الهروب من الفلسفة وعجزها عن التفسير :
كذلك تظهر هذه الثنائية التي لاتملك حتى الفلسفة الاجابة عليها في تفسير الشقاء والحبور الانسانيين : (( وشقاء الانسان لغز آخر ، فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعا من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته ، كثير التعرض للألم في كل عصب ، وللحزن في كل حب ، وللموت في كل حياة ؟؟ ))
إن كلمات باسكال تحلق الى الأفق الانساني في المعاناة واكتشاف الذات ودفع الحياة في العقل ، فهذه المعاني لاتوجد في قاموس الفلسفة الجاف وتعبيرات العقل الباردة ، إنها هنا تعبيرات مليئة بالحيوية ونبض الحياة وزخمها الرائع .
وتبرز الثنائية في صورة أخرى بين الطبيعة كيف تتصرف والانسان الضعيف في مواجهة جبروتها الذي لايرد : (( مع ذلك فإن جلال الانسان عظيم في معرفته أنه شقي ... ماالانسان الا قصبة وهي أوهى مافي الطبيعة ، ولكنه قصبة مفكرة ، والكون كله لاحاجة لأن يتسلح كي يسحقه فنفخة بخار أو قطرة ماء تكفي لقتله ، ولكنه بعد أن يسحقه الكون لايزال أنبل من هذا الذي يقتله ، لأنه يعرف أنه مفارق الحياة ، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الانسان ))
زحزحة الأفكار من حقل الى آخر لحل مشكلة الانسان الأساسية :
في نوع من هذه المتحارجات في علاقة اللهو بالضجر ، وثنائية الانسان المبنية على التناقض الذي لايمكن توحيده ، وفكرة العدالة الأرضية التي يستحيل إقامتها ، واليقين الذي يعجز الانسان عن قنصه ، وسعادة الانسان التي لايمكن تحقيقها بدون فهم الانسان . حاول باسكال الغوص في بعد نوعي جديد لفهم المشكلة الانسانية في جذورها في محاولة لحل تراكيبها الخفية واكتشاف معادلاتها المجهولة وهو الرياضي الذي طور حساب التفاضل والتكامل ، ودشن رياضيات الاحتمالات ، وفهم مبدأ الضغط الجوي ، ليضع في النهاية مبدأ ضغط السوائل ، الذي مكن المهندسين لاحقاً فتح قناة السويس وبناما ، بعد أن كان المهندسون يرتعبون من إمكانية علو مستوى بحر على آخر . قام باسكال بنقل الرهان الرياضي الى مستوى النفس وتقرير المصير ، ليس باستخدام المنطق الفلسفي ، فقد نفض يده منها بعد أن رأى كلال أدواتها المعرفية في حل المشكلة الانسانية . وكان باسكال على موعد مع ليلة مزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م .
الليلة المزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م :
حدث هذا قبل أن يموت بثماني سنوات ، حيث زلزلت قناعاته كلها ووصل معها الى اليقين والفرح والدخول الى حل مشكلة الانسان . في هذه الليلة بكى فيها بمرارة حتى سالت دموعه الى الأرض ، وتطهرت روحه وشعر بالمقدس ، فخرجت كلمات التجربة الروحية مهزوزة مقطعة متناثرة لاترابط بينها تضيء بمعاني شتى من الطهارة والفرح والسعادة . كانت تسجيلا تجربة دينية خارقة وتعبيرا عن حالة صوفية متدفقة حارة ، في تلك الليلة عند السحر حيث يهدأ الليل حدث التجلي ، وكأن ناراً اشتعلت في رأس باسكال فاتقدت روحه بنور خاص فكانت أول كلمة كتبها : نار . كانت نارا أحرقت الشكوك والذنوب ومعها الثنائية في ضربة موفقة واحدة . ثم خرجت بقية الكلمات ممزقة مبعثرة هي خلاصات لمذاقات روحية ، أكثر منها جملاًُّ معبرة عما خالجه من أفكار ، واستفتح تجربته الروحية بنداء خاص الى .. اله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب .. لا إله الفلاسفة والعلماء .. إن باسكال اكتشف ثلاث عظمات كل واحدة تنفصل عن الأخرى بلانهاية في المسافة : المادة والعقل والمحبة ، الأولى للقادة والأغنياء ، والثانية للفلاسفة والعلماء ، والثالثة للقديسين والأولياء ، .. إن حل اللغز الانساني والثنائية المحيرة ستكون بالرتبة الثالثة في كفاح مضني للوصول الى تحقيقها .
ينقل عن باسكال قوله : صنفان من الناس فقط يصح أن نسميهم عقلاء وهم الذين يخدمون الله جاهدين لأنهم يعرفونه ، والذين يجدون في البحث عنه لأنهم لايعرفونه )(8)
عندما شرع ( سنوفرو ) الجد الأعلى من الأسرة الفرعونية الرابعة في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد في حملة بناء الاهرامات ، أُصيبت مشاريعه بكارثة محبطة ، انهار فيها الاهرام الأول بالكامل ، وبدأ الثاني في التشقق ، مما حمل مهندسي الاهرامات من الفراعنة الاوائل الى إمالة زاوية انتصاب الهرم ، فخرج هرم سنوفرو الثالث منبطحاً ملتصقاً الى الأرض خائفاً من الانتصاب . هذه البداية المخيبة للآمال وضعت التحدي أمام الجيل التالي ، مما جعل الفرعون ( خوفو ) يقوم بدراسة مطولة استغرقت عشر سنوات ، في استقصاء هندسي وتجارب ميدانية مع الادمغة العلمية المحيطة به ، من جامعة هليوبوليس المدينة المقدسة قبل الانطلاق بمشروع جبار يستغرق عشرين عاماً بقدرة عضلية بحتة ؛ بدون عجلات ، بدون حديد ، بدون حصان ، بدون بكرات رفع . فكلها تقنيات تم اكتشافها لاحقاً ؛ فالاهرام بني بالسواعد والادمغة والحجارة فقط ... والارادة الحضارية .
كان أعظم تحدي في بناء الهرم هو في استواء القاعدة فكيف يمكن أن يجلس الهرم على خط الأفق تماماً ؟ لقد توصل المهندسون الفراعنة الى طريقة حفر مكعبات في الأرض على امتداد مساحة قاعدة الهرم ، ثم وصلوا بينها بممرات ثم ملأوها بالماء وحيث كان خط الماء في حافته العلوية في كل مكعبات الماء اعتبر خط السواء الأفقي الذي ستجلس عليه قاعدة الهرم .