نفهم أن يؤثر شخص على شخص أو اثنين، ولكن تبقى (ظاهرة) تخريج جيل كامل من الرجال المميزين فهي أقرب للمعجزة.
ليس فقط الصديق أبو بكر، وعمر الشديد الفاروق، وأمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، وعلي بن أبي طالب القاضي العادل كرم الله وجهه، وخباب بن الأرت، والأرقم بن الأرقم صاحب أول بيت للدعوة، وحذيفة بن اليمان أبو الأسرار وكاشف المنافقين، بل وعشرات ومئات. ليس فقط الرجال بل النساء، أول من أسلم كانت امرأة خديجة رضي الله عنها، وأول من استشهد في سبيل الله فقتل كانت امرأة سمية، والمرأة كانت خلف إسلام ثاني رجل في الإسلام عمر بن الخطاب، أخت عمر فاطمة، عائشة كانت المرأة الذكية التي حملت ثقافة كاملة للجيل التالي من التابعين، وخولة وعفراء وأم حرام وأم سليم، إنه جيل مميز فريد. دفع صديقي عبد الحليم أبو شقة أن يكتب موسوعة بعنوان «تحرير المرأة في عصر الرسالة».
وحين نعرف قصة كل واحد منهم نقف أمام لوحة من العظمة الإنسانية. علينا أن ندرك أن امتداد الإسلام بدأ نواة مصغرة في الجزيرة العربية، حين وفاة نبي الرحمة (ص)، ولكن انتشاره تم في عهد الصحابة الميامين، في ظل دولة عادلة راشدة.
علينا أن نتذكر بعض القصص منهم وعنهم، لماذا سمي أبو بكر بالصديق؟ كانت حادثة الإسراء والمعراج. قال كفار قريش إنها فرصة أن نزعزع إيمان ثاني اثنين إذ هما في الغار. هرع الناس وهم يهتفون أي أبا بكر بن قحافة اسمع ما يقول صاحبك لقد ذهب ليلا إلى فلسطين ورجع، وأحدنا يحتاج شهرا يخب خبا ليصل تلك الأرض. توقع الذين يخبرونه بالخبر أن يتفاجأ وينكر صاحبه.
في الإنجيل قصة تروي الفارق بين أعظم رجلين في الإسلام والنصرانية؛ أبو بكر وبطرس، في ليلة العشاء الرباني الليلة الأخيرة قبل نهاية قصة يسوع المسيح، يجتمع عيسى بن مريم بالحواريين جميعا على مائدة أخيرة؛ هي حسب القرآن كانت معجزة المسيح الأخيرة، وسميت سورة باسمها سورة «المائدة» لأنهم طلبوا أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم. في تلك الليلة قام عيسى بن مريم، فغسل أقدام الحواريين يعلمهم التواضع قائلا الصغير فيكم كبيرا، وفي النهاية بلغ الحماس ببطرس أن قال للمعلم وهو يودعهم إن أمرا جللا بانتظارهم، قال يا معلم نفسي فداك لن نسلمك ولو بأرواحنا. التفت إليه يسوع وقال يا بطرس سوف تنكرني ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك. في تلك الليلة تم القبض على المسيح وسيق إلى الاتهام بزعمه أنه ملك اليهود وأنه يهدم المعبد ويبنيه في ثلاث ليال.
في تلك الليلة بعد أن تفرق الحواريون عنه بدأ الناس يتهامسون لرجل مار بينهم يسترق السمع عن مصير المسيح، أنه بطرس، وهو ينكر نفسه أن يكون من تلامذة المسيح، إلى أن صاح الديك وقد أنكر المعلم ثلاث مرات، كما توقع له المسيح. خر الرجل باكيا وعرف مقدار ضعف الإنسان. بطرس حسب الروايات، وصفه المعلم أنه الصخرة التي سوف تستند إليها الكنيسة. في ذلك الامتحان سقط.
مقابل قصة بطرس الرسول تأتينا قصة أبو بكر رضي الله عنه، ولماذا سمي بالصديق. إنه حينما نقلوا إليه خبر ذهابه في ليلة واحدة إلى القدس وعودته منها التفت إليهم أبو بكر وقال لهم، هل هو من قال هذا؟ قالوا نعم صاحبك. قال إن قالها هو فقد صدق؛ فإني أصدقه بخبر السماء، وهو يأتيه كل يوم وليلة. في تلك اللحظات من الصمود والوجدان والتصديق نال لقبه عبرالتاريخ أنه ليس أبو بكر بن أبي قحافة، بل أبو بكر الصديق. كما نالت يثرب اسمها الخالد المدينة المنورة.
في كتاب «أخبار عمر» للأخوين علي وناجي الطنطاوي نسمع مسلسل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاث حلقات؛ الأولى حين حاول أن يتسلل تحت لباس الكعبة ليفاجيء المصطفى في صلاته عند بيته المحرم، عسى أن يجفل؛ فإذا به يسمع فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من سورة «الحاقة» (38ـ 39) فقال في نفسه، أي عمر رضي الله عنه إنه فعلا قول شاعر، وإذا بالسورة تجيبه وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون. هنا ردد من جديد إذن هو قول كاهن؟ تابع الرسول (ص) القراءة ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين. ارتج عمر وانسحب ولكن لم يؤمن بعد.
أثناء هذا كان النبي (ص) يطمع في نصرة أشد القوم في قريش، ويردد اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين. من نال الجائزة كان الفاروق، أما الثاني فكان عمرو بن هشام، الملقب بأبي الحكم ليصبح اسمه في التاريخ أبو جهل.
الحلقة الثانية من إسلام الفاروق كانت حين رأى بعضا ممن يعرف وهم يهاجرون بدينهم إلى الحبشة. يأتي فيسألهم إلى أين الرحيل؟ يقول المهاجر نفر بديننا منكم. ولكنه يلاحظ في وجه عمر رضي الله عنه رقة غير معهودة. تلتفت إليه زوجته وتقول أتطمع في إسلامه؟ يجيب لا أدري. تعقب زوجته حينما يسلم حمار الخطب سوف يؤمن عمر بن الخطاب.
أما الحلقة الثالثة والأخيرة فهي عندما أراد ضرب أحد الصحابة، حينما رآه يقرأ طرفا من القرآن فيلتفت إليه الصحابي ويقول ارجع إلى صهرك وأختك لتعرف أنهما أسلما. صعق عمر وركض باتجاه بيت أخته فعلا ليراهما وفي أيديهما صفحة يقرآن فيها شيئا من القرآن الكريم. ينقض عمر ضربا على صهره فتقاوم أخته وتقول نعم يا عدو الله لقد أسلمنا. يهدأ عمر ثم يطلب الصفحة التي كانا فيها يقرآن، يعطيانه الورقة بعد تردد. حين يقرأ آيات من سورة «التكوير» إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت. يخشع عمر ويطلب مكان اجتماع الصحابة، وحين الوصول يخاف المجتمعون، ثم يسمحون له بالدخول، وهنا تحدث المفاجأة الكبرى حين يتشهد عمر، ويسمى الفاروق ويكون ثاني الخلفاء الراشدين، فأي فرق بين عمر الجاهلية وعمر الإسلام؟
يرسل الرسول (ص) (خالد بن الوليد) في سرية ويقول: أنت الأمير فيها، ثم يرسل مددا إلى الحملة، ويكون بينهم (أبو عبيدة بن الجراح) ويقول له حين تلتحق بخالد تكون لك الإمارة. يصل أبو عبيدة ويخاطب خالد بالرسالة. يمتنع خالد ويقول بل أنت ردف لي. ماذا نتوقع من الصحابي الجليل أبو عبيدة، الذي أخذ لقب أمين الأمة. يقول لخالد المتحمس سأطيعك ولو عصيتني. تمضي الأيام ويخوض كلا القائدين أعظم معارك التاريخ. وحين يجتاح الطاعون المنطقة، يقول عمر في آخر لحظات حياته بعد أن مات أبو عبيدة في الطاعون، لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته.
هناك من تتبع أخبار الصحابة ليعرف أن أبا أيوب الأنصاري مات على أسوار القسطنطينية في إحدى الحملات، ولتموت أم حرام في حملة على قبرص، وليهزم خالد جيوش هرقل في اليرموك، وليتقدم سعد بن أبي وقاص إلى بلاد فارس فتختفي من مسرح التاريخ.
كان هذا الجيل مميزا من القرون بكل أسف قتل الكثير منهم في معارك الردة، ولولا ذلك لاختفى الإسلام من وجه الأرض، فقد كان التحدي الأعظم في وجه انتشار الإسلام في الأرض وانسياحه عبر القارات. وبفضل جيل الصحابة امتد الإسلام من الصين حتى جبال البيريني. ثم دار التاريخ دورته كالعادة ليتحول من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، وتلك الأيام نداولها بين الناس.