جاء في كتاب (القوانين) لافلاطون:( إن ارتكب أحد إثماً ضد قوانين التناسب فأعطى شيئاً كبيراً للغاية الى شيء صغير للغاية ليتولى حمله مثل تزويد سفينة صغيرة للغاية بشراع كبير للغاية، وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية، وإضفاء سلطات واسعة للغاية على نفس صغيرة للغاية ؛ لو تم ذلك لكانت النتيجة وبالاً تاماً. ففي صورة الحمق يسرع الجسم البطن صوب المرض، في حين يندفع المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق)(كتاب القوانين لافلاطون ص 691 نقلاً عن مختصر دراسة التاريخ لتوينبي الجزء الثاني ص 102 ـ الادارة الثقافية ـ ترجمة فؤاد محمد شبل)
وليس هناك حماقة أكبر من الحرب ومع ذلك فإن البشر يخوضونها ومازالوا. إن لم يكن ضد البشر فليكن ضد الحجر كما فعل الطالبان في أفغانستان ضد تمثال بوذا الشاهق وكان بإمكانهم الاستفادة منه للسواح البوذيين ولكن هذا يذكر بقصة الأصمعي مع الغلام حين قال له ماتقول يا غلام أعطيك الف دينار على أن تكون أحمقا؟ فكر الغلام ثم قال لاياعماه! قال به ويلك إنها ألف دينار! أجاب الغلام: لأنني أبذرها وأبقى أحمقا.
ويذكر المؤرخ البريطاني (توينبيToynbee) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) نموذجين عن تدمير النزعة الحربية فأما الأولى فهو نموذج الدولة الآشورية التي ماتت مختنقة في درعها. وأما الثاني فهو (تيمورلنك) الذي خلّد اسمه في التاريخ بالفظاعات.
قال توينبي: (شخصية عسكرية اقترفت من الفظائع طوال فترة الأربعة والعشرين عاماً من حكمه مثلما اقترفه الملوك الآشوريون خلال مائة وعشرين سنة. إننا لنتخيل المجرم الذي سوَّى مدينة اسفراين بالأرض عام 1381 وكدس خمسة آلاف رأس بشرية في المآذن في زيري في نفس السنة. وطرح أسراه من لوريستان أحياء من أعلى المنحدرات عام 1386. وذبح سبعين ألف شخص وجمع رؤوس القتلى في هيئة مآذن في اصفهان عام 1387. وذبح مائة ألف أسير في دلهي عام 1389. ودفن أحياء اربعة آلاف جندي مسيحي من حامية سيواس عقب القبض عليهم عام 1400. وابتنى عشرين برجاُ من جماجم القتلى في سوريا عام 1400 ـ 1401.
إن تيمور جعل ذكراه تختلط بذكرى غيلان السهب مثل جنكيزخان وأتيلا وأترابهما. وإن جنون العظمة التي جعلت تيمور يصاب بجنون التدمير قد تحكمت فيه فكرة واحدة مدارها الايحاء الى المخيلة الانسانية بأدراك قوته الحربية عن طريق الاساءة إلى البشر إساءة منكرة. كما عبر الشاعر الانجليزي (مارلو) على لسانه: إن جوبيتر وقد رآني في السلاح قد بدا ممتقعا كئيبا خشية أن تنزعه قوتي من عرشه. تجلس ملايين النفوس على شواطيء العالم السفلي ترقب رجعة قارب شارون. إن جهنم ودار النعيم تزخران بأشباح الناس الذين أرسلتهم من ميادين القتال المختلفة لينشروا شهرتي عبر جهنم وحتى السماء)( نفس المصدر ص 120).
إن هذه الفظاعات عند نماذج من طراز إيفان الرهيب الذي حاصر مدينة (كييف) وسوَّرها كي لايفلت أحد ثم قتل جميع أهلها البالغ عددهم سبعين ألفاً، ثم قتل زوجته وابنه وأقرب الناس إليه تروي كارثة أبعد من عمل الثقافة. إنها تروي مرض الفرد (النفسي) عندما يعجز المجتمع عن ردعه ليقود في النهاية من خلال حلقة مفرغة مفزعة عكوسة لاتكف عن الاتساع الى تدمير مجتمع أو تعديل مسار التاريخ على نحو مؤسف، كما أوقف (تيمورلنك) مسيرة الاسلام في أوراسيا وأوربا.
إننا بحاجة إلى مزيد من فهم الانسان حتى نتجنب الكوارث. من هنا انصب التفكير على فهم عمل الدماغ؛ فليس هناك من بوابة لفهم الانسان غير الدماغ، وكل مايحدث في العالم هو انطباع التفكير على الواقع في إسقاط تاريخي.
واليوم تعكف الأبحاث العصبية على فك أهم تركيب على الاطلاق. وإذا كان القرن العشرين حقق انجازاته في الفيزياء؛ فإن القرن الواحد والعشرين سيكون للبيولوجيا.
إن مدرسة (علم النفس التحليلي) اكتشفت عمقاً مخيفاً في تركيبة الدماغ وهو عالم (اللاوعي) الذي يتحكم في 95% من تصرفاتنا من حيث لانشعر أمام 5% من الوعي الذي يظهر على السطح مثل ضوء المنارة على شاطيء المحيط. وإن اختبار (ستافورد ـ بينيهStaford-Binet) الذي وضع اختبار الذكاء (IQ) لم يعد يعتد به أمام كشف (هوارد جاردنر) الذي طرحه في كتابه (أطر العقل Frames of Mind) عام 1983 وأن العمليات المنطقية والرياضية واللغوية لاتمثل إلا بوابة صغيرة من فهم الذكاء الانساني، ليقترح سبعة أبواب جديدة لكشف القارة المجهولة فينا، ثم ليقفز الرقم عام 1993 الى عشرين بوابة، لينتهي إلى أن الذكاء الانساني غير محدود ولايمكن تطويقه في اختبار. وأن اختبارات الذكاء ليست إلا مسابر لقياس عمق محيط لانعرف قاعه حتى الآن، وكوكب لانحيط به علما، ويبدو أن المسافة أمامنا طويلة لفهم التركيب الانساني.
واليوم بعد فك الشيفرة الوراثية عند الانسان في مشروع (الجينوم البشري) يبدو أن العمل الفعلي بدأ الآن لفهم الخلطة السحرية التي تكون البيولوجيا عندنا. ويخطيء كثيراً من يظن أن (الجينات) هي رقم محدد لوظائف محدودة وعندما نعلم أنها (شبكات عمل) نصاب بالذعر، وأن اكتشافها يعني رفع الستار عن جبل تضرب قممه في غمام المعلومات. من جينات تتشابك لتكوين لغة جديدة حروفها ليست سبع وعشرين حرفاً بل 40 ألفاً (حسب تقديرات مشيو كاكو في كتابه عقول المستقبل).
ومنه جاءت عبارة (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) في القرآن عن هذا التعقيد.