بعد اندلاع الثورة الفرنسية بعشر سنوات وقبل أن يغلق القرن الثامن عشر بعام واحد ، ضجت فرنسا والأوساط العلمية من حدث صدم له المجتمع الفرنسي وترك الناس حيارى في التفسير والتعليق وسببه العثور على انسان عاري من غابة ( أفيرون ) أشبه بالذئاب منه بالانسان ، ففي شتاء ذلك العام ( 1799م ) ظهر للناس طلباً للدفء والغذاء صدفة فأمسكوا به بعد عناء (1) كما هي في قصة ماوكلي الطفل الذئب الذي عرض في مسلسل للأطفال .
كان الطفل في حدود الثالثة عشر من العمر قذراً تفوح منه الروائح المقرفة ، عارياً تماماً من أي لباس ، لايعرف معنى العورة ، شرساً يعض ويخمش يد كل من يقترب منه ، لايمشي بشكل منتصب ، بل منحني وأقرب للحيوان ويهز جسمه طول الوقت ، يروح ويغدو وكأنه في قفص الحيوانات ، وبين الحين والآخر تعتري جسمه تقلصات مخيفة ، كما كانت تعبيرات وجهه تخلو من أي مشاعر رحمة أو تودد .
وقف الناس ينظرون إليه متأملين ، فهو يمثل من زاوية ( التكيف الممتاز ) مع الطبيعة ، أي يمثل الصنف المتوحش النبيل ، كما كان يدعو إليه المفكر الفرنسي ( جان جاك روسو ) بالعودة إلى الطبيعة لإن الحضارة هي المرض ؟! فالطفل كان ذو بنية مدهشة قوية ومقاومة للمرض فقد استطاع أن يقاوم الموت كل السنوات الطويلة وهو عاري ، ونحن نسقط للرشح أو التهاب الصدر مع لفحة هواء وبرد بسيط . ورأى فيه فريق آخر الهوة المرعبة التي يمكن أن يهوي إليها الانسان في عريه المطلق وقذارته البهيمية ؛ عندما يعيش لوحده محروماً من المجتمع ، في حين حمد الله الفريق الثالث على نعمة العيش في مجتمع انساني مظلل بالأمن والرفاهية .
الشيء المهم في هذه الحادثة انها كانت محرضاً للدكتور ( جين _ مارك _ إيتار ) في دراسة هذا المخلوق ، حيث اختلف فيه فريقان هل هو أبله رماه ذووه في الغابة ؟ أم هو انسان قد عاش في الغابة منذ أيامه الأولى ؟؟ وأصر الدكتور إيتار على أن هذا الكائن ليس بانسان ( أبله ) في حال من الأحوال ، فهو لايتصرف كانسان وأبله ، بل هو شيء مختلف تماماً ، إنه انسان لم يتصل ( بالمجتمع الانساني ) منذ أن بدات حياته على هذا الكوكب .
صمم الدكتور إيتار على تجربة مثيرة للغاية ، هي إعادة هذا المخلوق إلى حظيرة المجتمع ، وأعطاه اسم ( فيكتور ) ومرت التجربة لعدة سنوات .
حصيلة تجربة الدكتور إيتار مع فيكتور !!
لم تكن التجربة سهلة فهو لايعرف الانتصاب ولا لبس الثياب ، تناول الطعام أو قضاء الحاجة ، لا أصول التعامل أو آداب اللياقة الاجتماعية ، وقبل كل هذا لم يكن ينطق بكلمة فرنسية واحدة .
ومن خلال تربية طويلة ولعدة سنوات تقدم الصبي قليلاً فأصبح يعرف كيف يزرر ملابسه ، أو يتبول ، ينتصب نوعاً ما ، ويتصرف بشكل معقول ، ولكن الشيء الذي استعصى هو اختراق ( حاجز اللغة ) !! كانت اللغة هي العائق الرهيب الذي تحدى الدكتور ( إيتار ) على الرغم من كل المحاولات المضنية خلال عدة سنوات ؛ نعم استطاع الطفل أن يفهم بالسماع بعض الكلمات الفرنسية ولكن شفتاه انحبست عن نطق أي كلمة ، كما انعقل لسانه عن التعبير بأي جملة واضحة سليمة التعبير، وكانت النتيجة التي خرج بها الدكتور ايتار أن المصيبة التي حلت فوق رأس هذا الصبي ليست بلهاً أو قصوراً عقلياً ، بل العزلة الاجتماعية التي طوقت مصيره بظلمات غير قابلة للانفكاك !! فكتب يقول : (( يأتي الانسان الى هذه الكرة الأرضية بدون قوة جسدية وبدون أفكار تولد معه وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الاساسية التي ترفعه إلى قمة المملكة الحيوانية ، ولايستطيع الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة إلا إذا كان في وسط مجتمع ، وبدون حضارة يكون الانسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءاً ))(2) .
قصة الصبي المتوحش في فرنسا ليست الأولى في تأكيد الأثر الاجتماعي في ( تشكيل ) الانسان فهناك قصة مثيرة عن الملك ( فريدريك ) حاكم صقلية من القرن الثالث عشرللميلاد .