(( في مواجهتنا للأشياء نحن حيال ثلاث معادلات : أشياء ( يمكن ) أن ننفذها ، وأشياء ( يستحيل ) أن نحققها ، وبين الممكن والمستحيل هناك ( طيف ) من الإمكانات ، فضمن الممكن هناك أشياء ( يسهل ) فعلها ، وهناك أشياء ( يصعب ) إنجازها ، ولذا يجب أن نسأل أنفسنا دوماً هذا السؤال المحوري : هل الأمر الذي يواجهنا ( مستحيل ) أم ( صعب ) ؟؟ لإنه بناء على تحديد الإجابة يتولد أمر في غاية الأهمية ، فــ ( المستحيل ) يعني أن لا فائدة من بذل الجهد ، في حين أن ( الصعب ) يتطلب بذل الجهد المكافيء ، فوحدات من طاقة العمل تذلل الصعوبات حسب حجم الصعوبة ، وهي مرتبطة بعامل ( الزمن ) حتى يتم تحريرها من الاستحالة ، فالعملية الجراحية مهما بلغت من سهولة التداخل وصغر الحجم وقصر الوقت تعتبر ( مستحيلة ) إذا افترض العقل إنجازها في خمسة ثواني !! ونقل جبل يصبح في حيز ( الممكن ) إذا توفرت ( الإرادة = الجانب النفسي ) و ( القدرة = الجانب الفني ) مضافاً إليهما عنصر ( الزمن ) .
المستحيل يعني العبثية في الاتجاه فكل حركة في هذا الاتجاه هي مضيعة للوقت والجهد وعمل في الحقل غير المفيد ، وهذه الفكرة إنارة رائعة للحديث الذي ينهى عن البكاء على الماضي تحت مقولة ( لو ) ( 1 ) والاختلاط يقع بين تداخل هذه الحقول الثلاثة ( المستحيل ) و ( الممكن ) بشقيه ( السهل ) و ( الصعب ) حيث تصبح عقليتنا ترى الأشياء في ( تردد = ذبذبة ) بين ذهان ( السهولة ) وذهان ( الاستحالة ) وبذلك يختفي مفهوم الصعوبة الذي يعتبر المحرك الأساسي لتحريض آلية بذل الجهد ، وهكذا رأى العقل العربي في يوم من الأيام ( اسرائيل ) دويلة عصابات وشذاذ الآفاق ، أما اليوم فهي التنين النووي وشمشون الجبار الاستراتيجي ، والأمر ليس بهذا ولاذاك ، وينطبق القانون التاريخي على الجميع ، ولن تشذ اسرائيل عن قانون التاريخ ، فهي منخس التحدي التاريخي ، وترمومتر انهيارنا الحضاري ، ومشعر مرضنا وعجزنا ، ولذا فهي تمثل كمية ( من العمل الصعب المليء بالتحدي والقابل للانجاز ) ، ومن الضروري في المستوى الفردي والاجتماعي تحديد مساحات الممكن والمستحيل والعلاقة الرياضية بينهما ، فحين نزهد في ( الممكن ) ونحلم بــ ( المستحيل ) نصبح عملياً في إجازة مفتوحة ، وحين نتعامل مع الممكن فنستفيد منه ؛ فإننا عملياً ومن خلال الجهد نربط بين طرفي معادلة ( الممكن - المستحيل ) لنقفز من عتبة الممكن _ مع الزمن _ إلى فضاء المستحيل )) .
أحجار على رقعة شطرنج كبيرة ؟؟!!
وضع الموظف البنكي الكبير ساقاً على ساق ثم نفث في وجهي دخان سيكارته ؛ الذي لم يكلف نفسه في الاستئذان كثيراً قبل الهجوم على صحة رئتي وسلامة أوعيتي الدموية ، وحدَّق في الحضور وتابع الحديث : ياجماعة كل مايحدث لنا يتم وفق تخطيط خارجي ونحن لسنا أكثر من أحجار على رقعة الشطرنج ؟!! وباعتبار مهنتي المزدوجة ( جراح أوعية ) فأنا أصلح الأوعية الدموية في قاعات العمليات ، والمجاري الفكرية في جلسات البحث العقلية ، وكنت قد فرغت لتوي منذ أيام قليلة من تصليح شرايين مدخن عمره 38 سنة كان يجرُّ قدمه بسبب فقر التروية الدموية ( ISCHAEMIA ) في ساقه اليسرى ، ولإنني أصبت بالصداع في جو الدخان ، فقمت بتداخلين لاصلاح الوسط : ضباب الدخان لانقاذ رئتي وأوعيتي من هجوم النيكوتين ، عن طريق المدخنة المسلطة فوق رؤوسنا ، وضباب الأفكار السلبية المعيقة للتنفس العقلي الصحيح !!
الأمثال الشعبية :
من خلال خبرتي الميدانية لفت نظري موضوع ( الأمثال الشعبية ) وعلاقتها بالثقافة
السائدة ولاحظت أن هناك تياراً من الأمثلة يشكل عقلية انسان المنطقة ، ومن الغريب تكرر المثل مع تباين اللهجات المحلية ، وهكذا نسمع ( موطالع بايدنا شي ) , ( عين ماتقاوم مخرز ) و ( ياللي اخد أمنا بنسميه عمنا ) و ( الايد اللي ماتقدر تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر ) و ( من حيط لحيط وربي سترك ) و ( مادخلنا ) و ( فخار يكسر بعضو ) ؟؟!!! ........ ومازلت أتذكر حادثة جرت لي في مدينة الدمام عندما كنت عند بياع ( الشاورما ) عندما سمعنا ضجة كبيرة فصاح البياع ( مادخلنا = أي لادخل لنا فيما يجري ؟؟!! ) ثم أردف ( فخار يكسر بعضو = أي فليكن مثل جرات الفخار التي يكسر بعضها بعضاً طالما أنا في الحفظ والصون ؟؟!! ) .
من القصة السابقة والأمثلة الشعبية التي أُوردت يمكن أخذ ( عينات ) ثقافية للتحليل المخبري العقلي البارد ، فكما أن المريض يأتي إلى المخبر فتؤخذ عينة من دمه للتحليل فيكشف من هذه العينة البسيطة أشياء لاتنتهي عن وضع بدنه وأجهزته البيولوجية المعقدة ، من مثل فقر الدم وارتفاع الكولسترول وقصور الكبد وفشل الكلية والتهاب المعثكلة واضطراب الشوارد المعدنية ، كذلك الحال في ( العينات الثقافية ) ، فصاحب ( الشاورما ) عندما صرخ مع صوت الاصطدام ( مادخلنا ) كان في الواقع يعبر عن ثقافة سائدة وعقلية مسيطرة ومفاهيم لها اليد العليا في المجتمع ، فكلمته هذه تمثل ثقافة الانسحاب والارتداد والانكفاء على الذات وتوقف روح ( المبادرة الفردية ) هو يريد أن لايسمع شيئاً غير إطار عمله اليومي ، كون العالم الخارجي لايحمل الا الشر والأذية والرض ( TRAUMA ) هو لايرغب أن يكون شاهداً على واقعة ، فهو قد خسر وظيفة ( الشهادة ) التي تكلم عنها القرآن منذ زمن بعيد ، هو لايحب من قريب أو بعيد رؤية ( البوليس = الشرطة ) فيعينهم على كشف جريمة ، هو غير مستعد لاسعاف انسان مصاب طالما أنها لاتخصه ، فهو مؤشر فاضح لتفكك الشبكة الاجتماعية . فهذه الثقافة السلبية في مجتمعنا يمكن الكشف عنها بمثل هذه العينات من ( الأمثال الشعبية ) . وبالمقابل مازلت أتذكر برنامجاً كان يبث في ألمانيا بعنوان ( XY ) حيث كان يعرض للجرائم فيعرضها ويعيد تركيبها ( RECONSTRUCTION ) ثم يتم مخاطبة الجمهور في كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا وليشتنشتاين ( المناطق الناطقة بالألمانية ) للافادة بأية معلومات هامة حول الواقعة ، وكان يتم بواسطة ( المبادرات الفردية ) الكشف عن الكثير من الجرائم المروعة ، فالفرد هناك يفتح عينيه على كل مايحدث ويشارك بدون خوف ومعه كل حس الدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه ، وعندما نرجع لتحليل مقولة الرجل آنف الذكر لفهم الآليات الخفية خلف حدوث الواقعات يبرز أمامنا السؤال المفصلي : هل حقاً أننا لانملك من أمرنا شيئاً أي أننا أمام ذهان ( الاستحالة ) أم أن هناك هامش يمكن أن نتحرك به ؟ وماهو مقداره ؟ وأين هو حقله ؟ إذاً من الواجب أن نتأمل قطاع ( الممكن ) الذي يمكن أن نحدث فيه شيئاً بـــ ( جهدنا ) .
الممكن والمستحيل في الواقع الأرضي :
لنطرح الأسئلة البسيطة التالية : هل هناك قوة في الأرض تمنع الانسان أن يحرص أن يأتي لموعده على وجه الدقة ؟ هل هو في حكم الاستحالة أن يلبس الانسان ثوباً نظيفاً أو أن تكون رائحته طيبة وشعره مسرح ؟ هل هناك من يمنع أن يحترم الانسان زوجته ويثقف ابنه ويبتسم في وجه جاره ويقرأ كل يوم نصف ساعة بحثاً مجدياً ؟؟ هل هناك من يحول بين المرء وأن ينظف أمام بيته وأن لايلقي زجاجات الببسي في الطرقات ؟ هل هناك صعوبة بالغة أن يوطن الانسان نفسه أربع وعشرين ساعة أن لايذكر أحداً الا بخير ؟؟ هل من يمنع أن يتسامح الانسان مع الآخرين وأن يعذرهم وأن لايسرع في تكفيرهم ولعنهم عندما يختلف معهم ؟ هل في إمكان الانسان أن يدرب نفسه على أن لايفعل أمراً يخالف القواعد الأخلاقية ولو أُمر بذلك ؟ هل بإمكان الفرد أن يتخلص من التحول إلى ( شيء ) في صورة بوق أو مسدس ؟ هذه الاسئلة البسيطة وأمثالها تعطينا الانطباع أن مساحة الممكن هي العظمى في الحياة وأن بإمكان المرء أن يفعل أشياء كثيرة جداً . إن أعظم إحباط يصاب به الانسان عندما يضع لنفسه هدفاً لايستطيع الوصول اليه !! وأفظع منه أن يعيش بقية عمره على هذا الحلم ؟ وأشد تدميرا منه عندما ينتظر الصدف أن تولِّد هذا الواقع الذي يحلم به !! فكلها سلسلة من الأخطاء الرهيبة التي تلغي آلية الجهد .
يحمل الانسان جدلاً رهيباً ، فهو لاشيء إذا قورن باللانهاية ( كما هو معلوم في الرياضيات أن نسبة الرقم الى اللانهاية تساوي الصفر ) وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية . بين الممكن والمستحيل ، فهو لايستطيع خلق نفسه ولاخلق أولاده ( لايخلقون شيئاً وهم يخلقون ولايملكون لانفسهم ضرا ولانفعا ولايملكون موتا ولاحياة ولانشورا ) ( 2 ) ولذلك سحب الله إمكانية الخلق منا ولو كانت ذباباً تافهاً (( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له )) (3)
العلاقة الرياضية بين الممكن والمستحيل :
نحن نرى في اللحظة الواحدة السهل والصعب والمستحيل في الشيء الواحد في ثلاث حالات ، وفي الأشياء الثلاثة في الحالة الواحدة ، فمن الممكن ( حمل ) الصحن ، ولكن يصعب حمل الطاولة الكبيرة ، ويستحيل حمل البيت ، كما أنه نستطيع أن نحمل الصحن ولكن يصعب تحويله الى قدح ولكن يستحيل قلبه إلى أرنب . نحن لانستطيع تغيير عقول كل الناس ، ولكن نستطيع عدم إضاعة الوقت في ( الشدة والطرنيب ) والالتفات إلى تثقيف أنفسنا . نحن لانستطيع تغيير قوانين المرور ، ولكن بإمكاننا أن لانخالف إشارة المرور ، حتى لو كنا وقت صلاة الجمعة والشارع فارغاً ، وإذا دخل في روعنا هذا وجب أن ندخل عنصراً آخر هو عدم الاستخفاف بأي إنجاز ( ممكن ) مهما كان زهيداً وصغيرا ، فالكل يفكر بالأشياء الكبيرة وينسى الأشياء الصغيرة التي هي مكونات الأشياء الكبيرة وعناصرها الأولى ولبناتها الأساسية ، فأكبر الأرقام هو تجمع رقم الواحد فوق بعضه البعض مهما بلغت ضخامة الرقم ، والانجازات العظيمة هي محصلة تراكمية للانجازات التافهة الصغيرة ، والجبل تجمع هائل للحصى الصغيرة وحبات الرمل التافهة ، والهرم تركيب ملايين الأحجارالصغيرة ( الممكنة الحمل ) ( 4 ) والانسان هو محصلة تراكمية بطيئة للجهد الواعي المتشكلة عبر وحدات الزمن ، وفي معركة بدر التي سماها القرآن فرقاناً كانت ( إظهاراً ) لإمكانيات تشكلت فيما سبق ، وليست إنجازا برز فجأة إلى السطح ، والمجتمع كم هائل من الأفراد منظمين ضمن شبكة علاقات ، وتغيير الأفراد التدريجي سيقود في النهاية إلى تغيير المجتمع ، ولايتطلب ذلك تغيير كل الأفراد فليس مطلوباً ولاممكناً ، بل تغيير الكم الحدي ( أو الكتلة الحرجة ) وعند الوصول إلى تغيير الكتلة الحرجة يبدأ التيار الاجتماعي في التشكل وعلى العكس فإن ( شذوذ ) فرد منه بتصرفات وأفكار يعرضه لقانون ( الدجاجة المجروحة في القن ) حيث روى لي صديقي الدكتور الصناديقي عن ملاحظة أمه التي تربي الدجاج ، أن الدجاجة إذا جُرحت عمدت بقية الدجاجات إلى نقرها في مكان الجرح حتى الموت ، ولذا تعمد أمه _ على ماروى _ إلى عزل الدجاجة المجروحة فوراً ، وهذا يفسر لنا بعض الوقائع التاريخية البشرية فــ ( جرح ) ابن تيمية في ( القن البشري ) في الفتاوى التي ( تميز ) بها في عصره في الطلاق وشد الرحال ( 5 ) عرضه للنقر الاجتماعي حتى الموت ، فرمي في سجن القلعة حتى فاضت روحه خلف القضبان . كما يفسر لنا الانسحاب الذي يقوم به الانبياء في مرحلة من دعوتهم ( واعتزلكم وما تدعون من دون الله ) وهو مأشار إليه المؤرخ البريطاني ( توينبي ) في كتابه ( دراسة التاريخ ) عن قانون الاعتزال والعودة .
جدلية الممكن وتطوره :
عند وضع اليد على المفتاح السحري : ( أن بإمكاننا أن ننجز شيئاً ) تتولد سلسلة من الأمور الايجابية :
الأمر الأول : ( النجاح يقود إلى النجاح ) فالنجاح يولد الشعور بالثقة بالنفس ، عندما يحس الفرد أن بإمكانه أن يفعل شيئاً . والعكس بالعكس فالفشل يخلق الاحباط والخوف من المحاولة الجديدة ، مالم يزود بميكانيزم نفسي مرافق وهو أن المشكلة ليست في ( المشكلة ) بل في موقفنا منها ، فأي استعصاء في حل المشاكل يرجع بالدرجة الأولى إلى عجزنا أكثر من تعقيدها الذاتي ، والمشاكل تنبع من ( مواقفنا) غير السليمة منها ، فنحن مستعدون إلى لعن كل شيء واتهام كل أحد ، وغير مستعدين لمراجعة أنفسنا لحظة واحدة ، وهذا ميكانيزم خبيث للغاية ( MALIGNANT ) لإنه يقود إلى تعطيل الجهد البشري وتدخله في إصلاح الخلل ، طالما كانت التهمة للآخر جاهزة وعدم الالتفات إلى إدخال الذات في معادلة التصليح ، ولذا وجب تدريب أنفسنا على قانون نفسي قاسي هو ( عدم لوم أحد ) في مواجهة أية مشكلة ، ليس لعدم وجود طرف آخر في المشكلة ، فالنزاع الانساني في العادة مزدوج الطرفين ، ولكنه التدريب على العمل في الحقل المفيد ، فأفكارنا تحت سيطرتنا ، أما اتهام الآخرين فهو _ بشكل غير مباشر _ دعوة إلى إراحة الذات من التفعيل والمراجعة وتعب إدخال التصحيح ، فهو تعطيل ( قانون الجهد ) ، بل إن ( تغيير نفوسنا ) هو طرف ( الرافعة ) الميكانيكية النفسية الاجتماعية ، كما هو عند الأطفال عندما يجلسون في الحديقة على طرفي الرافعة ، فإذا أمكن التأثير فهو من الطرف الذي يستقر عليه ثقلنا ، وهكذا فالساحة النفسية عندنا هي حقل تأثيرنا ، أما الآخر فنحن غير مسؤولين عما يعمل الآخرون ( ولانسأل عما تعملون ) ، والمسؤولية فردية ( ولاتزر وازرة وزر أخرى ) ( وأن ليس للانسان إلا ماسعى ) .
الأمر الثاني : ( النجاح يعطي قدرة ( تمكن ) أعلى ) فبعد انتهاء العملية الناجحة فإنه يخرج منها بغير حصيلة الخبرة قبلها بل زيادة الخبرة الجديدة ، وكل ضربة لاتكسر الظهر تقوي أكثر كما يقول المثل .
الأمر الثالث : ( ينعكس النجاح على النفس فيعطي السعادة ) في حين أن الفشل يدخل الانسان في دوامة الحزن ويجب أن يتخلص منه بالنجاح ، وفي الواقع يجب أن نرى الديناميات النفسية في ( حقل ) متحرك ( ديناميكي ) وليس وسط جامد ( استاتيكي ) كما هو في علم الميكانيك ، وهذا نعرفه من يومياتنا العادية ، فعندما يتعرض الانسان لخطر ما فإنه يصاب بالخوف الذي يدفعه إلى شعور وحركة ، شعور بالكراهية لمصدر الخطر ، وحركة بالهرب من الخطر المحدق ، أما النجاح فيعطي شعورين مترادفين ، الأول : الثقة بالنفس التي قد تنتفخ إن لم تلجم فتصل إلى الغرور ، فتتدخل الطبيعة لتفرمل الغرور حيث يصاب صاحبها بالخطأ فالنكس فالارتداد للموقع الأول ، والثاني : السعادة الغامرة التي تنعكس على البيولوجيا إيجابياً . وهذا نراه في مضاداتها أيضاً فالغضب يقود إلى جفاف الفم وانحباس البول والامساك وخفقان القلب وارتفاع التوتر وزيادة الحركات التنفسية ، والحزن يولد الوهط والكسل والتوقف عن النشاط والكآبة والميل للعزلة والانسحاب ، ومع الكآبة يشعر الانسان كأنَّ السموم تتدفق في كل خلية من جسمه ، وأنا أعرف من الأطباء الذين بقوا تحت ضغط نفسي لفترة طويلة من أصيب بارتفاع في التوتر وانسداد شرايين القلب على عمر مبكر ، والسبب تلك العلاقة الخفية التي لم نفهمها ولم يماط اللثام عنها حتى الآن كيف تؤثر الحالة النفسية على البيولوجيا ، فوالد يوسف ( عليهما السلام ) ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ، كما ارتد إليه بصره مع بشارة العثور على يوسف ( ألقاه على وجهه فارتد بصيرا )
الأمر الرابع : قانون ( التراكم الكمي يقود إلى التغير النوعي ) : هناك علاقة بين الكم والنوع انتبه لها العلامة ابن خلدون في المقدمة ، وهو أمر ملاحظ في الطبيعة ، فرفع درجة حرارة الماء إذا زادت بشكل تراكمي قادت في النهاية إلى تغير نوعي في طبيعة الماء ، عندما تصل درجة الحرارة إلى درجة الغليان ، فهو يتبخر ويطير في الهواء ، كما أن انخفاض درجة حرارته إلى الصفر تقود إلى تجمده وزيادة حجمه ( خلافاً لكل العناصر التي ينكمش حجمها مع البرودة ) وهذا يعني أن التراكمات ( الممكنة ) ستقود في النهاية إلى شق الطريق لكسر المسلمات والحتميات ، فالكثير منها نحن الذين نصنعها ونمنحها الحتمية فتتحول هذه الأفكار مع الوقت إلى ( أصنام ) ، ومشركو قريش رفضوا الاسلام تحت ضغط أمثال هذه الأفكار ، وهكذا تم كسر الكثير من المسلمات عبرالتاريخ ، في النظام الفلكي ، وتحطيم الذرة ، وقلب المعادن الخسيسة إلى ذهب ( بواسطة إضافة البروتونات والنترونات ، فالذهب يتحول إلى زئبق بإضافة بروتون واحد أو بالعكس فيتحول الزئبق ذهباً بسحب بروتون واحد منه ، ذلك أن قلب نواة الذهب تحوي 79 بروتون والزئبق 80 ) وإيقاف القلب وإعادة تشغيله ، وانتقال الصوت والصورة بسرعة الضوء .
الأمر الخامس : إن أخطر مرض عقلي يهدد التقدم الإنساني هو عقدة الآبائية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) أي التقليد ، فبقدر مايجعلنا المجتمع بشراً ( من خلال العادات واللغة وسواهما ) بقدر مايشكل الطوق الاجتماعي خطراً يغتال العقل الانساني ، وهذا هو السر في بطء نمو مجتمعات وتطور أخرى ، والمجتمع الياباني مااستطاع الطيران للعصر لولم يتحرر من العادات العقلية المفرملة ، وأول قفزة له كانت باتجاه الاستفادة من إضافات المعرفة الانسانية الجديدة ( ثورة الميجي - العهد الامبراطوري لعام 1868 م ) ( 6 ) وكان إدراك اليابان حاداً في أهمية الخلاص من الحذاء الصيني الحديدي ( العقلي ) ( في الصين جرت العادة آنذاك وضع قدم الطفلة الصغيرة في حذاء حديدي لايغير حتى تكبر الفتاة وهي تحافظ على أقدام صغيرة ؟!! )
تجربة نفسية محرجة
من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة قاسية فسألت الموظف : لو أُعطيت مسدساً ، ووُضِع على صدغك مسدس ، ثم طُلب منك قتل هذا الذي أنت في ضيافته ، وهو من أعز أصدقاءك ، ماكنت فاعلاً ؟؟ فإذا لم تضغط الزناد قُتلت أنت !! ..... فوجيء صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشي ثم اعترف بأنه سيقتل !! .... إلا أنه اكتشف نفسه ويداه ملوثتان بالدم ، وقد تحول إلى ( مجرم ) ... عندها تدفق من فمه سيلًٌ من المبررات ليس آخرها أن الله سيغفر له لإنه ( مُكْرَه ) .
هنا تعرت الآليات النفسية تماماً وأدركنا في جو الحوار الذي لايخلو من توتر أمام كشف ( آركيولوجي ) نفيس كهذا ، في حفريات تضاعيف النفس ، أن هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر ، إن لم يكن هذا هو تصرف معظم الناس ، في مثل هذه المواقف الصعبة ، يشفع لها المناطق المظلمة من النفس الانسانية التي لم تشكلها الثقافة الجديدة بعد .
إن هذا المثل فظيع ولاشك ولكن هل يدخل في إطار ( الممكن ) أو ( المستحيل ) ؟؟؟!!!
هوامش ومراجع :
( 1 ) جاء في الحديث الصحيح النهي عن ( لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن ليقل أحدكم قدر الله وماشاء فعل ) لإن التمني على تغيير الماضي يعتبر في حكم ( المستحيل ) ولذا وجهنا الحديث للعمل في الحقل المفيد أي حقل ( الممكن ) ( 2 ) الفرقان الآية رقم 3 ( 3 ) الحج 73 ( 4 ) صحح ابن خلدون في مقدمته معلومة هامة عن بناء الاهرامات حين ضل بعض الناس فظنوا أنها بنيت بيد بشر عمالقة ، وقال إنها بنيت بيد بشر مثلنا تماماً ولكن الذي مكنهم من ذلك هو استخدامهم لتقنيات هندسية متطورة في عصرهم في الرفع والبناء ( 5 ) كلفت فتوى الطلاق ابن تيمية غالياً فهو الذي رأى أن الطلاق الثلاث في وقت واحد يبقى واحداً ، كما اعتبر الحلف بالطلاق يبقى في إطار الحلف وكفارته صوم ثلاثة أيام ولايقع طلاقاً ، كذلك واستناداً إلى الحديث أن الرحال لاتشد إلا الى ثلاثة مساجد ونحن نستغرب اليوم كيف ألقي في السجن من أجل هذه الآراء ليموت فيه ، بل تمت المطالبة بإهدار دمه ؟!! وهذا يشي بتناقضات الصراع الانساني وأنها قابلة للتكرار بنفس الصورة في أوقات شتى يراجع في هذا كتاب ( ابن تيمية ) لــ ( هنري لاوست ) كتاب ( آراء ابن تيمية في الاجتماع والسياسة ) وكتاب ( ابن تيمية ) سلسلة أعلام العرب بقلم محمد يوسف موسى ( 6 ) جاء في كتاب الشرق الأقصى - فوزي درويش - ص 60 النص الكامل للعهد الامبراطوري الذي دُشِّن عام 1868 م وهو مكون من خمس فقرات تقول الفقرة الخامسة ( سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم وعلى هذا النحو سوف تترسخ الامبراطورية على أسس متينة ) .