لم تولد فكرة السلاح النووي الاسرائيلي في ( المدراشا )( 1 ) بل ولدت في ( الفانين زي )( WANNENSEE ) ( 2 ) . لم تتشكل في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل ، في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964م ، بل في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م ؛ حينما خطط ( هايدريش ) الرهيب مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو النازي للقضاء على 11 مليون من اليهود في أوربا ، ولم يولد الجنين النووي الاسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا ، ومن الغريب _ وهذه آلية معروفة في علم النفس _ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته ، فهذه مأساة إسرائيل ( اسبرطة ) الجديدة ، التي تعيش على ذكريات القائد الروماني ( تيطس ) ( 3 ) ومحارق النازية في ( آوسشفيتز _ AUSSCHWITZ _ ) و ( تيريبلنكا ) . فالنازيون خططوا لـ ( الحل النهائي ) الجرماني ، ومؤسسوا الصهيونية خططوا لـ ( الحل النهائي ) الاسرائيلي خيار شمشون . ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم فلنسمع قصته المثيرة .
قال لي زميلي الدكتور نبيل متسائلاً _ وهو محق في هذا _ فهو يمثل شريحة ليست بالقليلة ممن ( يفهمون ) في العالم العربي : يجب أن تفكر ليس وأنت خلف طاولة تحتسي كوباً من القهوة !! بل وأنت تملك مقادير أمة وتوجه مصائر شعب ، هل تنظر متفرجاً بانتظار أن تضرب بالسلاح النووي الإسرائيلي لتمضي إلى الفناء ؟ وكان الزميل يرى أنه لابد من المضي في هذا السباق ( المجنون ) من أجل الردع والتوازن ، أي أنه ينصح بالمضي في نفس الطريق الذي مشت فيه ديناصورات القوى العظمى في العهد ( العتيق ) . وعقب الزميل الثاني : الصلح الحالي هو مؤقت لدورة حرب في المستقبل ، أما الزميل الثالث فأضاف أنا مع أفكار السلام ( النظرية ) ولكن الواقع أثقل في الميزان ، والذي أوصل أوربا إلى السلام هو الردع المتبادل ، لذا وجب علينا الوصول مع إسرائيل إلى حالة الردع المتبادل .
*************************************
هذه الأفكار التي أنقلها إلى القاريء تمثل ( عينة ) من فهم العالم الذي نعيش فيه ، كما تمثل تشرب البيئة لـ ( ثقافة العنف ) التي يستحم فيها العالم جميعاً ، هذه الأفكار ليست في الواقع تمثيلاً لأشخاص بأعينهم ، بل إفراز ثقافة ، وتعبير وسط اجتماعي ، وفهم لطبيعة علاقات البشر ، وإدراك طبيعة العالم الجديد الذي نعيش فيه . لذا فإن هذا البحث لم يكتب للعسكريين _ فضلاً عن السياسيين _ لزيادة معلوماتهم ففي جعبتهم غناء عن بضاعتي المزجاة ، على الرغم من شغفهم بهذه البحوث ، هذه المقالة تتوجه بالدرجة الأولى للقاريء العادي كي تمنحه ( وعي ) العالم الجديد الذي نعيش فيه ، مسارات القوة ، تطور التكنولوجيا النووية _ بما فيها الاسرائيلية _ دورة التاريخ وعبرة الماضي ، إدراك أفضل للاستراتيجية النووية التي تحيط بقدر العالم اليوم .
*****************************************
لايمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه ، معلقاً في الفضاء ، مفصولاً عما حوله ، مالم يدخل ضمن ( القانون الجدلي ) الخاص به ، ضمن شبكة علاقاته ، فكل ( حدث ) هو ( نتيجة ) لما سبقه مرتبط به بشكل عضوي وهو بنفس الوقت ( سبب ) لما سيأتي بعده ، ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات ، ولايشذ عن هذا القانون بل ويصدق عليه أكثر حدث ( شمشون الجبار ) الذي بين أيدينا ؛ فالأدمغة اليهودية من أمثال ( ايرنست بيرغمان ) و ( بن غوريون ) و ( عاموس ديزحاليط ) ولدوا وعاشوا في ( الهولوكوست ) ( 4 ) ولذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى ، وحذرهم غير متناه ، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود ، بما فيها الغرب ممثلاً بفرنسا التي بنت لهم مفاعل ( ديمونا ) ونظام الصواريخ ، أو الولايات المتحدة التي غضت النظر ودعمت النشاط النووي الاسرائيلي ( 5 ) ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع يجب أن نتوقع كل شيء . وأكثر من هذا فحتى مشروع ( مانهاتن ) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي انطلق من ( شبح ) أن هتلر يُصَنِّع السلاح النووي ، وتبين بعد ذلك أن العلماء الألمان لم يكونوا قد خطوا في الطريق شيئاً يذكر ، على الرغم من بعض الكتابات التي تزعم ذلك ( 6 ) وكان في مشروع ( لوس آلاموس ) _ المخبر الذري الذي ضم الفيزيائيين النوويين في ذلك الوقت _ طائفة من العلماء اليهود الذين اندفعوا أيضاً للعمل تحت ضغط هذا الشعور ، يكفي أن نعلم أن رأس المشروع العلمي كان يهودياً هو ( روبرت اوبنهايمر ) ، ولاننسى أن نذكر أن نفس آينشتاين العبقري وهو يهودي وصهيوني بنفس الوقت ، تقدم بفكرة تطوير المشروع النووي إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ، تحت الرعب الذي استولى عليه مع العالمِ اليهودي ( سيلارد ) الهنغاري الهارب ، وقد ندم على ذلك بعد فوات الوقت وكرس بقية حياته للسلام ، كما اعتذر عن قبول أول رئاسة للدولة اليهودية الوليدة بقوله : الرياضيات خالدة والسياسة زائلة !! .
**********************************
لابد قبل الدخول في البحث من شرح كلمة ( خيار شمشون ) ( SAMPSON OPTION ) ومن أين جاءت ؟ فهذا المصطلح تم طرحه في لقاء ( المدراشا ) الذي أشرنا إليه في قبو الموساد ( الاستخبارات الإسرائيلية ) حيث تم استعماله في ذلك اللقاء التاريخي الحاسم ، وأصل هذه الكلمة من العهد القديم ( التوراة ) وخلاصتها أن شمشون كان جباراً عاتياً ، وكان يكفيه أن يقتل ألف شخص بلحي ( فك ) حمار ، فلما أراد الفلسطينيون الإمساك به عجزوا عن ذلك لقوته الخارقة ، فأرسلوا له فتاة جميلة هي ( دليلة ) كي يُغرم بها ويَدُلَّها على قوته ، ويفضي إليها بسره ( قوتي في خصائل شعري السبعة فإذا حُلقتْ ذهبت قوتي ) فلما نام على ركبة دليلة خرج الكمين فقص شعر شمشون ليتحول إلى قط وديع ، وإمعاناً في إذلاله أعموه بأن سملوا عينيه ، ثم سَخَّروه في الطحن بدلاً عن حمار الرحى ، ثم عرضوه لكل الإهانات الممكنة أمام الناس ، وفي يوم العيد الكبير كان قد نبت شعره وعادت إليه قوته وهم لايعلمون (( وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح ، نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون ، فدعا شمشون الرب وقال ياسيدي الرب اذكرني وشددني ياالله هذه المرة فقط فانتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين ، وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره وقال شمشون : لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته )) ( 7 ) فمغزى هذه القصة إذن هي المثل الشعبي المعروف ( علي وعلى أعدائي ) أي أن مصممي السلاح النووي الإسرائيلي أدركوا من نقطة البداية ، أنه سلاح سوف يستعمل مرة واحدة فقط ، هي لحظة التهديد بالفناء ، فإذا واجهوا خطر الفناء فإنهم لن يعيدوا قصة ( الماسادا ) قصة الانتحار الجماعي مرة أخرى ، هذه الفكرة كانت ومازالت محور التفكير الاسرائيلي ( لن تتكرر مآسينا مرة أخرى ) و ( لن تتكرر محارق آوسشفيتز ) ، هذه هو ( الدينمو) الفكري ، والنظارة اللونية التي ترى إسرائيل بها العالم .
********************************
لنسمع القصة من بدايتها إذن ............
إن الذي دشن القصة لم يكن ( ارنست ديفيد برغمان ) ولا ( أهارون كاتزير ) ولا ( شالحفين فراير ) الأدمغة العلمية اليهودية ، الذس دشن المشروع فعلاً هم ( هملر ) و ( هايدريش ) و ( أوزفالد بول ) !!! ( 8 ) ففي صبيحة يوم بارد هو العشرين من يناير كانون ثاني عام 1942م في ألمانيا النازية وعلى ضفاف بحيرة برلين ، تم لقاء على غاية الأهمية بين أقطاب الحكم النازي ، هذا اللقاء السري الذي أعد بعناية فائقة وبسرية مطلقة إلى درجة إنه لم يخلف وراءه أية مخطوطات أو وثائق ورقية ، كان قائد اللقاء ( هايدريش ) مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو والحرس الخاص ( اس اس )( SS ) في هذا اللقاء تم طرح ( فكرةً ) ترتعد لها المفاصل ، وهي تنظيف أوربا من كل يهودي ( 9 ) وهذا يحمل ضمناً القضاء على حوالي ( 11 ) مليون يهودي موزعين على الشكل التالي : ( 131800 ) يهودي مازالوا يقيمون في أراضي الرايخ الأصلية ، وخمسة ملايين في الاتحاد السوفيتي ، وثلاثة ملايين في أوكرانيا ومليونان وربع في بولندة وثلاثة أرباع المليون في فرنسا وثلث مليون في بريطانيا ( 10 ) . كتب ويليم شيرر عن هذا اللقاء : (( وقد دعا هايدريش إلى اجتماع ضم ممثلي كافة الوزارات المختلفة والوكالات المتفرعة عن الحزب النازي والفرقة لخاصة ، وعقده في وانسي ضاحية برلين الجميلة في العشرين من كانون ثاني عام 1942م ، وقد لعبت الوقائع المدونة لهذا الاجتماع دوراً مهماً في بعض المحاكمات الأخيرة التي أقيمت في نورمبرغ ، وعلى الرغم من النكسات الراهنة التي منيت بها القوات المسلحة الألمانية في روسيا فقد اعتقد الموظفون النازيون أن بلادهم قد كسبت الحرب وأن ألمانيا ستتحكم عما قريب في جميع انحاء أوربا بما فيها انكلترا وإيرلندا ، ولهذا فقد أبلغ هايدريش هذا المؤتمر الذي ضم نحواً من خمسة عشر موظفاً من كبار الموظفين أن نحو من أحد عشر مليوناً من اليهود سوف يشملهم الحل النهائي للمشكلة اليهودية في أوربا )) ( 11 )
هذه الأجواء هي التي فرخت السلاح النووي الإسرائيلي قبل أن يولد في صحراء النقب ، فأفران الغاز في آوسشفيتز هي التي قادت إلى أفران المفاعل النووي في ديمونا . ولكن جرت العادة أن العقل يتعطل عن التفكير في الرعب الشديد والحزن الشديد وهذا ماحصل للعقل اليهودي المعاصر المحاصر بذكريات الإعدام الجماعي وغرف الموت بالغاز !!
******************************
لم يمر اجتماع ( المدراشا ) بدون معارضة سواء أخلاقية أم تقنية ، خاصة من أولئك الذين عاشوا ( الهولوكوست ) فكيف سيحرقون الناس وهم قد ذاقوا العذاب الأكبر قبل ذلك ؟! وقد صدرت عدة أفكار معوقة لفكرة الانطلاق النووي ، منها النفقات المرعبة التي سوف تمتص خيرة العقول ( بلغت 15000 دكتوراة ) وأفضل الأيدي الماهرة ، وزبدة الصناعات ، وجبلاً من الدولارات ، ثم في سبيل سلاح لن يستخدم ؟؟ هل هناك حماقة أكبر من هذا ؟! وكان من الأوراق المهمة التي قدمت في هذا اللقاء ورقة تقدم بها دماغ مهم هو ( بنيامين بلومبرغ ) تفيد أن العرب لن يصلوا للسلاح النووي قبل 25 عاماً ، كما ورد عائق تقني آخر برز في عدم توفر جهاز القاذفات الاستراتيجي فضلاً عن غياب نظام الصواريخ الذي سوف يحمل الرؤوس النووية . لذا انتهى الاجتماع على ثلاث خيارات بين متابعة البحث العلمي ، وإيجاد قطع تجميع السلاح ، أو توليد القنبلة وتخزينها ليوم النبأ العظيم ؟؟ وهذا الذي كان .
*************************
بدأ حفارو القبور النوويين بالعمل الصامت في إزاحة مئات الأطنان من التربة في صحراء النقب لايراهم إلا الغربان في السماء ، وحشرات النهار وأفاعي الليل البهيم ، يبنون طبقاً تحت طبق حتى بلغت ثمانية . كانت التقنية الفرنسية تصب عصارة فكرها وأحدث تقنياتها ، وكانت الطائرات الأمريكية المتقدمة ( يو - 2 ) تصور وترى وتتشكك في طبيعة هذه الحركة الدؤوبة في غبار الصحراء وقيظ الشمس ، ولكن الإدارة الأمريكية كانت بين من يغض الطرف ومشجع ومتذمر إلا أنه لم يكن هناك أمر لإيقاف هذه العمل أو التأكد منه بجدية .
وفي عام 1986 روى رجل اسمه ( فانونو ) كان يعمل بصفة فني في المفاعل النووي الإسرائيلي خبراً مثيراً عن طبيعة العمل في مفاعل ( ديمونا ) وزعم أن عنده صوراً التقطها بنفسه ( 57 صورة ملونة ) لكل أجزاء المفاعل ، عندها ادرك العالم أن الدولة العبرية قطعت أشواطاً بعيدة في إنتاج السلاح النووي ، وكلف هذا فانونو أن تصطاده الموساد في لندن ويحكم بالسجن لمدة 18 عاماً . وفي عام 1991 نشرت مجلة الشبيجل الألمانية الصورة التفصيلية بطوابقها الثمانية لـ ( الرحم النووي ) في ديمونا . بعد الهجوم الثلاثي على مصر وانسحاب إسرائيل من سينا ، قايضت فرنسا قبول إسرائيل بقبول الانسحاب مقابل بناء مفاعل نووي يشبه مفاعل ( ماركول ) الفرنسي الذي يعمل في جنوب وادي الرون . وبدأ المشروع يغلفه السرية والصمت المطبقين . وفي أوائل عام 1968 بدأ إنتاج البلوتونيوم بمعدل 2.1 كغ اسبوعياً ، وبذا أصبحت إسرائيل قادرة على إنتاج مالايقل عن خمس قنابل نووية سنوياً وكانت من النوع الانشطاري في المرحلة الأولى . ومع مضاعفة الجهد لبناء المزيد من القنابل النووية امتلكت اسرائيل في مطلع عام 1970 مالايقل عن عشرين رأس نووي ، وفي الثمانينات امتلكت حوالي مائتي رأس نووي ، ثم مشى التطوير في نفس بانوراما القوة الدولية من إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة سواء في اتجاه التكبير أو التصغير .
وكما كان المفاعل يبنى تحت الأرض ، كان هناك وفي نفق آخر في منطقة ( هربات زكريا ) وبمساعدة تقنية فرنسية ( شركة داسو ) يتم تطوير نظام الصواريخ (( ذهل يغال ألون لما رآها وصرخ : كنا نحارب البريطانيين في عام 1948 برشاش صغير وهاهي اسرائيل تبني صواريخ نووية ، إننا شعب عظيم ، لقد انبعثنا أحياء بعد أن كنا أمواتاً ، في جيل واحد فقط أصبحنا مقاتلين . إننا سبارطة عصرنا )) ( 12 ) هل ماقاله يغال ألون صحيحاً ؟؟ في الواقع لقد تحول داوود إلى جوليات المدرع بعد مرور ثلاثة آلاف سنة !!
*************************
وفي الوقت الذي كانت الرؤوس النووية تنضج في إسرائيل لتحمل من النقب إلى حيفا حيث تركب تهيأة ليوم الفصل ؛ يوم شمشون الجبار ، كان العالم يمضي في طريق القوة بكل عنف ، وإذا أردنا أن نأخذ بانوراما للاستراتيجية النووية الجديدة ، فإنها تبدأ مع قنبلة هيروشيما ، حيث تم إلقاء قنبلة انشطارية من قوة ( 15 ) كيلو طن ، أي ( 15 ) ألف طن من مادة ت . ن . ت شديدة الانفجار ويمكن تقسيم رحلة الصعود النووي إلى المراحل التالية :
1 - كانت البداية مع السلاح الانشطاري بشكليه ( اليورانيوم ) و ( البلوتونيوم ) ، ويتم استخلاص اليورانيوم ( 235 ) من خام اليورانيوم ( 238 ) إلا أن البلوتونيوم ( 239 ) هو تركيبي وتم الوصول إليه من خلال المفاعل النووي الذي نجح في إنشائه للمرة الأولى الإيطالي ( انريكو فيرمي ) والقنبلة التي أُلقيت على هيروشيما كانت قنبلة يورانيوم ( 235 ) ( سميت الولد الصغير وحجمها بقدر اسطوانة الغاز الكبيرة ) وبدون تجريب ، في حين أن قنبلة ناغازاكي كانت قنبلة البلوتونيوم ( 239 ) وأخذت اسم ( الرجل السمين ) بسبب انتفاخها ، وبلغ وزنها 2 طن واختلفت تقنيتها تماماً عن قنبلة الولد الصغير ، وهي التي جربت في صحراء نيو مكسيكو ، في منطقة ( ألاموجوردو ) وأعطيت لقب ( ترينتي ) أي الثالوث المقدس !! وكانت القدرة التدميرية لاتزيد عن عشرين ألف طن من مادة الـ ت . ن . ت . لكلا القنبلتين ، ومع تركيب المفاعل النووي أصبح هذا ( التنور ) يخرج من ( الأرغفة النووية ) مايشاء !! فلاغرابة أن أصبح مخزون الدولتين العظميين مايزيد عن خمسين ألف رأس نووي تكفي لتدمير الكوكب الأرضي عدة مرات !!
2 _ مشى التسارع بعد ذلك في اتجاه زيادة القدرة التفجيرية بعد أن وصل الاتحاد السوفيتي إلى تفجير قنبلته الانشطارية الأولى عام 1949 وأعطاها لقب ( جو 1 ) نسبة إلى جوزيف ستالين ، فجُن جنون البنتاغون واستدعوا ( ادوارد تيللر ) للمضي في مشروع جهنمي كبير لاتعتبر القنبلة الانشطارية أمامه بشيء ، في الحين الذي تم استدعاء الرأس العلمي ( روبرت اوبنهايمر ) للتحقيق تحت شبهة تهريب المعلومات النووية للسوفيت وتهمة الجاسوسية .
وفي آذار من عام 1954 تم تفجير قنبلة بقوة 18 ميجاطن ( أقوى من قنبله هيروشيما بألف مرة !! ) فقنبلة هيروشيما متواضعة جداً فهي من عيار ( 18 ) كيلو طن أي ألف طن ، أما هذه فهي من عيار ( مليون طن ) من المادة المتفجرة ، كان بإمكان هذه القنبلة الجديدة مسح عاصمة عالمية من خريطة الوجود ، مثل دلهي أو طوكيو إلى درجة إصابة الناس بأشد انواع الحروق ( درجة ثالثة ) حتى بعد 45 كم من مركز الانفجار ؟! وتُوج تصعيد التفجير في عام 1958 بتفجير قنبلة سوفييتية من عيار 58 ميجاطن أي أقوى من قنبلة هيروشيما ب( 3800 ) مرة !! وفكر البنتاغون بمشروع أشد هولاً ( تفجير قنبلة بعيار 100 ميجاطن ) ، ولكن الطرفان شعرا أنهما يمضيان في طريق الجنون المطبق !!
3 - في المرحلة الثالثة تم الوصول لما اعتبروه قنبلة نظيفة وماهي بنظيفة ( القنبلة الشعاعية النيوترونية ) حيث يمكن الفتك بالوحدات العسكرية ( البشر ) دون المعدات والأبنية والمنازل لإنها أثمن من الإنسان !!
4 - في المرحلة الرابعة بدأوا في اتجاه تصغير القنبلة فبدلاً من الكيلو طن ؛ ليكن عُشر الكيلو وهكذا تم انتاج قنابل من عيار 30 - 100 طن من المادة المتفجرة ، وبذلك بدأ السلاح الناري العادي والنووي في الاقتراب من بعضهما ، أي بروز السلاح النووي التكتيكي ، ويمكن لهذه ( التفاحات ) الصغيرة أن تُقذف بمدافع الميدان المخصصة لها ، وظن الاستراتيجيون أنهم اكتشفوا البديل ولكن باتصال العالم النووي بالعالم العادي ، بدا العالم العادي التقليدي مهددا بالزعزعة ، فأي نزاع يتطور عبر الأسلحة ( التقليدية ) يمكن أن يتزحلق إلى استخدام ( بدايات ) السلاح النووي ( التكتيكي ) ليصل في النهاية إلى السلاح النووي ( الاستراتيجي ) تحت مبدأ ( التصاعد الآلي ) الذي أشار إليه المنظر والخبير الاستراتيجي النووي الجنرال ( بيير غالوا ) ( 13 )
5 - كانت الحاجة ماسة إلى ( نظام نقل ) للرأس النووي ، لذا قام الروس الذين استفادوا من خبرات نظام الصواريخ الألماني في ألمانيا الشرقية التي وقعت تحت سيطرتهم ، والتي كان قدوضع هتلر فيها مراكز أبحاثه بعيداً عن قاذفات الحلفاء ، في تطوير نظام القاذفات الاستراتيجية وأهم منها النظام الصاروخي ، ومع إرسال ( اسبوتنيك ) الأول عام 1957م والذي يحمل القمر الصناعي الروسي أصبح بالأمكان حمل رأس نووي بدلاً من قمر صناعي !! وحمي الوطيس في تطوير الصواريخ العابرة للقارات ، وفي النهاية أمكن وضع جهاز هجومي يمكن أن يصل إلى أي مكان في الكرة الأرضية خلال دقائق !! فالغواصات النووية السوفيتية الرابضة في قيعان المحيط الهادي والاطلنطي كان يمكن أن تصل إلى أي هدف في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة أقصاها 4 - 6 دقائق .
6 - كان التكتيك الأول هو ( الهجوم ) فتحول إلى ( الدفاع ) ثم بطل كلاهما وشرح ذلك كما يلي : ففي الهجوم يمكن تحقيق الضربة الاستباقية وإبادة الخصم ، ولكنن تبين أنه مع السلاح النووي يمكن للخصم المضروب ، أن ينتقم وهو يغرغر في سكرات الموت النووي بما تبقى عنده من صواريخ ليأخذ معه إلى الدمار النووي خصمه المهاجم ، كذلك بدأ الخوف من احتمال الخطأ كما لو شعر أحد الطرفين وبخطأ من خلل راداري أن هناك هجوما ً عليه ، مما يجعله يحرك صواريخه التي لن يستطيع سحبها كما في القاذفات الاسترتيجية التي يمكن أن ترجع إلى قواعدها ، فالصواريخ حققت السرعة الخيالية ولكنها إذا ضربت لن تسحب ، فبرزت عقيدة ( الانتظار النووي ) للتأكد من الهجوم الصاروخي النووي ، حتى يتم الرد عليه كي يذهب الاثنان إلى الفناء النووي !! ولكن بأربعة شروط : 1 - الصواريخ المضادة المحمية 2 - التمكن من اختراقات العدو المهاجم 3 - الكمية الكافية 4 - العمل الآلي . ومن أجل تأمين حماية الصواريخ تم تطوير ثلاثة أنظمة الأول : ( السيلو ) أي الفتحة المختبئة في الأرض فلا ترى ، وليس هذا فقط بل خرسانة مسلحة لسبعين متر ويزيد تحيط بالصاروخ النووي ، بحيث لاتؤثر فيه حتى الزلازل ، ولذا وجب على الصاروخ المهاجم أن يضرب فوهة ( البئر ) النووي المختبيء في الأرض وبقنبلة هيدرجينية ، حتى يمكن تعطيل أسلحة الهجوم عند الخصم ، ومن هنا ندرك عمق كلام ( شينتارو ايشيهارا ) الياباني الذي كشف النقاب في كتابه ( اليابان الذي يستطيع قول لا لأمريكا ) حين أشار إلى علاقة دقة تصويب الصواريخ بالكمبيوترات التي تصنع في اليابان . الثاني : المنصات المتحركة والثالث المحمول في الغواصات النووية .
ومن خلال هذا الاستعراض السريع الذي كتب فيه الاختصاصيون كتباً وأفنوا اعمارهم يمكن عرض حزمة الأفكار التالية :
1 - الفكرة الأولى تقول : إن علينا استيعاب العصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فهم الاستراتيجية النووية ، ورحلة القوة النووية . وأن العصر ( الحراري النووي ) هو عصر جديد مختلف كلية ولم يعد عصر الكهف والهراوة ، ولا عصر المدفع والبارجة ، والذي تفطن لهذا هم العلماء ولا السياسيون ، لإن كثيراً من السياسيين لايرون أبعد من أرنبة انفهم ، وهو ماانتبه إليه غورباتشوف في كتابه ( البيروستريكا ) فطرح فكرة ( الانتحار النووي ) فلم يعد الأمر بحاجة إلى أن أُهاجِم أو أُهاجَم يكفي أن أفجر أسلحتي النووية فوق رأسي كي يتلوث سطح الكرة الأرضية وأن تدمر الحياة ، وإن في قصة ( شيرنوبيل ) لعظة . وهكذا أبطلت القوة القوة وبدأ الإنسان يضع قدمه في أول طريق السلام التاريخي ، وهكذا رأت أعين الجنس البشري وللمرة الأولى توقف الحرب بين الذين يملكون ( المعرفة ) سواء امتلكوا السلاح أو فقدوه ، وأصبح الذين يملكون المعرفة بالتالي يتحكمون في مصير الحروب ، وأصبحت الحروب أساليب العاجزين ، عجزاً عن السيطرة عليها والتمكن من خاتمتها .
2 - الفكرة الثانية تقول : أصبح السلاح النووي مثل ( الصنم ) الذي لايضر أو ينفع ، فالناس يعظمونه ويهابونه ، وهو سلاح ليس للاستخدام ، ثبت هذا في أحلك الظروف وأكثرها احتياجاً ، مثل حرب ( كوريا ) و ( فيتنام ) ، وماحدث مع بني إسرائيل في هذا الصنم هو ماحدث مع السامري الذي أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى !!
3 - الفكرة الثالثة تقول : أن المضي في رحلة التسلح ستنتهي بالإفلاس والارتهان للآخرين كما حدث مع الاتحاد السوفيتي الذي يفكك سلاحه الذري ، ويبيع البلوتونيوم ، ويصدر علماء الذرة ، وأن الذي طلَّق القوة هو الذي يبني المستقبل ويكتسح الأسواق كما في نموذج اليابان .
4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن الصراع العربي الإسرائيلي كان ومازال ( معركة حضارية ) ، فالانتاج النووي يحتاج لقاعدة تكنولوجية علمية متقدمة ، وهزيمة الجيوش العربية المتكرر أمام اسرائيل هي هزيمة الشرق أمام الغرب المتفوق تكنولوجياً ، لإن إنجاز اسرائيل وعقول اسرائيل هي غربية كانت ومازالت ، وليست اسرائيل أكثر من امتداد ( جيب ) غربي للمنطقة .
5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن مشكلة العالم العربي هي ليست اسرائيل بالدرجة الأولى فهي ليست أكثر من ( ميزان حرارة ) لكشف حرارة الجسم العربي المعتل ، ومايخيف أكثر من الخراج الإسرائيلي وسلاح شمشون هو النزاع العربي العربي ، وفي اللحظة التي يشعر فيها الغرب أن العالم العربي نهض كما نهض الصين فسوف يتخلى عن فورموزا الشرق الوسط .
6 - وتقول الفكرة السادسة : إذا كانت هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة فلماذا تنتج ؟ هل يجهلون أنها لاتضر ولاتنفع ؟ أغلب الظن أنهم يعرفون كل أبعاد اللعبة ، ولكن الذي لايعرف ينقلب إلى الأشياء المسخرة ، والذي يعرف قانون تسخير الأشياء هو الذي يتسخر له الكون أشياؤه وأناسيه يقول المفكر ( فؤاد زكريا ) في كتابه ( خطاب إلى العقل العربي ) : (( ويظل بعد ذلك سؤال محير هل هم يجهلون هذا ؟ أغلب الظن أنهم لايجهلون ، وإنهم على وعي بأن الحرب التي يهيئون أنفسهم لها مستحيلة ( عقلياً ) ، مادامت تؤدي إلى عكس المقصود منها ، بل إنهم على وعي بالمأزق الفكري لعملية التسلح النووي في عالمنا المعاصر ، ذلك المأزق الذي يتمثل في أن هذا التسلح إذا حقق أهدافه بنشوب الحرب ، فسوف تقضي هذه الحرب على النظام الذي هيأ لها الظروف الملائمة ، أما إذا لم يحقق أهدافه ولم تقم الحرب فسوف يكون معنى ذلك أن صناع الأسلحة وتجارها قد أرغموا العالم كله على ارتكاب أكبر عمل جنوني في تاريخه ، وهو أن يستنزف أثمن موارده البشرية والمادية في إنتاج ( لعب ) مميتة لن يستخدمها أحد . وأغلب الظن أن هذا بعينه هو المقصود : فأسلحة الدمار الشامل تنتج من أجل الإنتاج ، لامن أجل الاستخدام ، لإن الإنتاج عملية مربحة إلى أقصى حد ، أما الاستخدام فسيكون الجميع خاسرين ، ومن هنا كان واجبنا نحن شعوب العالم الثالث أن نحدد موقفنا من هذه المسألة مادمنا نعيش في عالم ينفق على إنتاج تلك اللعب المميتة ، لإننا أكبر الخاسرين بسبب هذا الجنون اللامنطقي الذي يرغمنا صناع الأسلحة وتجارها على أن نقبله وكأنه حقيقة أساسية من حقائق الكون) (14)
الهوامش والمراجع :
( 1 ) ( المدراشا ) مجمع الموساد ( الاستخبارات الاسرائيلية ) جنوب تل أبيب ( 2 ) ( الفانن زي _ WANNENSEE _ ) بحيرة برلين وهو المكان الذي اجتمع فيه أقطاب النازية في مطلع عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية لاستئصال اليهود من العالم ( 3 ) ( تيطس ) القائد الروماني الذي دمر الهيكل عام 72 م ( 4 ) الهولوكوست أصبح تعبيراً معروفاً عن محرقة اليهود في التاريخ وبخاصة معسكرات الإبادة النازية ( 5 ) في إحدى مقابلات كيسنجر مع القادة الاسرائيليين قال لهم : إن أمريكا غير عازمة على خوض حرب عالمية ثالثة وأنها ثانياً لن تخاطر بشن حرب عالمية ثالثة من أجل إسرائيل وثالثاً يعرف الاتحاد السوفييتي ذلك . راجع سيمور هيرش \ خيار شمشون مكتبة بيسان ص 140 ( 6 ) يراجع في هذا كتاب ( سجناء العالم الذري ) الذي يزعم مؤلفه وهو يحمل نفس اسم ( اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع النووي في لوس آلاموس باستثناء أن الاسم الأول لصاحبنا المزعوم ( ايرفين ) والحقيقي في مشروع ( مانهاتن ) هو ( روبرت ) من أن الألمان انتجوا ثلاث قنابل نووية وهي التي ألقيت على اليابان !! ولم يثبت هذا تاريخياً ( 7 ) سفر القضاة - العهد القديم ص 408 - 409 وقصة الماسادا انتحر فيها 900 من اليهود المحاصرين دفعة واحدة أثناء هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيطس عام 73 بعد الميلاد ( 8 ) ( هملر ) رئيس الجستابو الاستخبارات النازية و ( هايدريش ) مساعده الأيمن و ( أوزفالد بول ) الحاكم النازي البولندي وأحد الرؤوس الإجرامية في الحرب العالمية الثانية ، كانت نتيجة الثلاثة بالانتحار للأول والاغتيال للثاني والشنق للثالث راجع تاريخ ألمانيا الهتلرية - وليم شيرر - الجزء الرابع ص 52 ، وأما العلماء الثلاثة اليهود المذكورين فهم الرؤوس العلمية التي تسلمت رئاسة المشروع النووي بالتالي ( 9 ) استخدمت الكلمة الألمانية بالضبط ( تنظيف ) = SAUEBERUNG ) وهناك من فلول النازيين اليوم من نسمع خبر إحراقهم للأجانب كما هي في حادثة إحراق العائلة التركية أخيراً في ألمانيا !! ( 10 ) تاريخ ألمانيا الهتلرية جزء 4 ص 63 ( 11 ) شركة ( سان غوبان ) الفرنسية هي التي بنت المفاعل النووي الاسرائيلي بقوة 24 ميجا واط ، وكان يعمل بقوة أربع إلى خمس أضعاف طاقته أي حتى 120 ميجاواط أما شركة ( داسو ) فقد بنت لهم نظام الصواريخ _ راجع كتاب سيمور هيرش \ خيار شمشون ( 12 ) سيمور هيرش ص 138 ( 13 ) كتاب استراتيجية العصر النووي - الجنرال بيير غالوا \ ترجمة اللواء الركن محمد سميح السيد \ دار طلاس \ ص 10 .( 14 ) عن كتاب ( خطاب إلى العقل العربي ) - فؤاد زكريا - كتاب العربي - ص 164 .