السرطان حيوان قشري لا يثير منظره الرعب ولكن هذا الحيوان البريء اقرن بطائفة من الأمراض تعتبر الإصابة بها بمثابة الحكم بالإعدام على حاملها ولو بعد حين, فحين يطبق على الإنسان لا يتركه إلا وقد مات الاثنان السرطان وحامله, فهو يتصرف بحماقة القرد الذي نشر الغصن الذي يقعد عليه من شجرة الحياة, ولكن لماذا سمي هذا المرض المفزع بالسرطان؟ ولماذا يحمل انعدام الأمل؟ واقترن بالموت؟ وإذا كان له آلية عمل فهم هناك سرطانات اجتماعية؟ أو وضع سرطاني اجتماعي مثل سرطانات الأفراد البيولوجية؟
وإذا كانت الثورة البيولوجية الحديثة تجتاز فضاءات معرفية جيدة لفك لغز السرطان, والسيطرة على الأمراض الوراثية وجراحة الكروموسومات ومعالجة مرض الإيدز فأين العلوم الاجتماعية من هذا؟
تقدم لي الأستاذ الثانوي وهو يبتسم: جميل أني رأيتك في المخبر هنا وأود استشارتك في هذه الكتلة التي أحس بها في إبطي الأيسر, كنت في ذلك الوقت جديد التخرج من كلية الطب وليس عندي تصور لمثل هذا النوع من الأمراض الرهيبة تحسست منطقة الإبط التي أشار إليها فشعرت بكتلة صغيرة بقد البندقة أو الجوزة الصغيرة تتحرك تحت أناملي, قلت له من الأفضل أن تؤخذ للفحص النسيجي لمعرفة طبيعتها, إلا أن المعلومات التي تواردت بعد ذلك أعطت صورة مختلفة لطبيعة هذه العقد الليمفاوية المتضخمة, فالرجل كان قد شعر بأن شامة (خال) في ذراعه بدأت بالكبر فلم يعرها انتباهاً, إلا أنها مع الوقت بدأت تغير طبيعتها بكبر الحجم واسوداد اللون والتقرح وغياب الشعر منها والنزف, ثم بدأت العقد الليمفاوية الأبطية بالانتفاخ, وخلال الأشهر القليلة التالية لم ينفع أي علاج من جراحة وتفريغ الأبط من العقد الليمفاوية أو الأشعة الحارقة أو المعالجة الكيماوية من استخلاص الأستاذ الرفاعي –رحمه الله- من قبضة السرطان والموت فواراه التراب شاباً ذكياً نشيطاً ووقفت أردد مع الشاعر
ألا رب وجه في التراب عتيق ويا رب حسن في التراب رقيق
ويا رب رأي في التراب ونجدة ويا رب حزم في التراب وثيق
فقل لقريب الدار أنك راحل إلى منزل ناء المحل سحيق
وما الناس إلا هالك وأبن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
يبدو أن هنالك علاقة جدلية ما بين الأشياء فما هو شر لطرف قد يكون خيراً لطرف ثان وما يضحك البعض قد يبكي الآخرين وعندما يخسر طرف يربح الآخر وإذا طار المال من يد سقط في يد أخرى وفي اللحظة التي تتدفق فيها الحياة في مكان يستولي الموت في مكان ثان ومع كل شروق شمس تدفع الأرحام الأجنة إلى الحياة ومع كل غروب شمس تستقبل القبور طوابير الأموات!!
وعندما بدأ مرض الإيدز في الانتشار عكف الأطباء على دراسة طبيعة هذا المرض الذي لم تحدد هويته تماماً حتى لحظة كتابة هذه الأسطر مع هذا لمع طيف من الأمل وقبس من الخير مع موجة المرض المعذرة هذه حيث عرف أن طبيعة المرض يمكن إرجاعها إلى فيروس ذي طبيعة قلوبة عكوسة فهو بدلاً من وظيفته في تلقي الأوامر من أعلى من مركز الخلية فإنه يمشي (عكس) التيار وضد طبيعة تركيب أمثاله فيتسلل للخلية ومكان المفاتيح الرئيسية بل وبقص في تركيب الحامض النووي الذي يعتبر الشيفرة السرية لبناء كل محتويات الجسم ويفسح لنفسه فليس أمام الخلية إلا إعادة طباعة هذا الغازي وتشكلي فوتوكوبي مكرر في نموذج هذا اللص؟! وهكذا تتبع الخلية مضاعفات ومشابهات هذا الفيروس أي تصبح نواة الخلية مركز إصدار أوامر لتوليد المزيد والمزيد من نسخ جديدة للفيروس المقتحم وبذا يتحول المقود قائداً والعبد سيداً؟!
الفيروس القلوب هذا (الريتروفيروس) سوف يصبح مفتاحاً للدخول إلى الخريطة الوراثية عند الإنسان فكما استخرج البنسلين من العفن (عفن المقابر قيل؟) وكما استخرج الأنسولين من جراثيم الغائط سيكون هذا الفيروس المجرم بعد ترويضه حلقة الوصول إلى مفتاح الخريطة الرئيسية ومكان إصدار الأوامر لتشكيل قطعات الجسم وتشكيلاته الأساسية من أجل إدخال التعديل المطلوب, ولكن كيف يدخل؟ ما هي مكوناته ؟ ما هي هذه الخريطة الوراثية والشيفرة السرية؟ وأين تقعد؟
مع إنجازات الطب الحديثة وكشوفات المجهر الإلكتروني المكبرة عشرات الآلاف من المرات أمكن معرفة أن كل ما تقع عليه عيننا ليس أبسط الأشياء ولا أصغر الموجودات, فالشعرة التي تسقط من رأسنا والعشبة التي نطأها بأقدامنا وقطعة الخبز التي نلوكها بأفواهنا, مكونة من وحدات أصغر وأصغر مثل قصة الصندوق داخل الصندوق إلى ما لا نهاية!... وهكذا فالشعرة الواحدة وقلامة الظفر التافهة وقشرة البصل التي لا نأبها لها مكونة من ملايين ملايين الوحدات التي تشكل كل وحدة فيها كياناً قائماً في ذاته مستقل عاملاً بمفرده وبالانسجام مع نظيراته وأشباهه من الخلايا أو المختلفة في الاختصاص أخذ وعطاء. هذه الوحدة التي تعمل كمصنع فيه الإنتاج والاختصاص والصيانة بنفس الوقت, له دماغ مركزي ووحدة تحكم أولية وكمبيوتر أساسي تعمل في أحدث الأجهزة بل تتضائل أمامه أعقد كمبيوترات العصر, وفي داخل الدماغ المركزي تم العثور على قطع غريبة في شكلها عظيمة في أثرها وفعلها ونظراً لولعها الشديد بالألوان تتشربها الفائق للأصباغ سميت بالصبغيات (الكرموسومات) متباينة الأحجام هي ألياف رفيعة للغاية وخيوط متناهية في النحافة قد ضمت بإتقان لا حد له وضغطت بشكل كبب بحيث أنها إذا فردت وفككت تحولت إلى خيوط بالغة الرفع لا ترى إلا بالمجهر الكبر آلاف المرات فإذا مدت كحبل متصل وصلت إلى ثلاثة أمتار ويبقى المرء متعجباً عن هذه اليد الخفية التي لففت وجمعت وحفظت ثلاثة أمتار من خيط رفيع في كبة لا ترى إلا مكبرة عشرة آلاف مرة؟! أكثر من ذلك إذا اقتربنا إلى هذا الخيط الذي يهتز أمام أبصارنا تبين لنا أنه ليس خيطاً واحداً بل هو في الواقع خيطان مثل حافتي الجسر أو عمودا السلم الذي تربط بين حافتيه أو جانبيه درجات وهو قد وضع بشكل السلم الأنيق الذي يشبه سلماً أو درجات الصعود داخل المنارة أو البرج تماما كما ه يفي الساعة الخضراء المنصوبة في مدينة عنيزة والتي أقامتها بلدية القصيم برشاقة وبدقة هندسية جميلة أكثر من ذلك حافتا الدرج أو عمودا السلم إذا اقتربنا لنراها أكبر فأكبر لنرى مما تتكون وحداتها الأولى ولبناتها الأصلية لعرفنا شيئاً هو لغز الوجود وسر الكون الذي يقوم على البساطة فكل هذا التعقيد يقوم على البساطة فكما نكتب القصائد الرائعة والأفكار الضخمة والمجلدات التي لا تنتهي من عشرين حرفاً فقط فإن اللغة البيولوجية الأساسية لسر الخلق هنا هو أربعة حروف لا تزيد وليس 28 حرفا كما في اللغة هذه اللبنات الأساسية الأربعة هي أربعة حروف تماماً كما في ا.ب.س.ج وهذه الحروف تصطف وتلتحم وترتبط بعضها ببعض لتشكل في النهاية خيطاً طويلاً يصل إلى حوالي الأمتار الثلاثة.
وهذان الخيطان المترابطان متشابهان تماماً من ناحية التركيب والكمية ويلتقيان كما يلتقي (السحاب) الذي نستعمله في ملابسنا لإغلاق الفتحات كما في (البنطلون) أو (الفستان) وأكثر من ذلك فإن هذه الحروف الأربعة تصل ببعضها بشكل مختلف .
ولا غرابة لأن الكمبيوتر يقوم على قاعدة (الشخطة والنقطة _ .) وحتى نفهم الموضوع أكثر نقول أن تسلسل هذه الحروف هو الذي يشكل لغة الخلق السرية؟!
هذه اللغة العظيمة والخفية التي تنساب لك رشاقة حتى بدون نقط وفواصل وإشارات تعجب بقي أن نعرف أن تسلسل هذه الحروف يكون مجلداً ب 500 صفحة هو كتاب (كتاب خلق الإنسان) فإذا نظرت إليه راعك المنظر من تتابع غامض سحري كأنك دخلت الهرم لتقرأ اللغة الهيروغليفية لأول مرة وأكثر من هذا فكل تسلسل من هذه الحروف صغر أم كبر هو مكان ومركز صناعة شيء وصلة في كريه حمراء اتصال في نسيج عظمي, خميرة مهمة, أنسولين لحرق السكر, هورمون لحبس الماء والملح الخ هذه القطعة سميت بالجبن (GEN) وكأنها جن نبي سليمان التي كانت (تغوص وتعمل عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين) هذه الجينات تبلغ حوالي ثلاثة مليارات قطعة وهناك مشروع الآن هو اعظم من مشروع ناسا (NASA) لارتياد الفضاء في فك الشيفرة (الجينية) عند الإنسان على وجه الدقة بحيث يصبح (كتاب السر الأكبر واللوح المحفوظ) معروفاً مكشوفاً لنا ويتوقع العلماء أن كشف اللثام عن مجموع الجينات الكامل يحتاج إلى 10-15 عاماً وهناك إثارة ملفتة للنظر في الحث حيث يتوقعون أن ما يعمل لإنتاج كل تركيب الجسم لا يزيد على 100-150 ألف جين فقط ويبقى السؤال والمليارات البقية هل هي (سلطة) لا معنى لها؟ أم أنها مخصصة ومعدة لأهداف مستقبلية؟ أم هي مسؤولة عن التركيب النفسي مثلاً؟ أم أن هذه الجينات بالفعل هي مخصصة لوظائف وأشياء في عمق أعماقنا ولا نعرفها لأننا لا نعرف أنفسنا فعلاً ؟؟
وكما يتكون القماش الذي تخاط منه ثيابنا التي نلبسها, وكما أن قطعة القماش مكونة من خيوط أولية بألوان مختلفة صنع على نفس الطريقة وبني على هذه الشاكلة, وبألوان شتى بن عظم أبض ودم أحمر وسائل مراري بلون الذهب وحليب أبيض بل وغائط بني, فهي كلها مكونة من خيوط أولية معروفة بالأحماض الأمينية, فهي اللغة التي يتشكل منها هذا البناء (اللغوي البيولوجي) وعرف أن هذه اللغة التي يبنى منها (قميص الجسد) مكون من عشرين خيطاً أو أن هذه (اللغة البيولوجية) مكونة من عشرين حرفاً, وهناك حلقة تفاهم ما بين لغة الكروموسومات المكونة من أربعة حروف أو أربعة خيوط بألوان مختلفة, حلقة التفاهم تمشي باتجاه واحد من الكروموسومات إلى الجسد فكل ثلاثة خيوط (تنجدل) أو (تشكل ضفيرة) من حروف الكروموسومات الأربعة فتوعز بشكل حرف واحد من حروف الجسم العشرين, وقد يتعجب الإنسان من كمية الاحتمالات, وهل يمكن لأربعة حروف أن تنتج من احتمالاتها عشرين احتمالا. أي عشرين حرفاًَ, والواقع نعم إن الطبيعة والخلق الإلهي المدهش أودع إمكانية ليست الضعف بل ثلاثة أضعافها وحاول أن تقوم أيها القارئ ولو أنني أتعبت دماغك قليلاً بحساب هذا فسوف تصل إلى أربعة وستين احتمالا.
وعرف أكثر عن هذا الجسد العجيب فهناك تنسيق وتفاهم مدهشين بين اللغتين اللتين ذكرنا, بحيث أن كل إشارة تفسر على ما يرام, وكل حركة تأخذ مكانها للإنتاج بما يليق فلا خلل ولا شطط ولا نقص ولا زيادة, وعلى هذا الميزان يقوم بدننا فتنهدم في اللحظة الواحدة ملايين الخلايا, في اللحظة التي تتكاثر فيها ملايين جديدة, وأي خلل ولو في خلية واحدة يعتبر خروجاً على القانون وتمرداً على النظام وإعلان (ثورة) داخل البدن, وقيادة لعصيان مسلح وهذا هو (السرطان=CANCER) والسرطان ذلك الحيوان القشري البريء تمتد منه أذرع كثيرة, كذلك هذه العصابة المدمرة, فالخلايا السرطانية تمد أذرعها إلى كل مكان ومن هنا سمي مرض السرطان بـ (السرطان) لأنه خبيث أكال ممتد شرس يحفر وجوده في كل مكان ويمتد إلى كل نسيج وبذا تسبح خلاياه مثلاً من أنسجة الكولون حيث الغائط والقذر فتترك مكانها إلى الصدر النظيف والكبد النشيط والدماغ المتألق فيضيق الصدر وتحشرج الروح ويتفتت الكبد ويدمر الدماغ؟!! فالسرطان في الواقع إعلان عن الاختلال الخلوي الزماني المكاني الوظيفي وثورة عشوائية مدمرة فلا تبقى الخلية مكانها ولا تؤدي وظيفتها وتتكاثر زعماً منها أنها تخدم البدن وهي في هذا قد ارتكبت حماقة ستقودها إلى الموت مع الجسد الذي تدمره وهنا معنى اجتماعي كبير في السرطان الاجتماعي أيضاً حيث نبصر الأفراد يفعلون قريباً من هذا عندما تتغير طبيعة الوظائف فيتحول الحارث إلى لص والحامي إلى مدمر وأهل الفكر إلى فقراء والانتهازيون إلى (أصحاب ملايين) في الواقع يصبح المجتمع في حالة (سرطانية) وهؤلاء سمك القرش الجدد يظنون أنهم عندما يسيئون إلى المجتمع الذي يهبهم دم الحياة، والسفينة التي عليها يعومون، إنهم يحسنون صنعاً( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) بكل أسف لا يدرك الكل، كما لا يشعر حامل السرطان أنه يحمل السرطان حتى ينفجر عليه في صورة انثقاب معدة مثلاً والسرطان بإساءته إلى الجسد الذي غذاه سوف يقضي على نفسه في النهاية فالجسد الذي سيعود إلى التراب سيحمل معه نفس الخلايا السرطانية الإجرامية، والمجتمع الذي ينهار سوف يضم في حفرة القبر معه أيضاً الانتهازيين واللصوص وسمك القرش الاجتماعي. وهذا مغذى عظيم اجتماعي من مرض السرطان.
ما الذي يحدث حتى تتحول الخلية من خلية مسالمة لها مكانها المعروف ونشاطها المتزن إلى خلية سلطانية تعلن التمرد على نظام الجسم هذا ما فتحت الثورة البيولوجية الطريق إليه من خلال معرفة لغة الخلق وحروفها الأربعة التي أشرنا إليها والجواب هو: الخلل الجيني ! ولكن ما هو الخلل الجيني؟
إن الخلق قصيدة خالدة وديوان شعري رائع، فكل تركيب هو قطعة فنية مدهشة، هندسة العظام. دورة الكريات الحمر. نسيج الكبد. وظيفة الكلية. تألق الدماغ. الجهاز المناعي. الإفراز الهرموني. توازن الشوارد والمعادن. استقرار أخلاط البدن كلها في أحسن تقويم وأروع خلق. كلمات مصفوفة بجانب بعضها البعض، مكونة من حروف ربطت إلى بعضها برشاقة، وكما في حياتنا العادية فأي خلل في نظام الكلمات أو ربط الحروف يؤدي إلى كارثة في التعبير فيتحول المدح قدحاً والثناء ذماً والهجاء رثاءً كذلك الحال في التعبير البيولوجي، فالأمراض هي اضطراب حروف وكلمات اللغة البيولوجية، الأمراض هي تراكيب لم تتسق وتنتظم بحيث تشكل تعبيراً متجانساً وشعراً موزوناً وقافية محكمة وتنطبق هذه القاعدة بدورها على العلاقات والأمراض الاجتماعية.
لنحاول التقدم خطوة أخرى في كشف الغطاء عن هذه الحكم القريبة المحجوبة, لنتصور لغة الخلق على شكل كلمات مصفوفة بجانب تعضها البعض والكلمة الواحدة ترابط محكم لمجموعة من الحروف, لنأخذ كلمة(حرب) فهي كلمة شنيعة تمثل افظع ما دمر النسيج البشري وافسد العلاقات الإنسانية على النحو الذي استعرضناه في جريدة الرياض تحت مقالتين (كفى بالحر واعظاً) و(عبثية الحرب). كلمة (حرب) مكونة من ثلاثة حروف ولكن سحب الحرف الثاني منها يقلب (الحرب) إلى (حب) والفرق بين الحرب والحب فرق بين الوجود والعدم لأن الحب مشاركة والحرب نفي الحب نماء والحر عدم ,الحب أعظم عاطفة في الوجود والحرب هي غاية الحقد والكراهية, فإذا رجعنا وأضفنا حرف الراء المحذوف إلى نهاية كلمة حب تحولت إلى (حبر) التي تفيد مادة فإذا قلبنا الحروف قلبة ثانية تحولت كلمة (حرب) إلى (بحر) ذلك الكيان المائي المتلاطم وهكذا يمكن توليد ست كلمات بستة معان مختلفة من خلال إدخال الاختلاف إلى ترابط الحروف بعضها ببعض فكلمة (حرب) تصبح (حبر ـ برح ـ بحر ـ رحب ـ ربح).
هذه اللغة البيولوجية تتشكل من عشرين حرفا لتكوين كل تراكيب الجسم ولكل منظومة منها تشكل قطعة مسؤولة عن وظيفة أساسية فالأنسولين مثلاً مكون من سلسلتين من الوحدات الأولية تماما مثل بيتي الشعر ولا يختلف أنسولين البشر عن أنسولين الخنازير مثلاً إلا بكلمة واحدة في نهاية البيت الثاني ولا غرابة لأن شاعر هارون الرشيد كاد أن يفقد حياته حينما هجى المحظية (خالصة) فأنشد:
لقد ضاع شعري عندكم كما ضاع عقد على خالصة
وعندما شعر بالخطر من نفوذ المحظية أنقذ رقبته فقط بمسح نهاية حرف العين فتحولت إلى همزة (ع) (ء) وهكذا أصبح بيت الشعر على لسان أبي نواس:
لقد ضاء شعري عندكم كما ضاء عقد على خالصة؟!!
هذا الدخول إلى الكنز المخبأ والمفتاح السري والخريطة العظمى الأساسية والنسخة الأصلية للخلق واللوح المحفوظ في الدماغ المركزي في نواة الخلية هو بداية قفزة نوعية في علم الإنسان والمعالجة الطبية وإذا كانت الأمراض الوراثية التي تم اكتشاف حوالي (800) منها حتى الآن سببها (خلل جيني) بما فيه (السرطان) فإننا عمليا وكل منا يحمل إمكانية خلل جيني في مكان ما وإذا كان مرض (الإيدز) الفظيع هو تسلسل فيروسي يخلع معطفه وملابسه وقشرته الخارجية ليتزوج الحمض النووي الداخلي ليصبح قطعة في تكوينه لكي ينتج ذرية له كما يحدث في أي زواج وعاقبته من إنتاج الأطفال فإن بإمكان العلم استخدام هذا (التكتيك) تماماً مثل (حصان طروادة) للدخول إلى الخريطة الأساسية ومفاتح التحكم في الإنتاج الخلوي من خلال التحكم في الحمض النووي المركزي بحيث يمكن أو وصول إلى الخلل الجيني وإصلاحه سواء كان بإضافة قطعة ناقصة أو تعديل تركيب مغلوط.
إن السرطان يكشف اللثام عن أسراره اليوم حيث يمكن فهمه أيضاً ضمن هذه اللعبة فالتكاثر الخلوي يخضع لتوازن دقيق من خلال عمل جيني محكم والخلل الجيني هو الذي يطلق جماع التكاثر الخلوي من خلال فقد آلية السيطرة على التكاثر بل نبدأ نفهم من لعنة السرطان هذه سر الحياة أكثر ولماذا كتب علينا أن نعيش عشرات السنوات فقط وهل الانقسام الخلوي محدد كما يقال على حوالي خمسين انقساما فقط؟ ولكن لماذا تمضي الخلايا السرطانية المجنونة بانقسام رهيب لا يتوقف بحيث إذا أخذت الخلايا السرطانية في جسم المريض مات المريض ولكن الخلايا تستمر في التكاثر المرعب طالما ضمن لها الغذاء الذي يمد في عمرها عندها قد لا نرى في السرطان لعنة بل رحمة من خلال إدراك سر التكاثر الخلوي؟!! ثم أليس تكاثر خلايا الجنين في بطن أمه تكاثراً سرطانياً من نوع آخر إيجابي حيث تتكاثر الخلية الواحدة إلى مليارات الخلايات المتخصصة؟ ما هي الآلية يا ترى التي تسرع في الخلايا وهو جنين في الرحم ثم تتباطأ أكثر فأكثر مع الخروج من الرحم؟ كلها أسئلة يخترقها العلم الجديد اليوم ويجب أن تتعلم حقيقتين من العرض السابق ... الأولى تقول يجب أن لا نخاف من العلم ففيه قدرة التصحيح الذاتي كما قاد العلم إلى السلم مرغماً على النحو الذي عرضناه في علاقة العلم بالسلم في مقالات سابقة. والحقيقة الثانية أن الزبد سيذهب جفاء وما ينفع الناس سيمكث في الأرض ويجب أن لا يفزعنا التطور العلمي لأنه سيأتي بشواهد جديدة على الحق الذي بنيت عليه السماوات والأرض
الهوامش والمراجع :
(1) تكشل العقد اللمفاوية شبكة الإصطياد للجراثيم والعناصر الغريبة القادمة من خارج الجسم بعد حاجز الجلد والصراغ ضد الكريات البيضاء. فإذا انتفخت العقد اللمفاوية كان معناه مرحلة متقدمة لتقدم فرق اللإجتياح الغريبة.
(2) أصيب الأستاذ المذكور بسرطان جلدي يعتبر من أخبث الأنواع وأشدها انتشارا وفتكاً وهو المعروف بالسرطان القتاميني (الصبغي) وينمو على شامة في الجلد.
(3) تنسب هذه الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه المشهور
(4) في المؤتمر العالمي الأخير في اليابان عن مرض الإيدز تمت الإشارة إلى وجود زمر فيروسية إضافية تتسبب في المرض.
(5) يعتبر الحامض النووي المرمز له بـ (د.ن.أ.(D.N.A هو المحتوي الرئيسي للجينات التي هي بدورها لقطع المتصلة ببعضها البعض والتي تشكل الكروموسومات (الصبغيات) والمسؤولة عن الشيفرة السرية لأوامر تشكيل كل شيء في البدن.
(6) لمزيد من فهم هذه الآلية نقول أن الحامض النووي المركزي والذي يعتبر النسخة الأصلية يرسل أوامره السرية عن طريق حامض نووي آخر إسمه الرسول أو الناقل, والفيروسات تحوي ضمن كتلتها شبيهاً من المركز إلى المحيط أو أوامر الحامض المركزي إلى الجسم باستثناء الفيروس القلوب أو العكوس فإنه يمشي ضد التيار ومن هنا أخذ أسمه العكوس (ريتروفيروس) فهو يقتحم الحامض المركزي ويجلس داخله؟!
(7) يتشكل الحمض الأميني المركزي من أربة أحماض أمينية هي (الأدتين والستوزين والجوانين والثمين).
(8) لتطبيق مبدأ الاحتمالات من ربع حروف نقول مثلاً (أ.أ.أ.ب) (أ.أ.ب.ب) (أ.أ.ج.ج) (أ.أ.س.س) (أ.ب.ج.س) (أ.ج.ب.س) (أ.س.ب.ج) (أ.س.ج.ب) وهكذا فسوف تصل إلى 64 احتمالا كل احتمال يوعز إلى الجسم من خلال مطبعة عملاقة في الخلية أحماض أمينية مسؤولة عن هورمون ما أو الأنسولين وهو مكون من 51 حمضاً أو خضاب الدم وهو مكون من مئات الأحماض الأمينية وهكذا.