المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (5) 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

الحكم القريبة المحجوبة  :  

هذه الفكرة في اتصال سويات الماء بين أحواض مختلفة هي لب قانون الأواني المستطرقة أو قانون ضغط السوائل الذي اعتصر باسكال دماغه لفهمه ثم صبه على شكل قانون رياضي يدرس اليوم في الجامعات في ديناميكا ضغط السوائل .

هذه الفكرة الصغيرة كانت المفتاح للتغلب على وهم أسطوري من ارتفاع مستوى بحر على آخر ، وفكرة قناة السويس لوصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر شغلت بال الانسان منذ أيام الفراعنة ، للاقتصاد في دروة كاملة للالتفاف حول القارة الأفريقية ، وكان هناك خوف من ارتفاع منسوب المياه في البحر الأبيض عنه في الأحمر مما يؤدي _ في حال فتح البحرين على بعض _ الى غرق مصر الكامل . وفكرة باسكال في ضغط السوائل أدخلت الى العقل الانساني فهماً جديداً في استواء حد السوائل في مستوى واحد بين الأحواض المتصلة ، فإذا كان مرج البحرين يلتقيان ، فهناك برزخ غير منظور لايجعل أحد البحرين يطغى على الآخر ، فبينهما برزخ لايبغيان .

  التخلص من ضغط مسلمات الأفكار السابقة : 

كان باسكال عالماً تجريبياً قبل أن يكون فيلسوفاً روحانياً يمزج التصوف بالفلسفة في عصير روحي جديد نادر كان مزاجه كافورا ، والذي قاده الى وضع قانون عام لضغط السوائل هو فكرة الخلاء في أنبوب الزئبق ، وكان هذا صدمة للفكر التقليدي السائد ، الذي كان يؤمن بأن الطبيعة تكره الخلاء ، ولكن تجربة ( توريشلي ) في إيطاليا قادت الى زلزلة هذا المفهوم ، فإذا مليء أنبوب مفتوح أحد الطرفين بالزئبق ، ثم وضع على حوض مملوء بالزئبق ، نزل مستوى الزئبق في عمود الزجاج الى مستوى معين واستقر عنده ، تاركاً خلاءً في أعلى الانبوب . وتتكرر هذه الظاهرة مع كل تجربة . وكان هذا يحتاج الى تفسير ولم يكن عند توريشلي الذي كان أول من انتبه الى هذه الظاهرة . عمد باسكال الى إعادة التجربة في مستويات شتى بين البحر والجبل والسهل ، واستخدم سوائل منوعة فعمد الى الماء والكحول والزيت فكانت هذه الظاهرة تعيد نفسها بشكل رتيب صامد . لقد سكر باسكال بالنشوة وهو يتعامل مع الطبيعة لغة الخلق الأساسية ، التي تنطق بصدق وصرامة ، بدون تحريف وتزوير ومحاباة ، فهي أعظم من كل نص كَتب عنها ، من أي جهة كانت مصدره ، لقد لاحظ أن مستوى السائل الزئبقي يرتفع أكثر مايكون عند سطح البحر وكان ارتفاع عمود مادة الزئبق 76 سم ويقل هذا مع الارتفاع علواً . من هذه الملاحظة وصل باسكال الى فكرة ( البارومتر ) قياس الضغط الجوي الذي قاد الى سلسلة اكتشافات وتطبيقات علمية لاحقة ليس أقلها في ميدان الطب في معالجة الحروق والغانغرين الغازي في غرف مرفوعة الضغط عالية التركيز في الاكسجين ( HYPER  -  BARIC - OXYGEN - CHAMBER )

   تحليلية ديكارت و( حدسية ) باسكال  : 

إن العصر الذي عاش فيه باسكال وديكارت وليبنتز واسبينوزا في القرن السابع عشر للميلاد كان بداية تدشين عصر العقل النهضوي في أوربا ، وكان أبرز مافي هذا الفكر كسر المسلمات العقلية السائدة ، التي تحولت الى أغلالٍ بثقل حجر الرحى ، فهي الى الاذقان فهم مقمحون . مع هذا كان باسكال نسيجاً فكرياً لوحده . كان يشترك مع ديكارت في مستوى العمق الفلسفي واستخدام الرياضيات للمنطق الفلسفي ، كما أشار الى ذلك في كتابه الخواطر ( PENSEES ) وأثنى على ديكارت ، ولكن التشابه بين الرجلين كان في الواقع سطحياً . ففي الوقت الذي كان ديكارت تحليلياً كان باسكال ( حدسياً ) أقرب الى مدرسة الجشتالت ( GESTALT ) وفي الوقت الذي كان ديكارت يحاول تدشين فكر شمولي سنني يستخدم فيه أداةً معرفية لتطبيقها بشكل وجودي في حقول معرفية شتى ، كان باسكال يرى تعقيداً وخصوصية قائمة بذاتها في كل حقلٍ معرفي . وهو ماأكدته مدرسة علم النفس السلوكي .

وفي الوقت الذي كان عقل ديكارت ينفر من التجربة وجوها ولايميل الى الحقل التجريبي ؛ كان باسكال يعشق الحقيقة العلمية التجريبية ، كما حصل مع اختراعه الآلة الحاسبة وهو لم يتجاوز العشرين من العمر ، وبقي لمدة عشر سنوات وهو يشتغل في تطويرها ، وتعتبر مقدمة لتطوير نظام الكمبيوتر . فإذا قرأ الانسان في برامج الكمبيوتر اليوم كلمة باسكال (PASCAL ) عليه أن يتذكر ذلك العبقري ، الذي عاش في منتصف القرن السابع عشر للميلاد ، وأنجز ماأنجز ولم يعمر أكثر من تسع وثلاثين سنة . وفي الوقت الذي عاش ديكارت عصره فلم يلتفت الى السياق التاريخي ، كان باسكال مهتماً بالعلم وقدره التاريخي وتاريخ العلوم ، فعندما وصل الى فهم الضغط الجوي كان قد اطلع على كل ماأنجزه العقل البشري في هذا الصدد منذ أيام أرخميدس حتى عصره .

جاء في كتاب نوابغ الفكر الغربي تأليف نجيب بلدي : (إن لباسكال أسلوباً خاصاً في البحث والتفكير والتعبير وقد رأينا باسكال في العلم صاحب نظرة كاشفة، لايفرض على العلم وأقسامه نظاماً سابقاً، إنما يخلص الى ذلك النظام بعد الكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم ولكل قسم منه على حدة وبفضل ذلك الكشف ذاته ، ولاشك عندنا أن منهج باسكال في الفلسفة والدين كمنهجه في العلوم ، عبارة عن حدس وكشف لااستدلال وتنظيم استدلالي للأفكار ، وأخص ماتمتاز به النظرة الكاشفة القاؤها الضوء كاملاً على الموضوع المدروس ، وربما كان أخص مايمتاز به التعبير عن تلك النظرة الكاشفة في كمالها وتمامها هو التعبير بالخواطر لابتحرير كتاب منسق كل التنسيق )(*)

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram