العامل الداخلي أم الخارجي، أيهما أهم في الانهيار ؟

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

ماهو السبب خلف سقوط غصن أو اندلاع حرب؟ ماهو عامل تفشي مرض وهزيمة أمة؟ ماهي المسببات الرئيسية خلف انفجار ثورة وتفكك دولة وتحلل حضارة؟ هل هناك رؤية مشتركة لفهم خلفية ولادة كل هذه الواقعات غير المتشابهة؟ هل يمكن وضع اليد أو قنص السر المخفي والقانون المهيمن خلف خروج هذه الحوادث الى السطح؟ هل هناك رؤية أنطولوجية (وجودية مشتركة) لكل هذه الأحداث غير المتناسقة والمتشابهة، غير المتناسقة في مظهرها الخارجي، والمتشابهة في خلفية علة ولادتها.
مع مواجهة كل أزمة تاريخية، أو الوقوع في كارثة قومية، يطيب لنا توجيه أصبع الاتهام الى العدو الخارجي، ولكن هل هذا مخرج للمصيبة أو حل للمشكلة؟‍!
إن هذا الضرب من التفكير لايقود الى حل المشكلة والخروج من الورطة بسلام، بل يقود الى نوع من المرض النفسي الخطير، فطالما كانت ذواتنا خارج حقل المشكلة، بقي الحل في الظلام بعيداً عن متناول اليد، وبقيت بالتالي ذواتنا مبرأة عن أي خطأ، والمساهمة في أي خلل، فذواتنا فوق الخطأ ودون النقد ولاتقترب منها يد التشريح وأدوات السبر والتمحيص، واستمر الخطأ يقود الى مزيد من الخطأ، بتعطل آلية تصحيح الخطأ، كما كان العثور على كبش فداء جاهز يقود إلى فرملة آليات الجهد الذاتي بشكل كامل مطبق، وعندما يكون المتسبب عن الخطأ خارج ذاتنا يتولد عنه تلقائياً أمران: الراحة النفسية بالعثور على سبب وهمي، وإيقاف كل آلية يمكن أن تتدخل في مسار الأحداث لإصلاحها.
في مستوى الطبيعة يطرح السؤال نفسه ماالذي يتسبب في سقوط غصن ما؟ هل هي الريح؟ لو كان الريح سبباً لسقطت كل الأوراق، وتناثرت كل الأغصان! ولما سقطت الأوراق بدون ريح في فصل الخريف! فلا عنفوان الريح أسقط كل الأوراق، ولاهدوءها منع وحمى الأوراق من التهاوي.
ولكن البحث الأعمق يصل الى اكتشاف عنصر خفي لاتراه العين بسرعة هو قوة ارتباط الورقة بالشجرة، فالعنصر الخارجي الممثل بالريح لعب دوراً واضحاً عاصفاً مثيراً ظاهراً للعيان، ولكن النخر الداخلي مختبيء خفي لايطل برأسه الا بالبحث المنظم المعمق التأملي السببي.
العامل الخارجي تضافر مع العامل الداخلي في ولادة الحدث، ولكن العامل الداخلي هو الذي هيء الظروف الموضوعية لولادة الحدث وسقوط الورق وتناثر الأغصان.
وفي مستوى البيولوجيا مع حدوث (المرض العضوي) وخلل البيولوجيا يلتفت الناس الى الجرثوم أو الفيروس الخبيث، الذي فجر عاصفة المرض، ولكن الجرثوم موجود دوماً، ولايصاب كل الناس في كل الأوقات مع حضور الجرثوم وتواجده الدائمين، وفي كل فوهاتنا وداخل أمعاءنا ومع كل وجبة طعام تزدحم الملايين من طوابير الباكتريا، وينسى الناس أو لايدركوا دور جهاز المناعة الداخلي في تنظيم السلامة والمرض.
ياترى ماهو المرض وماهي الصحة طبياً وفلسفياً؟
الصحة هي حالة التوازن بين هجوم جرثومي لايعرف الاستراحة والتقاعد والإجازة، وبين جهاز مناعي تأخذه السنة والنوم أحياناً لسبب أو آخر فينهار، ومع انكسار التوازن يتولد المرض فيسقط الانسان طريح الفراش لإعادة آليات التوازن الى مسارها الطبيعي، بتغلب جهاز المناعة (الداخلي) على العدو الخارجي الممثل في الجرثوم والفيروس وسواهما. ويلعب الدواء والغذاء والراحة دور العناصر المساندة والمريحة لإتمام وتنشيط آليات عمل جهاز المناعة الداخلي للقضاء على المرض وسحق الهجوم الجرثومي ـ الفيروسي.
وفي المستوى النفسي يفضح شعور المجرم سلوكه ويدلل عليه، كما في قصة حكيم القرية الذي أراد ضبط لص القرية فجمعهم في صعيد واحد، وصاح بهم إن لصنا لم يكتف بجريمته، بل قام يتبجح بها فينصب على رأسه ريشة طاووس زاهية الألوان، فعمد أحدهم الى رأسه فمسحه، فتسابقت الأيدي إليه تحكم الخناق عليه!
وفي المستوى الاجتماعي يروج الدجل وتتفشى الخرافة ويتكاثر ظهور الجن فجأة في منطقة ما، بفعل ضعف المناعة الاجتماعي، وتدني طبقة الوعي أمام المشعوذين والدجاجلة؛ فعندما يغتال العقل بشكل منظم لايبقى حدود لحماقات البشر.
إن فلسفة القرآن تؤسس لفكرة لم يعتاد عليها الناس وهي (ظلم النفس) فالناس اعتادوا ومستعدون ان يلوموا كل أحد واتجاه وقوة موهومة الا أنفسهم، والقرآن يمشي بشكل مخالف 180 درجة تماماً؛ فهو يدربنا على أن نلوم أنفسنا فقط (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
إن كثيراً من شرائح المفكرين والسياسيين عندهم الاستعداد للوم كل القوى، كسبب لعجزنا من الصهيونية والماسونية والاستعمار والصليبية والشيطان، بل وحتى إحالتها في النهاية الى مصدر يخرس كل متحدث عندما تنسب فضائحنا اليومية الى إرادة الله، ولكن ليس عندهم استعداد ولو لوضع (احتمال) أن نفوسهم شاركت في توليد الهزيمة، وتراكم العجز، واتساع الخرق!
وإذاكان ظلم الانسان لنفسه هو الظلم الأعظم ، فهو يؤسس بدوره لفهم جذور المشكلة الانسانية ، وفهم الظلم الاجتماعي عندما يتحول المجتمع من مجتمع أفقي الى مجتمع طبقي ، تتمزق فيه وتتصدع الشرائح الاجتماعية الى ( مستكبرين ) و ( مستضعفين ) كما تحدث القرآن عن طبيعة المجتمع الفرعوني ، ومصدر هذا الخلل هو خلاف مايتصور الناس من طبقة المستضعفين ، أكثر من طبقة الجبارين المتكبرين .
إن الظاهرة المزدوجة ، أو علاقات القطبين المشؤومين ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) ذات مصدر موحد ، كما في أي فيلم ، فالصورة الملونة تعتمد الأساس الأسود بعد التحميض ، وكذلك علاقات القوة في المجتمع هي من خلل هذه الرافعة بين بني البشر ، فالمستكبر هو مستضعف في أعماقه لاعتماده آلية القوة والقهر ، والمستضعف مستعد بالقوة للتحول الى مستكبر يتلمظ لامتلاك القوة . ودعوة الانبياء جاءت لانتاج نسخة بشرية جديدة بالتخلي عن علاقات القوة ، وبالتالي كسر رافعة ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) .
الضعفاء هم الذين يخلقون الأقوياء . والمستضعفون هم الذين يوجدون المستكبرين . والأمم الهزيلة هي التي تنبت الطواغيت . والمستنقع هو الذي يولد البعوض . والغربان تحط على البقرة الميتة . والنمل يتجمع على جثث الصراصير . والقابلية للاستعمار هي التي تقول للاستعمار أنا هنا تعال فاركب على رقبتي . والدول تنهزم بتفككها الداخلي . وانهيار الحضارات يتم بعلة الانتحار الداخلي أكثر من قصور طاقة التكنولوجيا أو اكتساح خارجي . والاتحاد السوفيتي سقط مع امتلاكه أسلحة تدمير الكون مرات ؛ بفعل مرض داخلي أكثر من هجوم خارجي عاتي ؛ فلم يهاجم هذه المرة من الجيوش النازية أو مدفعية نابليون ، بل كان سقوطه داخلياً صرفاً .
هذا القانون يمسك بإحكام جنبات الوجود ، بوتيرة مكررة ، بدءاً من الذرة الى المجرة ، مروراً بعالم النفس ، ومحيط المجتمع ، وإطار الدول ، وحزام الحضارات ، ومن أبسط الأفكار الى أعظم الامبراطوريات .
ماالفرق بين آدم والشيطان ؟
رفض الشيطان السجود عندما لم يراجع نفسه ويمارس النقد الذاتي ، فاعتبر نفسه أنه لم يمارس الخطأ وأن خطأه سببه الله ( بما أغويتني ) كما اعتمد آلية علمية أثبتت الفيزياء النووية خطأها ، عندما رأى نفسه خير من آدم ، فاعتبر نفسه طاقة شريفة وآدم مادة خسيسة ، والفيزياء النووية ترى اليوم أن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة ، بل إن المادة هي في حقيقتها لاتزيد عن طاقة مكثفة .
أما آدم فقام هو وزوجته ـ خلافاً لتفسيرات العهد القديم عن قصة التفاحة ـ بمراجعة نفسية قاسية من خلال اعتماد منهج النقد الذاتي ، بقدرة الاعتراف بالخطأ ( إنا ظلمنا أنفسنا ) ، فأرجع آدم الخطأ الى نفسه ، فأمكنه طلب المغفرة والرحمة له ولزوجته ولذريته من بعده ، ففاز بموجب هذا بعقد الوكالة العامة من الله ( الاستخلاف ) .
طريق الشيطان بعدم اعتماد منهج المراجعة والنقد الذاتي قاد الى اللعنة الأبدية ، وطريق آدم من خلال التوبة التي هي تجسيد قدرة الاعتراف بالخطأ قاد الى المغفرة والرحمة والجنة
كان المللا الكردي يشرح نصاً باللغة العربية لطلابه الأكراد . كان النص الفقهي يقول : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حيةً يبقى السمن حلالاً .
بدأ المدرس الفقيه يترجم على الشكل التالي : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت ثعباناً ؟! يعترض تلميذ : يامللا كيف خرجت ثعباناً ولم تكن سوى فأر ؟! يرد المدرس : اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر ..
وتروي رواية أخرى أن المؤذن خرج لصلاة الصبح متأخراً ؛ فاجتمع بالناس في الطريق وقد بزغت الشمس ليقول لهم : أنا حضرت حسب الموعد ولكن الشمس خرجت اليوم مبكراً خلاف عادتها ؟!!
إن هذه القصص المسلية تحكي لنا أزمة ثقافتنا ، فنحن على استعداد لتوريط الكون في تناقضات ، على أن نراجع أنفسنا وتصرفاتنا لحظة واحدة لإدخال ( احتمال ) مشاركتنا الجزئية ، في الذل الذي يصب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس .

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram