تواتر الانسان بين الملل واللهو :
حللَّ الفيلسوف الفرنسي باسكال مشكلة الضجر واللهو بشكل مدهش فكتب يقول : (( انظر الى برنامج رجل ثري أو امرأة موسرة تجده حافلاً كل يوم بمختلف الأشغال والمواعيد وألوان اللهو المتصل من صيد ورياضة ومقابلة أصدقاء إلى زيارة الندوات وحضور الولائم ، فالصيد من جديد ، فندوة جديدة ، فمقابلات العمل أو الأصدقاء ، فموائد الميسر أو محافل الرقص أو كلاهما ، وانظر الى برنامج حاكم أو وزير فيومه كامل لافراغ فيه ، والناس من حوله مكلفون بالمساهمة في شغل أوقاته ، وإن توقف التيار لحظة وترك الرجل أعماله أو أغلق بابه على الزوار ، وإن أسرع الى الريف طالباً الراحة والهدوء ، لما بقي في الريف طويلاً ، وسرعان مايعود الى المدينة ، أما إن اُضطر الى ترك الأعمال أو اعتزال الوظيفة أو العيش في الريف بمفرده ، لضاق بالحياة ذرعاً وحل به الضجر ) ليصل في النهاية الى تقرير ارتباط الضجر باللهو (( اللهو إذاً مرتبط بالضجر أشد الارتباط )) فالانسان من أجل أن يهرب من السآمة يُهرع الى اللهو ، ولكن اللهو بدوره يوصله الى الملل ، وهذا بدوره ليس له مخرج إلا باللهو ، فهناك تواتر وتناوب مابين ( اللهو _ الملل _ اللهو _ الملل ) وهكذا في تتابع نفسي هندسي مثل تركيب الأحماض الأمينية في الكروموسوم الخلوي . ولكن هذا يقودنا الى تفكيك نفسي جديد لمعرفة لماذا يصاب الانسان أصلاً بالسآمة والملل
تفكيك نفسي لظاهرة الملل :
يرينا التحليل اليومي أن الوحدة وكثافة الشعور بها هي التي تقود الى الملل ، ولكن ماعلاقة الضجر بالوحدة ؟ هي في الواقع وليدة مواجهة الذات ، وهذا يعطينا توضيحات في غاية الأهمية لتناذر ( متلازمة )( SYNDROM ) يوم الأحد عند الغربيين ، فأثناء إقامتي الطويلة في ألمانيا تعجبت من ملاحظة مزدوجة : أولها كراهية يوم الاثنين الذي هو بداية العمل ، وتقابله ساعة النشوة وتجرع كؤوس الخمرة ، عصر يوم الجمعة ساعة فراق الواجب والعمل المنهك ، فتحمِّر الأعناق والوجوه وتنطلق خبايا النفوس وأسرار البيوت ، بين باكي حظه وفاشي أسراره ، عند غربي لايحرص على الاقتراب منه أحد ، في حركة تدشين القطط الاجتماعية الجديدة . وثانيها كآبة يوم الأحد خاصة بعد الظهر ، فترى الوجوه كالحة عابسة تفيض نكدا وتنغيصاً ، في أعجب تناقض اجتماعي بين رغد العيش وأمان البيوت وغياب طمأنينة القلوب . لم أعرف السر خلف ذلك الا متأخراً ، من خلال هذا التحليل ( الباسكالي ) .
ألم مواجهة الذات التي تعيش حالة الاغتراب الداخلي :
إن قساوة العمل الاسبوعي في بلدان شمال أوربا يجعلهم يقدسون عطلة نهاية الاسبوع ، ولكنهم منفردين كقطط اجتماعية ، كل لنفسه ، فالعطلة بهذه الصورة تحولت الى عملية مواجهة للذات ، عندما تتخوى النفس من الداخل ، تتفرغ وتتقعر وتفقر داخلياً . ويدخل الانسان الحالة النفسية التي وصفها المفكر الاسلامي علي شريعتي ( حالة الاغتراب الداخلي) .
هذه المواجهة مؤلمة وتقود الى الشعور بالبؤس والحقارة والشقاء ، في حين كان العمل الاسبوعي عملية خروج وشرود من الذات ، أي عملية نسيان مؤقت للذات ، ومن هنا يدرج باسكال العمل تحت ظاهرة اللهو ، لأنه يؤدي نفس وظيفة الهرب من الذات وعدم مواجهتها ، وتفيد الآية في نفس الاتجاه ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) .
هذا هو السر في محاولة هرب الانسان بعد انتهاء العمل الى نوع جديد من العمل هو لهو وتسلية ، ولكن الواقع إن الصيد والقمار ولعب الكرة والمباريات الرياضية كلها من صنف عمل جديد قد يكون أشد إرهاقاً وأعظم مجهودا ، ولكنه يفترق عن العمل الأساسي باندماج الانسان فيه وبمتعة أكثر ، فالصيد هو مطاردة وتعب مثلها مثل أي نشاط آخر من أنشطة العمل الذي نقوم به ، وتسعى منظومة الفكر الغربي اليوم الى تحويل العمل الى متعة مثل لعب المباريات والصيد ، من خلال بناء الديموقراطية في حقل العمل ، أي جعل العمل أيضاً ضرباً من اللهو طالما كان اللهو ممتعاً ، ولكن كلا العمل واللهو عملية تقوم في عمقها على الهروب من الذات وعدم مواجهتها ، لأن الذات فارغة لم تدرك معنى الحياة ولم تحل جدلية المشكلة الانسانية ، فيرى الانسان نفسه على هذه المرآة الشقية .
لماذا كان السجن مؤلماً مخيفاً ؟
فالذات فارغة لم تحل الجدلية الأصلية للوجود ومواجهتها يسبب الألم والشقاء ، لذا كانت ألعن أنواع السجون الافرادية ، والسجن بحد ذاته يسبب العذاب ليس لأنه مصادرة للحرية فقط ، بل لأن الانسان يكف عن الذهول الخارجي ، والذوبان في أحداث يومية روتينية تافهة متلاحقة تختصر الحياة الى أشياء وحاجيات وغذاء ومتع رخيصة ، وتختزل الوجود الانساني الى ترانزستور حيواني منكمش ضامر لايتلقى إشعاعات الوجود العظيم ، في السجن يواجه الذات بدون أقنعة ويواجه خيار الهروب من الذات أو التأمل والاعتكاف ، كل أمتعة الانشغال الخارجي توقفت عن تحويل انتباه الانسان ، وسقط الانسان في حفرة اليأس العميقة يشاهد عالماً جديداً لأول مرة .