ترنح الدولار ... هل هو مؤشر لبداية سقوط أمريكا العالمي ؟!!

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

بين عامي 1949 - 1995 م تعرض الدولار الأمريكي إلى مرض عضال لم يتعافى منه حتى اللحظة ، فخسر مقابل المارك الألماني أكثر من ثلثي قوته ( 1 ) فهو يكافح للبقاء بأقل من ثلث طاقته الأصلية ، ولم ينتشله من وضعه البئيس حتى الآن ، كل حفلات تدخل البنوك العالمية ، ولاحقن الكورتيزون المالية ، أو جرعات العلاج الكيمياوي الاقتصادية ، فهو يذوي ويضمر مع كل يوم مثل مريض السرطان المدنف ، أو مثل البيت المنهار الذي نسمع قرقعة جدرانه المتساقطة ، وتَقَصْفَ سَقْفِه المتداعي ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لايشعرون )( 2 ) وهذا يطرح العديد من الأسئلة فهل هذا مجرد تراجع لعملةٍ في السوق ؟ أم مظاهرة عميقة لافلاسٍ اقتصادي بدون قاع ؟ وانكماش مالي خطير يضع الولايات المتحدة في حالة صدمة مالية غير قابلة للتراجع ؟ كما هو معروف في الوفيات الجراحية ( IRREVERSIBLE SHOCK ) وعلى الشكل الذي شرحها الاقتصاديان الأمريكيان ( هاري فيجي ) و ( جيرالد سوانسون ) في كتابهما ( الأفلاس 1995 الانهيار القادم لأمريكا ) بمخطط عصا الهوكي في العجز المالي الأمريكي ، والذي تنبأ بكارثةٍ للدولار الأمريكي في فبراير - شباط من عام 1995 م ( 3 ) . هل نحن شهود تراجع أعظم امبراطورية عرفها الجنس البشري حتى الآن ؟ لتصبح دولة من الدرجة الثانية كما يتنبأ لها بذلك المؤرخ الأمريكي ( باول كينيدي ) تحت دراسته الموسعة لصعود وأفول نجم القوى العظمى خلال القرون الخمسة الفارطة ، فينطبق على أمريكا ماانطبق على الامبراطورية الاسبانية في القرن السادس عشر والانكليزية في القرن العشرين ( 4 ) ، لتودع أمريكا صدارة العالم مع القرن الواحد والعشرين ، مخلِّيةً المكان لليابان التي تستعد لاستلام قيادة مجال الباسفيك _ على الأقل _ كخليفة جديد مرشح بعد انهيار الولايات المتحدة الأمريكية على النحو الذي طرحه ( شينتارو ايشيهارا ) عضو الدايت ( البرلمان ) الياباني في كتابه ( اليابان تقول لأمريكا لا ) ( 5 ) . هل ستسقط الولايات المتحدة كما سقط الاتحاد السوفيتي صريعاً لليدين والجنب بدون أي هجوم خارجي وهو يملك أسلحة تدمير الكون عدة مرات ؟ وهل كان صراع الديناصورات العظمى واستنزاف معظم الامكانيات في التسلح ومتعلقاته والنزف المالي الرهيب الذي يضخ رحلة التسلح بدون توقف هو الذي قاد الى هذا السقوط المريع ؟ هل كان مؤشر موت الديناصور الأول دلالةً بعيدة المغزى للسقوط الوشيك للديناصور الثاني وبنفس آلية النزف السابقة التي أودت بحياة مملكة لينين وأتباعه ؟ ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( 6 ) وهل سيكون القرن الواحد والعشرون قرن اليابان وألمانيا وعصر الين والمارك ؟؟ أم أن هناك قوى جديدة غير متوقعة ستبرز للساحة ؟ وأين مصير العالم الاسلامي كله في هذه البانوراما الكونية ؟
*********************
من الغريب أن نكبة الدولار الحالية قد تنبأ بها اثنان من المحللين الاقتصاديين الأمريكيين ، اللذين أعلنا صيحة الخطر بشكل مفزع عن الوضع الاقتصادي الأمريكي ، في كتابٍ صدر لهما قبل سنتين ، بأن أمريكا مقبلة على أفلاس مالي كامل ، وأن الدولار لن يبقى له أية قيمة مع حلول عام 1997 م !! (( لن يبقى للولايات المتحدة التي نعرفها اليوم أي وجود بحلول عام 1995 م ففي هذا العام ستنزلق البلاد نحو الافلاس وحينها سيزول عصر القوة الامريكية بزوال طريقة الحياة الأمريكية ولن تخرج البلاد من أزمتها اطلاقا مالم يبدأ العمل فوراً لانقاذها من الكارثة الوشيكة ))( 7 ) !! ويتوقع هذا المحلل الاقتصادي أن البلاد ( ستعيش تحت وطأة كابوس اقتصادي يفوق الكساد العظيم بمراحل ، ويحول أمريكا إلى دولةٍ سادت ثم بادت )) ( 8 ) . قد يكون هذا الكلام الذي تقدم به صاحبه فيه قدرٌ من المبالغة ولايخلو من تأثير الحملات الانتخابية الأمريكية ، حيث أنه كتب مع نهاية خلافة بوش ، إلا أن الاحصائيات التي يتقدم بها والتي عمل عليها قرابة عقد من السنوات يجعلنا نتأمل هذا التحليل في ضوء مرض الدولار الذي لاينتهي (( وفيما يتعلق بالاحصائيات والرسومات المرفقة في هذا الكتاب ، فإنني وعلى الرغم من انهماكي في اعدادها ودراستها لمدة ثماني سنوات كاملة ، لازلت أشعر بالصدمة والذهول لدى رؤيتي لها ولازلت أشعر بالأسى والحنق عند مقارنتي للديون الأمريكية التي تراكمت خلال مائتي عام وتلك التي تراكمت بشكل مخيف خلال عشر سنوات فقط ، وكلما رأيت الرسمين البيانيين المتعلقين بذلك ، أدركت أن جيلنا فقد كل قيم الشجاعة والإيمان والتضحية والجد التي تحلت بها كل الأجيال السابقة والتي بذلت كل جهد ممكن لإيجاد دولة قوية وثرية وحرة ، وبعد استلامنا لهذه الدولة بدأت تفقد الكثير من مزاياها فياللعار !! ) ( 9 ) . وهذان المؤلفان يبنيان هذا الحكم القاسي على خريطة تطور الديون الأمريكية التي ستصل في فترة قريبة إلى رقم فلكي ، بحيث ستعجز كل إمكانيات أمريكا حتى عن سداد فوائد الديون التي ستصل إلى قرابة ( 1520 ) مليار دولار في العام ، أما الديون الفيدرالية فهي حاليا ( 56.6 تريليون دولار ) وسوف تقفز مع عام 2000 ميلادي إلى ( 13 ) تريليون دولار ( التريليون = مليون مليون ) وهذا يعني _ حسب وجهة نظر الاقتصاديين _ صدمة اقتصادية لانهوض منها .
***********************
والآن لنتأمل هذه الظاهرة خارج سطوع المارك وكسوف الدولار وبريق الذهب وجنون البورصات ، بوضع سؤال محوري ( عقلاني ) بعيدا عن توترات الأسواق المالية وانفعالاتها اللاعقلانية ، هل وضع الولايات المتحدة حقا كما يقول الاقتصاديون ؟ ثم ماذا يعني الاقتصاد بالنسبة للوضع الثقافي للأمة ؟ وهل يمكن قياس الوضع الحضاري من خلال المشعر الاقتصادي ؟ بل ماهو المال في الأصل وكيف نفهمه ؟ وكيف يؤثر على الوضع الحضاري سلباً وإيجاباً ؟
********************
في الواقع ومن خلال تحليل جهات شتى ، نرى أنها كلها تصب في نفس هذا المعنى يزيد أو ينقص ، من شهادات المؤرخين أو السياسيين فضلاً عن الاقتصاديين ، وبين أيدينا في هذا المقالة تحليل مؤرخ أمريكي ( باول كينيدي ) ومفكر فرنسي ( جاك أتالييه ) وسياسي ياباني ( شينتارو ايشيهارا ) ، من ثلاث قارات متباعدة ، وثلاث ميادين متباينة ، في محاولة تبين الأسباب العميقة لهذا الانهيار الوشيك ، أو ليل الظلام الذي بدأ يلف ، والانحسار الذي بدأ يضرب بكل قوة في مفاصل المجتمع الأمريكي . خلافاً للطرح الذي تقدم به فيما سبق ( فرانسيس فوكوياما ) الأمريكي ذو الأصل الياباني الذي رأى النموذج الأمريكي أنه نهاية التاريخ والنموذج الأخير للإنسان أو الذي صرح به لمندوب وكالة اورينت برس ( نحن الأقوى والأعظم ) ( 10 )
*********************
لنبدأ بشهادة الأمريكي المؤرخ ( باول كينيدي ) في مؤلفه الهام صعود وسقوط القوى العظمى ، فالمؤلف يرى بلده في متحارجةٍ لايحسد عليها ، بين ( المدفع والزبدة والاستثمار )(11) وهو يعني بكلماته هذه الخيار الصعب بين الدفاع والاستهلاك والاستثمار ) : (( ليست هناك إجابات سهلة في التعامل مع التوتر الثلاثي بين الدفاع والاستهلاك والاستثمار القومي )) ( 12 ) ثم يخلص بنتيجةٍ مفادها أن الولايات المتحدة قد أصيبت بالترهل الامبراطوري ، وأن نسق التاريخ سينطبق على بلده كما انطبق على روما وبابل (( وهكذا فإن الإجابة على السؤال المطروح عن إمكانية احتفاظ الولايات المتحدة بوضعها الحالي هي : لا )) (( فإذا كان هذا هو حقا نسق التاريخ فإن المرء يمكن أن يقول ماقاله برناردشو : روما سقطت وبابل سقطت وسيأتي الدور على غيرهما )( 13 ) وفيما يتعلق بالديون فإنه يورد نفس احصائيات فيجي وسوانسون السابقة (( إن استمرار هذه الاتجاهات سيدفع بالدين القومي الأمريكي إلى حوالي 13 ألف مليار دولار عام 2000 ( 14 ضعفا عما كان سابقا عن عام 1980 ) وبفوائد هذا الدين إلى 1500 مليار دولار ( 29 مثلا عن عام 1980 ) ويخلص في النهاية إلى أن الولايات المتحدة ستنكمش إلى حجمها الطبيعي فتمتلك 16% من الثروة والقوة العالمية ، في حين أنها تمتلك اليوم قرابة 40% .
*********************
أما المفكر الفرنسي ( جاك أتالي ) فإنه يقرر بشكل قطعي بعنوان مستقل : هبوط الولايات المتحدة الأمريكية بأنها (( متحدة الاتجاه ولايمكن نكرانها )) ( 14 ) وبأن ( الولايات المتحدة لم تعد تصدر عمليا من أراضيها لاسيارات ولا أجهزة تلفزيون ولاسلعاً تجهيزية بالرغم مــــــن جهودها المتكررة لاعطاء الاقتصاد الامريكي قدرة تنافسية مصطنعة عن طريق التخفيضات المتكررة للدولار )( 15 ) وعندما يأتي أتالي لتفسير هذا الهبوط فإنه يمسك بالمفتاح (( هذه التطورات كلها تكمن جذورها في تحولات ثقافية عميقة فالصورة التي يكونها الشعب الامريكي عن نفسه تتمركز حول ابراز حنيني لمجده الذاتي ، إن الاهتمام المفرط بالحاضر السريع والانصراف عن المستقبل الواسع لدى أمة أخذت تنطوي على ذاتها بالرغم من ماضيها المتميز بالنزعة العالمية يفسر هذه الظاهرة أحسن من أي شرح اقتصادي )) ( 16 ) ويرد على من يزعم بأن العجز الأمريكي ناتج عن سياسة الحماية اليابانية وتخلف شبكات التوزيع فيقول : (( إن سياسة الحماية اليابانية تزيد بالتأكيد من العجز الأمريكي ولكنها لاتستطيع أن تخلقه فليس من حماية جمركية قادرة على الثبات طويلا أمام منافسة المنتجات )) ( 17 ) وبنفس الوقت فإن أتالي يفسر صعود اليابان مرة أخرى بخلفية ثقافية : (( إن أسباب هذا الصعود الياباني المدهش هي في جوهرها ثقافية أيضا )) ثم يلخص بعض هذه الشروط (( وهكذا تتجمع لليابان جميع الشروط للقيام بدور القلب : رؤية بعيدة المدى لمصالحها ، وطاقة على العمل ، وإرادة تدعم مستوى الأداء ، وسيطرة على تقنيات الاتصال الحديثة ، وأهلية لاختراع وإنتاج السلع الجديدة ذات الاستهلاك الجماهيري ، وإرادة التعلم ، وديناميكية موجهة للخارج ، وبدون أن تعلــن عـــن ذلـــــــك أو تجعل غيرها يعلنه تتحول اليابان إلى مركز القطب المسيطر في مجال المحيط الهادي )) ( 18 ) ومصطلح القلب الذي يستعمله يفسره في مكان آخر ، عندما كان يتحول القلب النابض التجاري العالمي من مكان لآخر ، بدءاً من القرن 13 حتى القرن العشرين حيث مر في ثماني مراكز ضخمة بدءاً من نابولي وجنوة في ايطاليا ومرورا بانفرس وامستردام في هولندا ثم لندن وانتهاءا بنييورك وهو الآن يزحف ليتشكل في طوكيو .
**********************
وأما السياسي الياباني ( شنتارو ايشيهارا ) فإنه يصرح بأمور في غاية الأهمية في كتابه ( اليابان تقول لأمريكا .. لا ) فهو يكشف النقاب عن انتهاء الحرب الباردة بسبب ياباني !! فهو يقول : (( فمنطلق الدولتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في منع استخدام الاسلحة النووية لم يكن لادراكهما المشترك بخطورة هذه الاسلحة على الانسانية ، قد يتصور البعض أن نجاح مباحثات الحد من الاسلحة يعود الى الدوافع النبيلة لكلتا الدولتين ، ولكنني وجدت اسباب نجاح المباحثات تقبع في مكان آخر ، فالاسلحة المتوسطة المدى تعتمد على دقة التصويب في الصواريخ البلاستية عابرة القارات على نوعية الحاسبات المستخدمة ، فالصواريخ عابرة القارات تحمل عدة رؤوس مستقلة ( ميرف ) تستطيع شن ثماني أو تسع هجمات بقنابل هيدروجينية كل منها قادر على اصابة هدف مختلف ولدى كل من الدولتين العظميين قائمة بالأهداف التي تسعى لمهاجمتها فهدف الضربة الأولى لموسكو اصابة قاعدة الصواريخ في قاعدة ( فاندنبرج ) الجوية في كاليفورنيا ، التي توجد تحت الأرض تحدها حوائط سميكة من الخرسانة المسلحة يبلغ سمكها خمسين أوستين مترا ، وتستطيع مستودعات الصواريخ هذه مقاومة الهزات الأرضية القوية ومصدر الخطورة يكمن في انفجار قنبلة هيدروجينية بشكل مباشر فيها )) وهذه تعتمد على التوجيه الدقيق وخطأ السوفيات هو في حدود 60 مترا في حين أن الأمريكيين يصل الى 15 مترا ، وهنا يكشف ايشيهارا السر فيقول إن دقة التصويب تعتمد الكمبيوترات المتقدمة التي تستخدم الرقائق الحاسبة التي هي انتاج ياباني ، وهكذا تتدخل اليابان في تفوق أي فريق نووي بقدر ماتقدم له من الشراح الكمبيوترية ؟! ( 19 ) ليصل في حديثه عن التفوق التكنولوجي الذي تتمتع به على الولايات المتحدة منها ( القطارات المغناطيسية الطائرة ) تلك التي تسير بسرعة 500 كم في الساعة على وسادة مغناطيسية ، فهذه برع فيها الألمان وايابانيون ، فأما الألمان فاستطاعوا أن يُطِّيروا القطار عن القضبان 8 ملم ، في حين أن اليابانيين جعلوه يقفز فوق القضبان عشرة سنتمترات !! ولم يلحق أحد من العالم بهم حتى الآن . كما يملك اليابانيون أكبر عدد ممن الروبوت ( الانسان الصناعي ) ، وعندما يتحدث عن أخلاقيات العمل عند الأمريكيين يشير إلى حمى البورصات وجنون قفزات أسعار العقارات والسهم ( والذي جاءتنا عدواه بدلاً من روح العمل والانتاج اليابانية ) والبحث عن الربح السريع وعقلية النظر إلى الأمام عشرة دقائق وليس عشر سنوات (( ينصب اهتمامهم على العائد السريع والمرتفع لرؤوس أموالهم )) ثم يقول (( لايساعد اللعب في أسواق المال على تقدم الصناعة أو تقديم الخدمات في المدى الطويل )) ( 20 ) ويعرض حلقات من الضعف تبلغ ستة في الأداء الصناعي الأمريكي منها الضعف التقني ومحدودية الأفق والاستراتيجيات المتخلفة وانهيار التعاون ... الخ وعندما يصل الى مشكلة ديون أمريكا يكرر أن اجمالي ديون امريكا لليابان تبلغ 3.1تريليون دولار واستثمارات اليابان في أمريكا بـــ ( 700 ) سبعمائة مليار دولار ، فاليابان تشتري أمريكا اليوم وترتهنها ، بل وتضربها بقنبلة نووية ولكن من نوع اقتصادي !!
**********************
إن قصة انهيار الدولار فيها مجموعة من العظات والعبر نختصرها على الشكل التالي : أولاً : إن التراجع الحالي للدولار ليس مؤقتاً كما يخيل لسمك القرش المالي ومضاربي البورصات المعتوهين ، فهو قدر قد طوق أمريكا لافكاك منه ، فإذا هبط الدولار أمام المارك فأصبح بعد خمس سنوات نصف مارك وأمام الين أقل من خمسين ين فهو أمر طبيعي ، لإن قوة العملة هي من صحة الاقتصاد ، فالعملة هي مثل نضارة الوجه أو اصفراره ، وهي مؤشر قوة الأمة ، فالاقتصاد المتين يخلق عملة قوية والعكس بالعكس .
ثانياً : إن مصيبة التسلح والانفاق العسكري عليه وأحلام حرب النجوم التي حلم بها ريغان وأحلام الصراع مع الاتحاد السوفيتي وجعله ينزف اقتصاديا حتى اليوم في رحلة تسابق التسلح المحمومة لنا فيها أكثر من عظة بأن القرن الواحد والعشرين هو عصر من نوع جديد ليس للتسلح فيه مكان ، وعندما يسقط الاتحاد السوفيتي نزفا فسوف يلحقه من دخل معه الصراع ولو بعد حين ( وعلينا أخذ العبرة من الاتحاد السوفيتي الذي كان القوة الأولى في العالم ، والذي أصبح دولاً مشتتة ، وقد يحل بنا ماحل بالاتحاد السوفيتي إذا بقينا ساكنين ) ( الافلاس ص 81 )
ثالثاً : ومن الغريب في موضوع التسلح هذا أن العالم الإسلامي مازال يتلمظ إليه ، مع أن أصحابه ودَّعوه ونفضوا أيديهم منه بعد أن مشوا الشوط إلى نهايته ، والانهيار الاقتصادي الامريكي هو مكرر لانهيار امبراطوريات سابقة مثل امبراطورية النمسا وهنغاريا أو القيصرية أو روما وبابل وآشور قديما .
رابعاً : إننا في الواقع ونحن نودع القرن العشرين ونستقبل القرن الواحد والعشرين ، فإن قوى جديدة سوف تبرز إلى الساحة العالمية ، وسوف تتراجع الولايات المتحدة كما تراجعت قوى عظمى سابقتها سنة الله التي خلت في عباده ، كما تراجعت الامبراطورية الاسبانية في القرن السادس عشر ، وانكمشت الهولندية في السابع عشر ، وذوت البريطانية في القرن العشرين ، كذلك سـتنـحسر أمــــريكـــا مع القـــــرن الواحد والعشرين لتبرز اليابان والشرق الأقصى بشكل خاص .
خامساً : إن الاقتصاد هو عمل وعرق وتعب وإنتاج أولاً وأخيراً وإن الله لايضيع أجر من أحسن عملا ، في حين أن عمل البورصات والمقامرين ، وسمك القرش الاجتماعي المتلمظ للربح السريع بدون تعب ، كله قد يوصل إلى بعض الربح المؤقت ، ولكنه في النهاية يصير إلى ماقال الله عنه ( وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) وهو في حقيقته سراب خادع كما حصل مع ارتفاع الدولار الكاذب في فترة حكم ريغان ، وأدرك العلماء ذلك وركض معه مجانين البورصات ليروا في النهاية ( يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وهذا هو جوهر المرض الأمريكي ، وهو بنفس الوقت سر فعالية وتفوق الياباني ، فالأول يريد أن يربح بدون أن يعمل والثاني يعمل ليربح ، وهو مايقوله اليابانيون للأمريكيين دوماً .
سادساً : إن قرابة ألف مليار دولار تعوم وتسبح في كل الاتجاهات كل 24 ساعة بيعاً وشراءً ، ومشكلتها أن هناك من أبطال البورصات والحيتان المالية من ينهش في الاقتصاد العالمي فيورثه العطب ، ونحن الذين نعمل ندفع من دمنا وتعب عمرنا لهؤلاء الأشقياء ، وإلا كيف نفسر أن في مدى أشهر قليلة تتبخر مدخرات الربع أو الثلث ممن ادخر وتعب وعرق ، في هذه العواصف المرعبة في الأسواق المالية ، وكله مبني كما نرى على خُلُق النهب المنظم لتعب الآخرين ، كما أن الذين يخوضون هذا الميدان طمعا في الربح لايعــرفون هــــــــــــذه الأقنية المظلمة وكهوفها المظلمة ، فتتحول اللعبة إلى قمار صريح ، ومن هنا نفهم معنى تحريم الاسلام للقمار وتزكيته للعمل والانتاج . كما نفهم المعنى المرعب لتحول القيم العليا في الحياة إلى ربح وتكديس للمال فقط ( الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده ) وهكذا ظنت أمريكا بالخلود ، والذي يحدث
كما يقول المؤرخ البريطاني تونبي أن الامبراطوريات العظمى تسقط ، في الحين الذي يظن ابناؤها أن مقود التاريخ استسلم لهم ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ).
سابعاً : وأمام هذه الفوضى المالية العالمية وجب علينا أن نقف للتأمل وأخذ العظة لبناء حياتنا الاقتصادية بشكل ( عقلاني ) و( مستقل ) و ( مستقر ) فإذا أردنا لمجتمعاتنا أن تتحرك بأرادة مستقلة فلابد من استقلال اقتصادي ، ومن أبرز دروس الدولار الأمريكي هو عدم الوقوع في مصيدة الدين الرهيبة ، ليتحول الانتاج بعد ذلك لتغطية فوائد الدين بدون توقف ، فإذا كانت اعظم دولة في الأرض تترنح لتسقط من عبء الديون فكيف الحال بدول الأطراف الفقيرة ثامناً : ويجب أن نفهم أيضاً أن مايحصل من مرض حالي هو مرض الرأسمالية عموماً ، ففي تحليل الاقتصادي الأمريكي ( رافي باترا ) الهندي الأصل ، في كتابه ( الكساد العظيم ) وصل الى اكتشاف مرض دوري يصيب النظالم الاقتصادي الرأسمالي كل حوالي ( 60 ) ستين عاماً ، بحيث تهب عاصفة مالية تحول الأسواق المالية إلى حصاد الهشيم فيما بعد ، وتنبأ لأمريكا بذلك والعالم في التسعينات من هذا القرن ، على أساس أنها ستون عاماً بعد الكساد الرهيب الذي حدث عام 1930 ميلادي قبل الحرب العالمية الثانية ، وهذا المرض الرأسمالي سيصيب في المستقبل أيضاً نفس الاقتصاد الياباني والألماني المزدهران ، بسبب بناء كلا الاثنين على نفس الأسس الرأسمالية ، ولذا فمن الطبيعي أن يصيبهم في المستقبل مايصيب الأمريكيين اليوم ، وهنا ندرك المعنى العميق لفلسفة الربا ، ودورة المال الربوية ، التي هي العمود الفقري للنظام الرأسمالي ، وأثره في إحداث هذه الأزمات الدورية التي يدفع الناس من جهدهم وأعصابهم الشيء الكثير ، وكما يعرف أهل الاقتصاد الحقائق الضخمة في عالم المال والاقتصاد ، وإحداثياته في كل اتجاه ، فكما يعرفون أن أعمدة الاقتصاد العالمية هي الين والايكو الأوربي والدولار ، وكما يدركون الوعاء الاقتصادي بالنقد والسلع والخدمات ، كذلك فإنهم يعرفون أن أثر الفائدة على الانتعاش الاقتصادي ، مثل تأثير الهورمونات وضخ القلب لكتلة الدم في شرايين الجسم ، نرى هذا واضحاً من إصرار الولايات المتحدة على عدم رفع الفوائد ، ولاينسون أبداً ( طير ريغان ) الذي ارتفع برفع الفوائد المخيف ، ليسقط بعده كما نرى اليوم فتدق عنقه ؟! .
*******************
تاسعاً : وما ذكرناه عن أمريكا لايعني أنها ستتحول بين يوم وليلة إلى دولة تشبه غانا أو الصومال ، والذي سيحدث هو أقرب إلى تصـــــــــور المؤرخ كينيدي ، من انها ستنكمش وتتحول إلى مايوازي حقيقتها بدون زيادة أو نقصان ، أي ربما إلى ربع أو ثلث وضعها الحالي ، وفي مدى العشرين سنة القادمة ، وستبقى دولة مهمة ذات نفوذ في العالم ، ولكنها لن تبقى الأولى والعظمى والأقوى .
عاشراً : إن الانهيار المالي لن ينتهي بنزهة جميلة في العادة ، فهناك حوت ( التضخم المالي ) حين تفقد الأوراق المالية القوة الشرائية ، وينقل لنا التاريخ قصصاً مرعبة في هذا الاتجاه ، ففي عهد الأباطرة الرومان الثلاثة ( كاليجولا وكلاوديوس ونيرون ) (( نضبت الأموال في الخزينة بسبب قيام هؤلاء الحكام بصرفها على إقامة الأعياد والاحتفالات وبناء البيوت الفخمة وتشييد المعابد ، وعلى رشوة الجيش والحرس الخاص من أجل ضمان ولائهم ، ولما جفت الأموال قاموا بفرض الضرائب المرتفعة وبالاستيلاء على أموال الميسورين ، كما أنهم قاموا بضرب العملة من جديد ......... وكنتيجة لهذه الممارسات الخاطئة مرت البلاد بأزمة حادة من التضخم ، ففي القرن الثالث قبل الميلاد وفي فترة لاتتجاوز الثلاثين عاماً ارتفع سعر القمح بمقدار ( 100000 % مائة ألف بالمائة ) أي أنه لو افترضنا أن ثمن رغيف الخبز كان حينها لايتجاوز 2 دولار فقد أصبح من خلال التضخم ألفي دولار وقبيل انهيار روما كان الاقتصاد الروماني قد دُمر تماماً ) ( الافلاس 1995 ص 132 ) وكما انهارت روما فإن نفس الشيء سرى على الامبراطورية الاسبانية التي ( اضطرت للاقتراض لتغطية تكاليف الحرب والخدمات المدنية ومحـــــاربة الفساد ، وبحلول القرن السادس عشر لم تعد الواردات تغطي سوى نصف النفقات الحكومية ، ومرة أخرى تكرر المشهد ذاته حيث فقدت العملة قيمتها وبدأ التضخم بالازدياد ، ودمرت الضرائب المرتفعة اقتصاد الدولة ومواردها الزراعية ، وأدى فقر البلاد إلى فقدان نفوذها إذ انكمشت رقعة الامبراطورية إلى حدودها الأصلية ) ( الافلاس 1995 ص 132 ) ، كذلك الحال بعد الحرب العالمية الأولى لكل من النمسا وألمانيا حيث وصل سعر رغيف الخبز في ألمانيا ( المزدهرة اليوم ) في نهاية عام 1923 م إلى 428 مليار مارك ؟؟!!
*********************
عندما كان الشاعر القديم أبو البقاء الرندي يرثي سقوط الاندلس لم يكن يعلم أن مرثيته ستنطبق على أمم شتى ، وستقرأ في جنازات دول عظمى بين الحين والآخر :
لكل شيءٍ إذا ماتمَّ نقـــــــــــــصانُ فلا يُغرَّ بطيبِ العيشِ انسانُ
هـــــــي الأمـورُ كما شاهدْتَها دولاً من سرَّه زمنٌ ساءته أزمـــــانُ
وهذه الــــدارُ لاتُبقي على أحــــــدٍ ولايدومُ على حالٍ لها شــــــانُ
أين الملوكُ ذوو التيجانِ من يمنٍ وأيــن منهم أكاليلٌ وتيجـــــانُ
وأين ماشـــــــــــــاده شدَّاد في إرمٍ وأين عادٌ وعدنانٌ وقحطــــــانُ أتـــى على الكلِ أمرٌ لامـــــــردَّ لــه حتى قَضوا فكأنَّ القومَ ماكانوا
هوامش ومراجع :
( 1 ) في عدد مجلة الشبيجل الألمانية ( 11 ) الصادر في 13 \ 3 \ \ 1995 م ص 101 ( كان سعر صرف الدولار الأمريكي يعادل في 19 \ 9 \ 1949 م ( 2.4 ) مارك ألماني ليصبح في 8 \ 3 \ 1995 بأقل من ( 37.1 ) من المارك الألماني ( 2 ) سورة النحل الآية 26 ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الافلاس الأمريكي لعام 1995 - تأليف هاري فيجي وجيرالد سوانسون - ترجمة محمد دبور - الأهلية للنشر والتوزيع - ص 74 حيث عرض المؤلف الديون الأمريكية منذ عام 1780 م حتى نهاية القرن على فرض استمرارها فأعطى المخطط البياني صورة ( مضرب لعبة الهوكي مقلوبة ) حيث ارتفعت الديون بشكل حاد مفاجيء ، فقبل حكم جونسون لم يتجاوز العجز 44مليار دولار ليصل في عهد ريغان الى 3.1 تريليون دولار وهي حاليا مايزيد عن 6 ستة تريليون والتوقعات أنها ستصل مع نهاية القرن عام 2000 ميلادي الى 13 ثلاث عشرة تريليون دولار؟!! ( 4 ) يراجع في هذا كتاب صعود وسقوط القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 ميلادي ص 705 : وفي هذا الصدد هناك بعض الصدق في تشبيه وضع الولايات المتحدة اليوم بوضع القوى المهيمنة السابقة التي اعتراها التدهور ( 5 ) ترجمة هالة العوري الناشر يافا ص 34 : (( ان العالم على أبواب مرحلة زمنية تتسم بالتحول .. فالواقع ان قوة العالم اليوم التقنية والصناعية والاقتصادية آخذة في التحول التدريجي من الغرب إلى الشرق ولست أدري إن كان هذا يعني بزوغ الحقبة الباسيفيكية .. ولهذا ينبغي على الساسة الامريكيين توضيح الامرلشعبهم بان الزمن آخذ في التغيير )) ( 6 ) آل عمران الآية رقم 140 ( 7 ) نفس المصدر السابق ص 9 ( 8 ) نفس المصدر السابق ص 19 ( 9 ) نفس المصدر السابق ص 199 ( 10 ) نهاية التاريخ - فرانسيس فوكوياما - ترجمة حسين الشيخ - دار العلوم العربية - ص 7 ( 11 ) باول كينيدي - القوى العظمى - من 1500 إلى 2000 - ترجمة عبد الوهاب علوب - مركز ابن خلدون - ص 710 ( 12 ) نفس المصدر السابق ص 706 ( 13 ) نفس المصدر السابق ص 708 ( 14 ) آفاق المستقبل - جاك أتالي - ترجمة محمد زكريا اسماعيل - دار العلم للملايين ص 84 ( 15 ) وهو خلاف ظن البعض الذين يرون في أمريكا الحذق بهذه الطريقة وهي تنقلب عليها في النهاية ( 16 ) نفس المصدر السابق ص 87 ( 17 ) نفس المصدر ص 89 ( 18 ) نفس المصدر السابق ص 91( 19 ) اليابان تقول لأمريكا لا ص 25 ( 20 ) نفس المصدر ص 89 .
رحلة سقوط الدولار المتواصلة أمام المارك الألماني بين عامي 1949 - 1995 م
1- 19\ 9 \ 1949 م الولار يعادل 2.4 مارك ألماني 5 - اتفاقية بلازا في 20 \ 9 \ 1985 م فرملة صعود الدولار الكاذب الى 89.2 2- 6 \ 3 \ 1961 يصبح الدولار 4 ماركات 6 - اتفاقية اللوفر في 22 \ 2 \ 1987 م ايقاف هبوط الدولار الى 83.1 مارك
3 - 27 \ 10 \ 1969 ترفع قيمة المارك ليصبح الدولار مساوياً 66.3 مارك 7 - 19 \ 10 \ 1987 م يوم الاثنين الأسود 77.1
4 - 19 \ 3 \ 1973 تحرير الدولار من الذهب ليصبح 82.2 مارك 8 - مستوى الدولار ,1 37 مارك في 8 \ 3 \ 1995
والحبل على الغارب ؟ !!!

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram