ولنلقِ نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! إن وزن القلب 20 غراماً ووزن الرئة 30 غراماً ووزن الكلية 12 غراماً ووزن الدماغ 350 غراماً، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي 3 غرامات والكبد يزن 125 غراماً، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!!.. بينما وزن المشيمة 500 غرام لأنها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها تلك الأم الصغيرة؟!
ثم لننظر إلى هذه الأنشوطة التي يتعلق بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية (طول الحبل السري 50 سم) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار الرحم معلناً وجوده وحياته، ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة، كما أن هذا الحبل يحوي مواسير (أنابيب) الدم التي تُنقل من المشيمة إلى الجنين، حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً وشريانين يقومان بإيصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة، ولذا كان لهذا الحبل مزايا مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة الجنين للخطر بنقص تروية الدم، كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق الجنين ليقوم بعمل أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين، وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي هلاك الجنين، فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (ولقد كرمنا بني آدم)..
وطالما تحدثنا في هذه الضخامة التي وصل إليها الجنين وهي من ناحية الطول أكثر بـ 17 مرة، ومن ناحية الوزن أكثر بـ 325 مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الإنساني في تخليق المضغة وتكوينها، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والضخامة أم إنه يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول: إن الرحم يبلغ من الحجم عند الفتاة العذراء حوالي 2-3سم3 (بقدر حبة الكستناء) بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم خمسة ألتار أو ما يعادل 5000 سم3 أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار 2500 ضعف تقريباً، كما أنه يصل في بعض الحالات إلى 10 ليترات أو حتى 15 ليتراً كما في الحالات المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين العرطل أو الحمل التوأم!! فكيف استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين وخمسمائة ضعف كما أنها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل 50 غراماً بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمت إليها وتشربت بها حتى زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!! ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد ذاته لولا أننا نراها كل يوم فتبلد حسناً اتجاهها، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من نواحي جسمها، أولاً على مستوى الحوض حيث إنها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً، وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب سنتعرض لها بعد قليل، ثم إن المبيض يكون قد لجم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الإنسان، وأما الدم فهو قد أعلن استنفاره للقضية ولكن كيف بإمكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على مستوى عالٍ وتكون النتيجة كالتالي: يقول الدم، ما هو الشيء الذي أستطيع أن أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى يزيد من إفراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الألدوسترون؛ فإذا زادت كتلة الدم بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطياً للطوارئ فيما لو حصل نزف فتكون كمية الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ إنه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من كمية مولد الليفين (الفيبرونوجين) ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما لو حصل نزف؟ خاصة وإن المشيمة سوف تقتلع وتتسلخ من قعر الرحم، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف، وأما أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالما أظهرت إخلاصك للموضوع، ويكون جواب الدم إنني الخادم المخلص لهذا الإنسان العظيم الذي أساعد في إظهاره إلى صفحة الوجود، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في الأزمات وذلك بتوليد المزيد من الحديد والخضاب، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة النخامية والكظر والكبد والدم، وهناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث تنفتح الأوساط العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام حتى يزيد من إنتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان، وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم3 بالإضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى الدم لتعاون هي أيضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن، كلها تستعد للمهمة الخطيرة: الأعصاب، الغدد، الأخلاط، العضلات، المفاصل، العظام..
ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور، وهذا عن طريق هورمون الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبة التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون، إنها تعمل على أروع المستويات، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة جزاك الله كل خير فلقد تعبت كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها، وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالإضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات (آ) و(ب) B +A بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين، وهذه الهورمونات على تفاهم مستمر مع النخامة، وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه، وعن نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة أن توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة، حيث تحصل المفاجأة العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم. إنها قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والأعضاء، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ المخاض الشاق، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى الخارج، إن فوهة العنق مغلقة تماماً بسدادة ليفينية، وإن المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (12) سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها هي هذه، وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد إدرار البول، فماذا يحصل لو حصل خطأ بسيط، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى، لم يحصل هذا مطلقاً ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟
يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى أسفل، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل، ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم، ثم ينبثق جيب المياه الذي تكلمنا عنه، ويبدأ رأس الجنين بالتقدم فيحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر بها، ويكون هذا بإطباق ذقنه إلى صدره، والتقدم بمؤخرة رأسه، وهكذا يمر الولد إلى أسفل، بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة الحب (المولود الجديد) وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل معجزة جديدة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين، وليس هذا المهم بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم الذي كانت تغذي الجنين، لولا إرادة الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحله لكانت كل ولادة معناها الموت الحقيقي للأم، لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به، ولكن ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح في قساوة الحجر، بحيث أن الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة على انقباض الرحم، ولذا سميت هذه العملية بعملية الإرقاء الحي وسمي الرحم في هذه الحالة بكرة الأمان وفعلاً إنها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين.
تغذية الطفل:
أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب عليه، ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً؟ إن الإرادة الحكيمة هيأت له الثدي كأحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين:
خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي 25 فصاً عذباً للبن، ومتى حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالإفراز ويبدأ الإفراز، وهنا نتساءل كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل؟ حقاً إنه من الأسرار العجيبة المدهشة، فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق الإفراز العائد للخلية، ومعنى هذا أن الخلية الغدية تمتلئء بكرات الدسم فلا تستطيع عبور الغشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم، ثم تعود الخلية فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة المواد التي يحتاجها الجسم، وإن تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل.. كما أن اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة التي تمر من خلاله مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته، وإذا ذهبنا نعدد مزايا حليب الأم وأفضليته على باقي أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف "يتفوق بشدة.. وهذا كله من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما..