في 6 ديسمبر _ كانون أول عام 1965 م أبحرت حاملة الطائرات الأمريكية ( تيكون ديروجا _ TICONDEROGA ) عندما كانت نار الحرب محتدمة في فيتنام ، وهي تحمل على ظهرها العديد من الطائرات المزودة بالقنابل الهيدرجينية ( الالتحامية الحرارية النووية من عيار الميجاطن ) وكان ذلك ضمن الاستنفار النووي الأمريكي خوفا من تطور نووي غير محسوب ، فحدثت واقعة نووية تم التكتم عليها في وقتها ، وهي سقوط احدى الطائرات من نوع ( سكاي هوك ) تحمل في بطنها قنبلة هيدرجينية ، من عيار واحد ( 1 ) ميجاطن من على ظهر حاملة الطائرات الى قاع البحر (1) لتستقر في عمق 4880 متر في ظلام المحيط ، تحمل 33 رطلاً من البلوتونيوم ، باتجاه الساحل الياباني قريباً من اوكيناوا على بعد 130 كم بين تايوان والجزيرة اليابانية الكبرى شيكوكو ، وطوى البنتاغون سر القنبلة الثمينة الضائعة يومها ، وليس هذا هو السر النووي اليتيم ، فقد تم إماطة اللثام في الفترة الأخيرة أن مدينة ناغازاكي ضربت بقنبلتين وليس بقنبلة نووية واحدة كما هو معروف تاريخياً الا أن احداهما لم تنفجر ؟!!
قنبلة نووية من عيار ميجاطن في قعر المحيط :
والذي كشف الواقعة هو كاتب أمريكي اسمه ( ويليام أركين _ WILLIAM ARKIN ) الخبير في القضايا الاستراتيجية حيث نشر كتابا أشار فيه الى مايزيد عن 1200 واقعة نووية من هذا النوع في البحار ، منها 11 مفاعل نووي ضمن غواصة نووية هوت الى القاع ومنها 48 رأسا نوويا غرقت في قاع البحر من الشكل الذي بين أيدينا ، وبعد مضي عشرات السنوات عرف أهل الجزيرة بأن أمام ساحلهم وفي قاع البحر يرقد شر سلاح عرفه الجنس البشري ، ولكن البنتاغون هدَّأ أهل الجزيرة ، بأن فترة الاثني عشر سنة قد انتهت (2) ولذا فلاخوف من بأس القنبلة الراقدة في أعماق المياه الباردة ، ولاندري ماهي مشاعر سمك القرش وهو يحوم سابحاً ، حول هذا الضيف الغريب غير المرغوب فيه ، حيث لاأمل من مغادرته ضيافة قاع المحيط؟!!
القنبلة النووية المفقودة ؟!!
ومن جملة الأسرار التي خرجت للسطح أيضاً في الفترة الأخيرة أن ناغازاكي ضربت بقنبلتين من نوع الرجل السمين ( FAT MAN _ البلوتونيوم 239 ) بدلاً من واحدة ، وان كان بعض الخبراء قد شكك في الواقعة ، وتم تسليمها الى السوفييت عن طريق اليابانيين ، قبل دخول الجنرال الأمريكي ( مارك آرثر ) الجزر اليابانية بأيام قليلة ، وكان حرص اليابانيين على ذلك أن لاتنفرد أمريكا بسر السلاح النووي (3) وربما كان مخطط ضرب المدينة بقنبلتين ، بسبب جغرافية المدينة المحاطة بالجبال ، ولذا كان تأثر ناغازاكي أقل من تأثر مدينة هيروشيما بالكارثة النووية نسبيآً . وسواء ضربت ناغازاكي بقنبلة واحدة أو اثنتين فان المحصلة النهائية أن عهدا جديداً قد انبثق ، وأطل العصر النووي برأس الفطر المرعب ، وهو يحلق فوق مصير الجنس البشري ، تماماً كما في الأساطير التي نعرفها ماحصل مع علاء الدين والمصباح السحري .
قصة علاء الدين والمصباح السحري والجني :
تروي الأساطير أن علاء الدين الفقير أغراه الساحر بالدخول الى مغارة سحيقة ليخرج منها مصباحاً عتيقاً ، والذي حصل أن علاء الدين عندما وقع على المصباح رآه قد علاه التراب ، فلما أراد تنظيفه خرج من فوهة المصباح جنياً هائلاً يفعل الأعاجيب ، انتشر كالدخان ينتظر الأوامر من صاحب المصباح ، ولكن ميزة العصر الجديد الذي أخرج الجني ( النووي ) من القمقم أنه ليس مصباحاً واحداً يتيماً ، كما أن السحَّارين يزداد عددهم باضطراد ، ليس كوريا الشمالية واسرائيل آخرهم ، ولذا فإن العالم يعيش أزمة نووية حتى اليوم ، فهو استطاع ترويض الجني ( النووي ) ومازال ممسكاً به ، ولكن كثرة السحرة والمصابيح التي بها يمسكون والجن المختبيء فيها ، يجعل العالم الذي نعيش فيه عالم الجن وعبقر وعالم الخوف وعدم الاطمئنان للمردة الجدد ، الذين أعادوا الينا روح الأساطير وقصص الجان مرة أخرى . وفي الواقع يجب أن لانضحك أو نستخف بالأساطير ، لانها مخزن الحكمة الانسانية ، كما تحكي رغبات الانسان الخفية والمظلمة والتي تحرك اللاوعي عنده ، من مثل امتلاك قوة لاتخطر على بال أحد .
دور الأسطورة في الذاكرة الجماعية للجنس البشري :
ليس المهم في الأسطورة أنها تمثل حقيقةً أم لا ؟ المهم فيها أنها تمثل وقود تحريك الانسان ، فالسيارة تحتاج للبنزين لتمشي ، أما الانسان فيمكن أن يتحرك ويمشي بل ويقتل بالوهم ، فالذاكرة الجماعية للصرب مثلاً مازالت تتغذى من معركة ( أمسل فلد _ AMSELFELD )(4) التي جرت في كوزوفو عام 1389م ، كما أن الخيال اليهودي مازال يشحن من تهديم ( تيطس _ TITUS ) للمعبد عام 60 للميلاد ، وهذه الظاهرة لاتخلو منها أمة ، ومنها تتغذى ذكريات الأطفال ، وتشحن بها الذاكرة الجماعية للأمة ، وتُخَلِّد بها الأمة ذكريات أبطالها بكيفية ما ، وفي تراثنا هناك الكثير من الأساطير التي مازال ( الحكواتي ) يرويها في الحارات الشعبية في دمشق والقاهرة والقيروان ، من أمثال قصص ( حمزة البهلوان ، والأميرة ذات الهمة ، وعلي الزيبق ، وتغريبة بني هلال ... وماشابه ) وقصة علاء الدين والمصباح السحري تدخل تحت هذه المنظومة المعرفية ، وقصة سندباد لم يبق طفل في العالم لم يشاهدها فقد مثلَّها اليابانيون بأفلام الكرتون وترجمت الى شتى لغات العالم . وهذا يعني أن عشق الانسان للقوة وغرامه بتطويرها تكمن في العمق الرهيب للاوعي الانساني منذ قرون طويلة ، ولذا كانت المحرك العميق خلفه للتطوير بدون توقف ، ولكن هراوة الغابة غير السلاح النووي ، والقوة النارية ليست كالفطر النووي ، والذي حصل في هذا التطور الفريد ، والقفزة النوعية المذهلة للقوة ، والتي عاشها جيلنا فقط ، ولم يهضمها العقل الجماعي الانساني بعد ، يجعله يقتات من مشاعر الأسطورة ، وأحاسيس الغابة ، والاعتماد على مبدأ الهراوة . والذي حصل بكل بساطة هو تطور ثوري جديد في مفهوم القوة ، قاد الى عكس مفعوله ونقيض ماأُريد له ، حيث ألغت نفسها بنفسها ؛ فالقوة أصبحت كائناً خرافياً مثل قوى الأساطير التي سمعناها عن الجني الذي انطلق من مصباح علاء الدين ، وبات الخوف من جهاز الرعب هذا داعياً لتفكيكه من جديد ، ولكن رحلة الصعود تكون أسهل من رحلة النزول أحياناً ، واسترداد الثقة بعد كسرها بين بني البشر أصعب بما لايقارن مع فقدها .
الكائن الخرافي ( الاسطوري _ الحقيقي ) الجديد :
لم يفهم ساسة العالم ( بُعد ) ومدى التطور الجديد للقوة بما فيهم ( كلينتون ) الذي أعلن إيقاف التجارب الأمريكية النووية أو تطويرها ، وأوعز في نفس الوقت ، الى المخابر الجديدة بتطوير تقنيات جديدة ، لاتعتمد على التفجير وسيلةً لمعرفة فاعلية السلاح النووي كما سنشرحه بشكل تفصيلي لاحقاً ، حيث يعتمد التفجير داخل الكمبيوتر وليس في باطن الأرض ، من خلال تطوير نظام كمبيوترات متقدم ؛ بسرعة وقدرة خزن تفوق ألف مرة الكمبيوترات المعروفة اليوم ، وبكلفة إجمالية تصل الى اربعين مليار دولار تنفق في مدى العشر سنوات القادمة ، للمحافظة على التفوق النووي ، ويعرف هذا المشروع الان ببرنامج البحث والانتظار العلمي ( STOCKPILE STEWARDSHIP AND MANAGEMENT PROGRAM ) ويرمز له اختصاراً ( SSMP ) . أو استخدام جرعات مجهرية في التفجير بدون الحاجة لتفجير قنابل عيار ( المائة كيلو طن ). الا إن الذي حصل في نمو القوة الخرافي أنها لم تعد قوة ، كما يفكر الانسان ، على النحو الذي شرحه صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير ) الجنرال فيكتور فيرنر ، عندما نتصور انساناً يدب في المدينة ، بطول مائتي متر ووزن عدة مئات من الأطنان ، فإنه لن يبقى أنساناً حتى لو حافظ على شكله الانساني ، فامتلك رأساً انما بقدر غرفة كبيرة ، أو أذنا ولكن بمقدار صيوان الفيل وأكبر !! (5) أو على النحو الذي شرحه الرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف في كتابه ( البيروستويكا ) حيث أشار الى أن الطاقة النووية التي تحملها غواصة نووية واحدة ، هي أشد من كل النيران التي اشتعلت في كامل الحرب العالمية الثانية ، فقال (( ولأول مرة في التاريخ أصبح هناك حاجة حيوية لادراج المعايير والقواعد الأخلاقية _ الجمالية الانسانية العالمية في أساس السياسة الدولية وأنسنة العلاقات الدولية )) (6)
مأزق العصر النووي :
ولذا فان العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة ، وأدخل مفهوما ً فلسفياً جديداً في علاقات البشر والدول ، وكان هذا للمرة الأولى بعد المأزق النووي ، وانتبه الى هذا بشكل مبكر نفس الدماغ العلمي المشرف على ( مشروع مانهاتن ) في ( لوس آلاموس ) الفيزيائي الأمريكي ( روبرت اوبنهايمر ) الذي كان خلف التفجير النووي الأول في تاريخ الجنس البشري ، في منطقة ( آلامو جوردو ) ، عندما تصور علاقات القوى ( كعقربين تحت ناقوس زجاجي واحد اذا اشتبكا في صراع فان الموت سيطبق بقبضته عليهما جميعاً ) وتحت هذا المفهوم قال الرئيس الأمريكي السابق ( آيزنهاور ) عام 1956 م في احدى رسائله : (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد ولى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة او اختيار الموت ))(7) وهذا الكلام أدركه بشكل جيد يومها خروتشوف الزعيم السوفييتي عندما قال في النمسا في يوليو تموز عام 1960 (( نحن سكان هذا الكوكب نشبه من بعض النواحي سكان فلك نوح .. فاذا لم نستطع أن نعيش على هذه الأرض كما استطاعت الكائنات الحية على فلك نوح ، وإذا نحن بدأنا حرباً لتسوية المنازعات بين الدول ، ومنها مايبغض الرأسمالية ومنها مايبغض الشيوعية ، دمرنا فلك نوح الذي عليه نعيش وهو الأرض ))(8) وقريباً من هذا الكلام كرَّره جورباتشوف بعد ذلك بثلاثين سنة في كتابه البريسترويكا (( استحالة حل التناقضات الدولية حلاً عسكرياً نووياً ينتج ديالكتيكاً جديداً للقوة والأمن ، اذ لايمكن ضمان الأمن بالوسائل العسكرية ، لاباستخدام السلاح ولابالتهويل المستمر لـ ( السيف والترس ) كما أن المحاولات الجديدة التي تبذل لتحقيق التفوق العسكري تبدو مضحكة وساذجة )) (9) ليخلص في النهاية الى أن (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وايديولوجية أو أي أهداف أخرى ، وتكسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً ، كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلم ، فالوظيفة السياسية للحرب كانت دائما تبريرها ومغزاها أو جوهرها ( عقلاني ) أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ، ففي النزاع النووي العالمي لن يكون هناك رابحون وخاسرون ، لان الحضارة العالمية سوف تفنى فيه حتما . ان النزاع النووي ليس حربا بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )(10) وكان هذا الانعطاف وهذا ( الفهم ) هو بعد المواجهة النووية في أزمة كوبا بوجه خاص ، حيث تم توقيع أول اتفاقية نووية حول منع التجارب النووية في الغلاف الخارجي أو الجو الأرضي أو المياه .
رحلة السلاح النووي في نصف القرن السابق :
حتى عام 1960 كان السباق المحموم هو في إطار تضخيم وتكبير السلاح النووي ، من خلال تطوير ماعرف بالجيل الثاني ( القنبلة الهيدرجينية ) وحتى عام 1958 م فجرت أمريكا 118 قنبلة ، في جنوب المحيط الهادي قضت فيها على كل حياة حيوانية ونباتية ، وفي عام 1954 فجرت سلسلة من القنابل تحت الاسم السري ( كاسل ) في جزر المارشال منطقة ( بيكيني _ أتول ) حيث تم تفجير سبع قنابل هيدروجينية بشكل متلاحق ، تحت تصفير وتزمير العسكريين وفرحهم الشديد بألعاب العيد النووي !! وفي الأول من آذار عام 1954 م هتف الجنرالات لتفجير قنبلة جديدة كان المتوقع أن تكون بقوة 6 ميجاطن فانكشف الغطاء عن جبروت نووي بلغ 15 ميجاطن ( أقوى من هيروشيما بألف مرة ؟! ! ) فارتجت الأرض من تحتهم وحلق في السماء مارد علاء الدين النووي الجديد يطل برأسه من ارتفاع 25 كم ، وأرسل الجنرال المتحمس يصف الاعصار النووي على الشكل التالي : (( اندفع الفطر النووي محلقا الى ارتفاع 25 كم في عنان السماء وبسرعة مخيفة انطلقت الغمامة النووية ترغي وتزبد لتشكل ثلاث كرات من الكريستال اللامع ، وعندما وصل الانفجار الى أوجه التمعت السماء فجأة بلون أزرق بنفسجي في تضاعيف التشرد الأيوني المقدس !! ) (11 ) فجُن جنون السوفيات فانطلقوا لايلوون على شيء في تطوير أعظم منها ففجروا في نهاية الستينات قنبلة بلغت قوة ( 58 ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ 3800 مرة !! ) فصرَّ جنرالات البنتاجون حنقاً على أسنانهم وقرروا المضي في مشروع لم يحلم به ابليس اللعين ، بتفجير قنبلة من عيار ( مائة ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ6600 مرة !! ) كل هذا قبل اتفاقية عدم التفجير في الهواء والماء التي ذكرناها والاحتفاظ بالتفجير تحت الأرض فقط .
المسموح به فقط اقلاق عظام الموتى تحت الأرض ؟!!
في السبعينات تم الاتفاق على السماح بمتابعة لعبة الموت وتجارب التفجير تحت الأرض فقط ، لتقفز الاتفاقية بعد ذلك على تحديد قوة التفجير بما لايزيد عن ( 150 ) كيلوطن ( أقوى من هيروشيما بعشر مرات !! ) وكان كل ذلك في ضباب الحرب الباردة قبل أن تدفن الأخيرة في جنازة خاشعة في باريس ، مع التسعينات من هذا القرن بعد أن زُلزل العالم عدة مرات وبلغت القلوب الحناجر ، وفي السبعينات حصل تطوران هامين في التطوير النووي الأول : هو في اتجاه التصغير ( MINIMIZING ) والثاني في التلاعب في اتجاه الطاقة حيث تم انتاج قنبلة النيوترون ذات التأثير الاشعاعي .
انتاج قنابل فاكهة التفاح !!
كانت القنبلة الهيدرجينية الأولى التي أخذت اسم ( مايك ) والتي أنتجت في خريف عام 1952م ذات حجم مرعب ، بطول ستة أمتار وبقطر 8.1 متر وبوزن 65 طن ، وهي التي عرفت بالسلاح الاستراتيجي ، ولم يمكن حملها على ظهر طائرة في ذلك الوقت ، بل شحنت على ظهر بارجة حربية ، وفي عام 1956م استطاع الأمريكيون حمل أول قنبلة هيدرجينية على ظهر طائرة حربية من نوع ( ب _ 52 ) وكانت القوة الجوية الضاربة لأمريكا مكونة من ثماني طائرات من هذا النوع ، ولكن التطوير الجديد مشى بعكس هذا تماماً ، بانتاج ماعرف بالاسلحة التكتيكية ، حيث أمكن تصغير القنابل الى حجم الفاكهة الصغيرة ، أي أصغر من قنبلة هيروشيما ذات القوة التدميرية ( 15 كيلوطن ) ، وهكذا أصبحت الخيارات منوعة بين القنابل ( الاستراتيجية ) والـ ( التكتيكية ) ونشأ رعب جديد من هذا الطيف من الامكانيات ، حيث قفز الى الإمكان حدوث حروب تستخدم فيها الاسلحة التكتيكية الصغيرة ، ولكن الاستراتيجية النووية أظهرت مرة أخرى ، أنه مع العصر النووي أن السحر قد انقلب على الساحر ، لانه لايوجد هامش واضح بين السلاح التكتيكي والاستراتيجي ، فيمكن الانزلاق بأبسط ممايتصور الانسان من الحرب التكتيكية الى الحرب العظمى التي لاتبقي ولاتذر ، تحت تأثير أعصاب انفلتت ، وأحقاد تفجرت ، ودماء سالت؛ فالانسان مازال يحمل في جمجمته بقايا تلافيف دماغ التماسيح وسمك القرش ، كما نكتشف بين الحين والآخر عن مدى رقة وتفاهة قشرة الحضارة في القشرة الدماغية في تلافيف دماغ الانسان ، والا كيف يمكن أن نفهم صواريخ كابول ، واغتصاب خمسين ألف امراة في البوسنة من سن السبع سنوات الى السبعين على يد الصرب ؟!!
تطوير نظام الصواريخ ونتائجه البعيدة :
وبقي لتتويج رحلة السلاح النووي تطوير الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية ، ومن هنا تطور علم الفضاء وارسال الأقمار الصناعية ، التي أتت بالخير لنا من حيث لايشعر العسكريون ، حيث ينتظر الجنس البشري الآن ، امكانية ربطٍ هائلة للجنس البشري من المعلومات والاتصالات ، وتهيئة الجو لبناء الدولة العالمية الواحدة وإنتاج الانسان العالمي الثقافة الجديد ، وإيقاف الحروب نهائيا واجتثاث فقر ومجاعات العالم ، وفتح الامكانية لارتياد الفضاء واكتشاف الحياة في كواكب النظم الشمسية الأخرى .
المفاجأة الكبرى في نظام الصواريخ :
بين اختراع أول سلاح نووي وبين الوضع العالمي الجديد قفزات لاتخطر على بال ، بين عقيدة الهجوم النووي الأول ، فمن يهاجم أولاً يربح بالقضاء الكامل المبرم على الخصم ، وتبين مع الوقت مدى سطحيته وعدم جدواه وامتلاءه بالثغرات ، فتحولت العقيدة الى الردع النووي ، أي في الحين الذي يهاجم أحد الأطراف ، فإن الطرف الثاني يطلق صواريخه النووية _ وهو يغرغر في سكرات الموت _ التي سوف تصل الى الخصم في فترة أقصاها عشرين دقيقة ، فتأخذ الخصم مع نزع الروح معا ً الى قبر مشترك ؟!! ثم تطورت عقيدة ثالثة تقول بعدم جدوى وأمان أي وسيلة أمام الحرب النووية ، فالأمر لايحتاج لهجوم أو دفاع ، بل يكفي الانتحار النووي ، فتفجير أحد الأطراف قنابله التي يملكها هو بالذات ، وفوق رأسه بالذات ، سوف تقود العالم الى شتاء نووي رهيب ، ينقرض فيه الجنس البشري ، كما انقرضت الديناصورات بظروف مشابهة .
كذلك فان الياباني ( شينتارو ايشيهارا )(12) لم يضن علينا بكشف السر عن سبب الاريحية والاخلاقية المتميزة ، التي جعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تكف عن التسابق النووي !! وكان السر في نظام الالكترونيات المتطور ، الذي خرج من أيدي الديناصورات الكبرى ، ليصبح مصير تطويره في يد دولة غير نووية هي اليابان !! فالصواريخ حتى تصيب أهدافها بخطأ محدود يعتمد بالدرجة الأولى على نظام الكمبيوتر المتطور ، و( الميكرو شيبس ) التي تُخَفِّض امكانية الخطأ الى أمتار قليلة أصبحت انتاجاً يابانياً ، فحتى يمكن تدمير القنبلة الهيدرجينية _ المختبأة في ( السيلو _ SILO )(13) مباشرة وبضربة رأس لرأس ، وفي فوهة البئر النووي تماماً ، المحصن ضد الزلازل ، بجدار من الخراسانة الاسمنتية المسلحة حتى ستين متراً ، كما في المخابيء النووية الأمريكية الموجودة بشكل رئيسي في كاليفورنيا في قاعدة ( فاندنبرغ ) _ لابد من امتلاك الكمبيوترات اليابانية ، وهكذا فان قصة انقلاب السحر على الساحر أخذت بعدا ً جديداً ، حيث ظهر مرة أخرى قصر نظر العسكريين ، ومدى رجاحة عقل العلماء الذين انتبهوا الى روح العصر الجديد ، فاقتراب العالم تدريجيا ً من السلم ، كان العلم هو المطور الأكبر خلفه ، أكثر من أي اعتبار آخر أو أية موعظة أخلاقية .
هوامش ومراجع :
(1) مجلة الشبيجل الألمانية حيث أوردت تقرير الخبير الأمريكي بالتفصيل عن مجموع الواقعات النووية ويراجع في هذا كتاب عندما بزغت الشمس للكاتب _ نشر دار الكتب العربية _ دمشق ص 189 فصل الجيل الثاني من السلاح النووي (2) تعتبر مادة نظير الهيدرجين ( التريتيوم _ TRITIUM ) ذات حياة تصل الى ( 3.12 ) عاماً وهذا يعني أنه لابد من حقن القنبلة مرة أخرة بهذه المادة حتى تحافظ القنبلة على مفعولها ، وهو مبدأ الجرعة الداعمة كما هو في اللقاح الطبي ؟!! (3) أشارت الى هذا الخبر المجلة الألمانية شديدة الدقة ( الشبيجل ) في عددها رقم 10 من عام 1992 م حيث ذكرت اسم الترجمان والحزبي الشيوعي الروسي ( تيتارنكو _ TITARENKO ) الذي كانت مشتركاً في اللقاء الذي عقد بين القيادة اليابانية ( بالصور ) وبين القيادة الروسية اثناء استسلام الجيش الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي كشف اللثام عن رسالة تيتارنكو التي أرسلها الى القيادة الروسية يومها هو الروسي المتخصص في التاريخ العسكري ( ايجور موروسوف _ IGOR MOROSOW ) والذي كتب مؤرخاً للحرب بكتاب أخذ عنوان ( الحرب التي لاتنسى ) وتم عرض فيلم وثائقي في ألمانيا بـ 16 حلقة عن الحرب تحت نفس العنوان (4) معركة أمسل فلد ( AMSELFELD ) جرت عام 1389 م حيث هزمت فيها القوات الصربية أمام الجيش العثماني بقيادة السطان العثماني مراد خان الأول وقتل في هذه المعركة كلا القائدين فأما الملك الصربي ( لازار ) فقتل في المعركة بعد الأسر ، وأما السلطان العثماني فأثناء تفقده ساحة المعركة من جريح صربي متظاهر بالموت _ يراجع في هذا كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية _ عن معركة قوص أوه _ تأليف محمد فريد بك المحامي _ دار النفائس ص 135 (5) كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير) تأليف الجنرال فيكتور فيرنر _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ ترجمة الدكتور هيثم كيلاني _ ص 21 (6) بيروسترويكا _ م . س . غورباتشوف _ الفارابي _ ص 200 (7) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي ص 14 (8) حول منع الحرب _ تأليف جون ستراتشي _ ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد _ الدار المصرية للتأليف والترجمة _ ص 16 (9) نفس المصدر السابق ص 200 (10) نفس المصدر السابق ص 199 (11) مجلة الشبيجل عدد 13 عام 1990 ص 278 (12) كتاب اليابان تقول .. لا شينتارو ايشيهارا _ ترجمة د. أسعد رزوق _ دار الحمراء _ ص 17 _ 20 ( 13 ) المخبأ النووي للصاروخ الذي يحمل العديد من الرؤوس النووية وقسم منها وهمي .