مع نهاية عام 2021 م كان معظم الناس على وجه الأرض يربضون في بيوتهم مع احتفال محدود على تخوف من فيروس خفي يضرب الأرض ومتحوراته وتغيرات شكله على نحو متقلب يقف العلم والعقل حائرا تجاه هذا الكيان الهش بأحجام لايرى إلا مكبرا عشرات الالاف من المرات.
وأذكر جيدا حين مرت أيام وفي وقت متقارب بين أعياد الميلاد وكربلاء، وبين عيد الميلاد وعيد المسلمين وهو أمر أذكره جيدا حيث ترعرعت؛ فأنا رجل ولدت في مدينة اسمها (القامشلي) فيها عشر لغات، وثماني أديان، بما فيها المسيحية المنقرضة (النسطورية)، وعشرين لهجة (كوسموبوليتيان) بين سريان وأرمن وآشوريين، وطخلركه وكرمنج وشيعة، وماردينيين وداغستان، وشمريين وعلوية، وشراكسة وشوام، وكلدان ودروز، وكاثوليك وبروتستانت، ومحلمية وعبدة الشيطان من اليزيديين. وطبعا هم لايسمون أنفسهم أنهم عبدة الشيطان بل لهم فلسفة لاتخلو من معقولية عن تفسير الشر في العالم أن الشيطان يحكم العالم لفترة عشرة آلاف سنة واسمه طاووس ولذا يتجنبونه خوف بطشه وشره فلا يتعوذون بالله من الشيطان الرجيم ويتجنبون أي كلمة فيها شين وطاء مثل مشط وطشت وشاط وطاش مطاش وشطيح ولطش. ويمكن عقل إي انسان وحبسه إذا رسمت حوله دائرة فلا يخرج مالم يأتي أخر فيمسح طرف الدائرة فيخرج!
وهكذا فالقامشلي المدينة العجيبة التي ولدت فيها سريالية كل شارع بلغة ومدرسة وكنيسة، وكل دكان بطربوش وطاقية وعمة وعقال وشرشوبة وشروال؟؟ كأننا في هوليوود في فيلم تاجر البندقية!!
والدي اعتمر الطربوش العصملي الأحمر، وخالي يونس من عشيرة طيء بعقال، وخال آخر كانت من نصيب جدي فتزوجها (الذي تزوج مثنى وثلاث ورباع منها تركية من مدينة سامسون من البحر الأسود عائشة ومنها جاءت والدتي جاهدة وهكذا فأنا مزيج من شعوب البحر المتوسط وقزوين والأسود وبحر أيجا والمتوسط وجبال طوروس كما أظهرت ذلك أيضا لطخة الـ DNA عندي) وهي أرمنية كنت أراها وقد حسن إسلامها وتصلي الصلوات الخمس ولا تذكر من نكبة أهلها في تركيا شيئا سوى أنني كنت ألاحظ في عينيها العبرات تترقرق في المآق حين تذكر أمها. كانت تقول فصلوها عن أمها وترجت القوم أن يحافظوا على أخيها معها وكان لها ذلك. الأخ أصبح من موالي بيت البيطار في دمشق. اجتمعت به وعائلته الشامية الجديدة. وكان رجل ميكانيكي سيارات وهي صنعة لبوس للأرمن حيث حلوا وارتحلوا. ومن أم عدنان الشامية ولد له وصال وحنان وامتثال وزياد ومن امتثال جاء غلام اعتنق التدين الشامي ثم أصبح من الحزب القومي السوري الذي يؤمن بسوريا الكبرى أنِشأه نصراني اسمه انطوان سعادة اتهم بقتل رئيس الوزراء اللبناني الصلح فانتهت حياته على المشنقة. واجتمعت بابن امتثال في مؤتمر في بروكسل وكان مع رجل أسمه شقرا رئيس الحزب القومي السوري الاجتماعي وأنا أتأمله متعجبا من تصاريف الزمن من أرمني إلى صوفي إلى قومي واعجبا واعجبا.
وكما أشرت فخالي طلعت كانت أمه من أصول مسيحية أرمنية من أيام (القفلات = القوافل من طوابير النقل الجماعي الذي قامت به الدولة العثمانية بعد التمرد المسلح في شرق تركيا) وهو لا يعلم، أو يعلم ولا يصرح، وهي تلك الزيجات التي تمت أثناء الترحيل القسري للأرمن من تركيا في عشرينيات القرن الفائت، ففاز البعض بالفتيات الجميلات، وهن نجون من التشرد والدعارة، فأسلمن وحسن أسلامهن، وقصص التاريخ مرة حزينة..
لذا لا غرابة عندي إن ناقشت أرثوذكسيا عن سبب انشقاق الكنيسة عند صدع البلقان على طبيعة الآب والأبن والروح القدس، ومن أين اشتق روح القدس هل من الآب أم الابن أم من كليهما معا؟ أو كاثوليكيا لماذا يرسمون صدورهم بالصليب وهي أداة قتل المسيح؟ وهل يقدس أهل القتيل المسدس الذي قتل به ولدهم؟
كنا نحتفل معهم في أعياد الميلاد، كما نحتفل برمضان والضحية، وجوزيف بدكانه المختص ببيع العرق والويسكي؟ الملاصق لدكان والدي يبيع كل أنواع الخمر المعتقة؟
أصدقائي رافع أبو الحسن الدرزي، وهابو وأخوه جيجي الأرمني، وجودت وابن أخيه سمير العلوي، وجورج ابن الصائغ الكاثوليكي، ودنحو السرياني (الوزير الحزبي الذي اجتمعت به أثناء الإمساك بي في درعا يوما)، ومروان شريف المردلي (الشارد من البعث إلى الطليان لاحقا) من نفس ملتي، قبل أن يرسخ حزب البعث الطائفية إلى درجة القرف والتقزز وحواف الحرب الأهلية..
هكذا كان حالي حتى جئت بلاد السلفية والوهابية فرأيت العجب؛ وأفهم هذا لأنهم مثل طيور البطريق إذا اجتمعوا في الانتراكتيس (القطب الجنوبي)، فلا يفرقون عن بعضهم في عقال وغطرة ودشداشة، ولأنهم محرومون من الرؤية الفراغية، والتباينات المذهبية، فلا يتصورون إلا لونا واحدا من الطعام واللباس؛ الكبسة والعباءة والغطرة...
وأذكر في يوم من أيام عيد الميلاد، كيف تربص (الشباب الطيبة) بمجموعة من الممرضين والممرضات الفيليبينيين، فكبسوا البيت عليهم عسى أن يضبطوهم متلبسين بالجريمة النكراء وهم يحتفلون بعيدهم الذي احتفل به أجدادهم من قبل، ويحتفل به أهلوهم في كل مكان...
إن الشباب الطيبة من المتعصبين المتشددين، يرتكبون ثلاث جرائم دون أن يشعروا برائحة جريمة؛ التجسس على القوم، ودخول البيوت من غير أبوابها، واقتحام الخصوصيات من غير استئذان، وأخيرا نار التعصب لظى نزاعة للشوى..
والله حرم التجسس، وحرم الاقتحام، وأمر بالاستئذان والرحمة والمرحمة...
ولكن بيننا وبين هذه المفاهيم الإنسانية مسافة قطر المجرة مائة ألف سنة ضوئية!!
وفي النقاش الذي دار فيما سبق بين جيمس سواكرت وديدات قال له؛ سمحنا لك بالتبشير بالإسلام هنا في بوسطن وفيلادلفيا ونيوجرسي؛ فهل يمكن أن تعاملونا بالمثل فنعرض أفكارنا بين أظهركم كما فعلتم بنا؟
كان جواب ديدات ـ رحمه الله ـ نعم حين تأذن تأشيرة دخول لبلدنا، وهي أن تعلن إسلامك؟؟
والأمر يصلح للنكتة وليس للنقاش؟؟
الله يقول ولا تخاطبوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، ونحن حريصون على أن نخاطبهم بالتي هي أسوأ..
وفي يوم عيد الميلاد المجيد بدل أن نهنئهم ونبذل لهم المعروف؛ فإننا جدا حريصون على اعتباره بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؟
أما رفع الرايات والصور في عبادة الشخصيات فليست بدعة، والفتوى جاهزة بمعول يناسب فتحة هدم الإسلام..
وهكذا فلا يجوز مبادأتهم بالسلام، وإذا كنا في طريق يجب أن (ندفشهم) على جنب، ونجبرهم إلى أضيق الطريق، وتحويل حياتهم بيننا إلى جحيم وعداوة، تحت أحاديث مشبوهة عرجاء برصاء شوهاء عوراء.. ..
لا عجب أن علَّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث مكذوب، ليقول له في النهاية إذا مرت عليك فانتبه لها فكلها أحاديث مكذوبة..