تكساس (ميللر كوارليز MILLER QUARLES) فدفع بسخاء مائة ألف دولار لتشجيع أبحاث شركة (جيرون GERON) في إنتاج هذا الترياق الجديد لتجديد نبع شبابٍ دائم لا يعرف النفاد.
هذا الاتجاه في البحث يخدم في كسر التحديات الأربعة : الألم ـ المرض ـ الشيخوخة ـ الموت. إنها أربع تحديات رسمت نفسها أمام الإنسان في التاريخ: الألم مع المرض والضعف مع الشيخوخة وانقطاع النفس وتسليم الروح مع الموت.
استطاع الإنسان من خلال نضاله الطويل أن يتحرر من الألم، ويقهر المرض في ساحات كثيرة، وهو الآن يمد يده لكشف اللثام عن أسرار انهدام الجسد، وجدلية الشباب والشيخوخة، في قفزة أخيرة لمعرفة ماذا يعني الموت؟ ولماذا الموت؟ ولماذا يراهن الدين على فكرة الخلود كنبع فلسفي للفكر الإنساني يعطي معنى للوجود.
هل يمكن أن نمسك بالقانون الذي يقوم بتجدد الحياة المستمر؟ في الواقع فإن الحياة تتجدد وتستمر بتجدد وانقسام وتكاثر الخلايا؛ فجسدنا قميص نسيجه الدقيق خلايا تصل الى 70 مليون مليون خلية، والخلايا أنواع في تجددها، منها الذي يتجدد في أيام مثل خلايا الجهاز الهضمي، ومنها كل 120 يوماً كما في الكريات الحمر، ومنها الذي لا يتجدد إطلاقاً كما في الخلايا العصبية، وإن كانت المسلمة الأخيرة قد تم كسرها، عندما تكاثرت الخلايا العصبية خارج الجسم ، فما الذي يقضي على تجدد (قميص الجسد) هل هو الاستعمال المتكرر فيفضي الى البوار؟! أم توقف قدرة التجدد بعد حين بتوقف التكاثر الخلوي؟ هذا إذا تأملنا الموت كنهاية طبيعية لرحلة سفينة استقرت على شاطئ الموت، وليس موتاً قاصفاً كغرق سفينة طوتها أمواج العاصفة؛ فغرقت في اليم، أو بالموت المفاجئ بالقتل وحوادث الطرق والتسمم؛ فهذه تخضع لسؤال مختلف حاول الخيال العلمي حل إشكاله، بإحضار الجسد المصاب، كما في حوادث السيارات وإعادة إصلاحه فيعود الى العمل؟! ويتبخر من الإمكانية المباشرة الحرق الكامل، أو الإذابة بالحمض، أو التفسخ اللا متناهي؛ فهنا يقوم الاستنساخ الجسدي بتوليد نسخة جديدة مشابهة تماماً تكفي فيه خلية يتيمة واحدة؟!