نحن نعرف عن الكثير من الكوارث خاصة تيتانيك التي مثلت فيلما. لكن سفينة تضم أضعاف غرق التيتانيك من الألمان الهاربين من الشرق يقترب عددهم من تسعة إنسان أغرقهم طوربيد روسي في ظروف الحرب العالمية الثانية. وأما كارثة الهاربين السوريين إلى النمسا بشاحنة مغلقة ليختنقوا فهي واحدة من العشرات، وشقيق صهري هرب إلى السويد في ملحمة رائعة اجتاز فيها حدود 14 دولة قبل أن يستقر مع الدببة في الشمال الأوربي الصقيع كله هربا من طاغية دمشق. وقصص الهاربين من الشمال الأفريقي تتكرر كل يوم بحثا عن حياة أفضل، فالبشر يتناسلون ويحتاجون صحة وتعليم ووظائف وبيوت فيها يسكنون. ولكن الشفارة (لصوص العالم العربي) هم أقرب للجراد الذي يأكل الأخضر واليابس فلم يبق مواطن ومواطنة بل لصوص وهاربون.
ومن القصص الأليمة التي وقعت تحت يدي فأحببت نقلها إلى القراء هي ما أطلقت عليه تيتانيك رقم 2 وهي مما روته الدكتورة كريستينا كاتانيو (Cristina Cattaneo) من قسم الطب الشرعي، في (جامعة مايلاند) في جزيرة صقلية، قرب مدينة ميليلي (Melilli) التي انهمكت ولمدة 12 ساعة، في تحري الجثث أمامها لتحديد أصحابها؟
هذه التوابيت والأجساد النخرة تعود لأكبر كارثة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية. حيث غرق زورق يحمل المناكيد الهاربين من أفريقيا نحو الجنة المزعومة في أوربا.
الكارثة التي حملت إلى أعماق المياه الباردة وبطن سمك القرش أخذت أرواح أكثر من 800 إنسان مسكين فقير لم يسأل عنهم أحد إلا أهلوهم، التي دفعت الحكومة الإيطالية بعد مرور عام على الكارثة في رصد ميزانية لانتشال الزورق والجثث، أو ماتبقى منها لمعرفة أصحابها.
عبد الله صديقي من (مركز أحد أولاد أزباير) في المغرب الأقصى قرب مدينة تازة في أقصى الشرق المغربي قال عن صديق له أنه أرسل آخر صورة له (فيديو مسجل) قبل أن يأخذه اليم وهو مليم، ولكن الكثرة الكاثرة من الضحايا لم يسعفهم حظهم وجيبهم، في اعتلاء متن الزورق بل زربوا زربا في بطن القارب، الذي ليس فيه مكان للحيوانات فضلا عن أناسي كثيرة.
بدأت الرحلة التعيسة من شاطيء ليبيا مع نسمات السحر حيث شحن المقرودين على ظهر قوارب مطاطية بالمئات إلى عرض البحر على بعد 8 كم تحت الحراسة المشددة من مهربين ملثمين مسلحين حتى الأنياب.
وانطلقت الرحلة اللامباركة والقوم يحلمون أنهم في ساعات سيكونون في أرض القياصرة، ولم يعلموا أن مصيرهم سيكون في بطن الحوت.
بعد 13 ساعة من الإبحار حل الظلام وليس ثمة بصيص أمل في الأفق، ولا منظر اليابسة (تيرا .. تيرا) فأطلق اثنان من المهربين صرخة انقذوا ارواحنا (SOS) فأرسلت البحرية الإيطالية خلف من هو الأقرب لهم، ولم يكن ثمة إلا شاحنة كبيرة (147م) باسم الملك يعقوب؟
بعد ساعتين ظهر زورق اللاجئين على الرادار، ولكن ثمة حركة خاطئة في انتظار التعساء. فما الذي جرى؟
قال من نجا ورأى سكرات الموت أن الزورق عجل بحركته إلى الشاحنة الكبيرة فارتطم؛ فكان لهول الصدمة صداها وهزتها عند الركاب المحمولين بالكاد؛ فأصيبوا بالهلع فهربوا من مكان الارتطام بالمئات إلى الطرف المقابل، وإذ لم يكن ثمة توازن في قارب تهريب من هذا النوع؛ فقد مال، وأصابه ما أصاب التيتانيك فمال وهوى إلى القاع في خمسة دقائق.
هنا وفي زحمة الهول كان المئات قد زربوا في القاع؛ فلم يكن ثمة نجاة، وأما من كان على السطح فرمى بنفسه فهلك 24 وسبح 28 فنجوا، أما بقية القوم فقد أصبحوا في عمق 370 مترا يحوم حولهم سمك القرش الصاخب الشاره. وهناك حيال ساحل ليبيا على بعد 135 كم كانت المقبرة الأولى فمستقر ومستودع.
أنفقت الحكومة الإيطالية 9,5 مليون يورو لانتشال الزورق، بواسطة روبوت الأعماق بيجاسو (Pegaso) بعد أن حقن بمادة النشادر حتى تبرد الجثث بدرجة 5 فلا تزكم رائحتها الأنوف، وجاءت طبيبة التدقيق الشرعي (كاتانيو) ولمدة 12 يوما وليلة، وهي تقلب في الجثث، ذات اليمين والشمال، هل من رسم على الجلد؟ هل من بصمة؟ هل من ندبة؟ هل ثمة مايدل على صاحبها قبل المثوى الأخير؟.
وتتوقع الطبيبة في الطب الشرعي الانتهاء من تعيين هويات الموتى مع الوقت؟.
وللعلم فإن جزيرة صقلية حوت من القبور المجهولة الكثير ربما مذكرة بحملة هانيبال وتمرد سبارتاكوس أو ربما العراب الحديث ؟ وتقول الانثروبولوجية جيورجيا ميرتو (Giorgia Mirto) و سيمون روبينز (Simon Robins) من جامعة يورك (بريطانيا) إنه أمر لايليق بهؤلاء المساكين القاصدين الأرض الأوربية أن يدلفوا إلى مستودعات النسيان، بل لابد من وضع بنك معلومات حول هؤلاء الفارين؛ فهم ليسوا وحدهم بل ضاع في غمرات الموج عشرات الآلاف في البحر المتوسط، بين عام 2014 واليوم، لم يتم التعرف على هويات أصحابها إلا الثلث، ولقد أحصي غرق 1229 شخصا فقط في أسبوع واحد. وكل هذه المأساة خلفها الحكومات الديكتاتورية وسكوت الغرب عليهم لمصالح يجنونها!
لقد مثل فيلم وفيلم حول غرق التيتانيك لأنها تمت بصلة إلى الجنس الأبيض والطبقة الارستقراطية، أما الأفارقة الفقراء فلا باكي لهم.