السجن الانفرادي يعتبر ذروة المعاناة أو قمة النشوة لصنفين مختلفين للغاية من طينة البشر . بين من يحدق في ذات شقية ، ومن يعشق التأمل والاعتكاف واكتشاف العالم الداخلي الغني .
الوحدة مشعر النضج والاقتراب من الله . على كل حال سيغادر الانسان هذا العالم وحيدا وسيدخل الآخرة لاينفعه في معاناة الخلاص الأخيرة أحد ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء يومئذ شأن يغنيه . النفس التي ستفاجيء للمرة الأولى بمواجهة الذات ستكون من نوع مزلزل وتجربة تحدث للمرة الأولى . السجن الانفرادي يقود الانسان الى الجنون أو الحكمة ، لأنه يحبسه مع ذاته ضمن أربع جدران . من الغريب أن هذا العزل وهذه المواجهة المفروضة للاعتكاف ، وهذه المواجهة الأليمة للذات فيها قمة العذاب لمعظم الناس ، وفيها غاية المتعة لأفراد قلائل من الجنس البشري ، ولجوا هذا العالم الخفي ، وعرفوا مساراته الداخلية بنور خاص ، فهذا القبو عميق حالك الظلام ، لايضاء تماماً الا بمشاعل جهنم يوم يبعثون ، ولكن هذا الصنف تخصبت عندهم الذات وتحولت الى جنة خفية داخلية بطول التفقد والتعهد والسماد الروحي .
الثنائية المتناقضة : اللانهايتان
كذلك يطرح باسكال في رؤيته للانسان فكرة اللانهايتان في ثنائية تحمل التناقض ولاحل لها حتى على يد الفلسفة . ويعتبر ماكتب باسكال في هذا الصدد من أجمل ماكتب في النثر الفرنسي في سلسلة من الكلمات المتألقة مثل إضاءة النجوم ، لأنها تدفقت من خلايا عصبية متوقدة الى أبعد الحدود ، قد ذاقت الاستنارة الداخلية . كما روى هو بالذات عن تجربته الروحية التي حدثت معه في نوفمبر من عام 1654 م . لنتأمل هذه الفقرات وهي يروي الجدل الانساني المستعصي على الحل في مذكراته ( الخواطر )( PENSEES ) التي لم ترى النور بشكل كامل الا بعد 289 عاماً ؟! : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ، ولكن هناك لانهائية أخرى وتلك هي لانهائية صغر الذرة وقبولها النظري للانقسام قبولاً لاحد له ، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء فإننا لانملك الا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .
إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهاية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل الى تأمل هذه العجائب في صمت منه الى ارتيادها بغرور .
من الانسان في الطبيعة بعد كل شيء ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه ، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي أخذ منه واللانهائي الذي يغمره)
يرى باسكال بهذا العرض الأَّخاذ أن الانسان ليس مركز الكون كما رآه الفيلسوف اليوناني أرسطو ، بل هو في وسط الكون ، في حالة فقدان توازن ، وعجز مطلق عن الفهم ، معلقاً بأفظع من ألعاب البهلوان على حافة غير مرئية بين الكل والعدم ، بين لانهايتان في أي اتجاه سار ، باتجاه الكبير العالم العلوي ، أو باتجاه الأسفل الى العالم الأصغر ، هو عاجز عن إدراك العدم الذي خرج منه وقرر مصيره ، وهو أعجز عن إدراك العدم الذي يمشي باتجاهه مدفوعاً بجبروت لايقاوم ، نحو مصير أبدي يختفي فيه كلية من مسرح الحياة . بين لانهايتان تطوقانه ، كما هو اليوم في علمي النسبية وميكانيكا الكم ، الذي يصعد فيه الأول الى الملكوت الفسيح الجبار ، ويهبط الثاني الى العالم الأصغر الذي يسبح الله بطريقته الخاصة . ولكن الانسان حينما يقارن نفسه يصاب بالذهول ، فهو الى اللانهاية لاشيء وعدم وصفر ، ولكنه مقارناً الى العدم يتحول الى كل شيء دفعة واحدة ؟! فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية في ضربة غير موفقة وفي ثنائية تناقضية محيرة . عدم وكل شيء بنفس الوقت بنفس اللحظة . هذا ماجعل باسكال وهو يقطف هذه الحقيقة الكونية يصاب بالدوار فيسقط مغشياً عليه .
الثنائية التناقضية المحيرة في طريق مسدود :
تظهر هذه الثنائية المحيرة في طبيعة الانسان مرة أخرى على شكل تناقض محير مزلزل في حالاته النفسية الديناميكية : (( وطبيعة الانسان التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجا شديدا تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الاساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان ... يالهذا الانسان من كمير !! ياله من بدعة ووحش وفوضى ، وتناقض ومعجزة ، هذا الحكم في كل شيء ، ونموذج الغباء في الأرض ، مستودع الحق ، وبالوعة الضلال والشك ، مفخرة الكون ونفايته ، فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد ؟؟ )) ويُظهر الموت هذه الجدلية الرهيبة ، ففي لحظة واحدة ينهار الانسان من قمة الوجود في النطق والتعبير والحب والأماني والحلم الجميل والعيش الرغيد والحياة البهيجة والنور ، كله ينهار وبخبطة واحدة ، الى السلبية الكاملة والاستسلام المطلق والدمار الساحق والظلام المطبق .