رحلة السلاح الذري لم تبدأ في لوس ألاموس بل في مخطوطات ديموقريطس الذري. أضع بين يدي المجموعة رحلة الجزء الذي لايتجزأ: رحلة الجزء الذي لا يتجزأ.
كان الزوجان (ويسل مان) (Wieselman) قد قضيا عطلة نهاية الأسبوع في مدينة ستافورد الأمريكية في ولاية أريزونا وقبل شروق شمس يوم الاثنين الموافق السادس عشر من شهر تموز يوليو من عام 1945- قبل نصف قرن من الآن- توجها إلى ولاية نيو مكسيكو يقصدان مدينة (الباسو) في أقصى الجنوب على الحدود المكسيكية، كان الظلام مخيماً يلف الجبال المحيطة برداءه الأسود، وأنوار مصابيح السيارة تشق الطريق الاتحادي رقم سبعين، وفجأة أشارت السيدة ويسل مان إلى زوجها أن ينظر إلى رؤوس الجبال المحيطة بالطريق!! التفت السيد ويسل مان ليرى وهو لا يكاد يصدق عينيه أن لون الكون بدأ في التغير، وأنارت رؤوس الجبال باللون البرتقالي فأصبحت ذرى الجبال واضحة ثم اشتدت الإضاءة وخلال ثواني أنارت الدنيا وكأنها رابعة النهار، لم يعرف الزوجان المدهوشان تفسير هذه الظاهرة التي استغرقت فترة قصيرة ثم عاد الظلام كما كان، وعندما نظرا إلى الساعة كان الوقت يشير إلى الخامسة والنصف صباحاً. لاحظ هذه الظاهرة السماوية أناس من مناطق شتى قريبون من منطقة لوس آلاموس وكانت منطقة ملاحظة الزوجان ويسل مان تبعد عن مكان هذه الظاهرة العجيبة 250 كم مائتان وخمسون كيلو متر، واحتار الناس في تفسير هذه الظاهرة بين مذنب ضرب الكرة الأرضية إلى درجة اختلال النظام الكوني وبزوغ الشمس مضاعفة عند ذلك الصباح؛ فطبيعة الإنارة وقوتها كانت كونية رهيبة، ثم تفت إشاعات مفادها أن مستودعاً كبيراً للسلاح تفجر، وكانت البلاد في حالة حرب مع اليابان.
(اسطوانة الغاز) السحرية:
وفي نفس صباح يوم الاثنين ومع ضباب الفجر تحركت البارجة انديانابوليس من ميناء سان فرانسسكو في رحلة تبلغ 9000 تسعة آلاف كيلو متر باتجاه جزيرة مغمورة قريبة من الفيلبين هي جزيرة تينيان. كان على ظهر البارجة ما يشبه (اسطوانة الغاز) الكبيرة الحجم لا يزيد قطرها عن ستين سنتمتر وارتفاعها عن متر ونصف قيل لقبطان البارجة إنها سلاح لا يعوض ويجب أن تحرس هذه الاسطوانة السحرية على مدار الساعة وفي حال تعرضت البارجة للخطر يجب إنقاذ هذه الاسطوانة قبل أرواح البحارة، كل ما عرفه ربان الباخرة عن اسمها أنها تدعى (برونكس) ويجب إيصال هذه الأمانة الغالية إلأى جزيرة تينيان في المحيط الهادي حيث يربض أكبر مطارات العالم.
ومن المصادفات العجيبة أن قبطان البارجة تفادى ما أمكنه خطر الغواصات اليابانية وطوربيداتها المدمرة، ونجح في الوصول إلى الجزيرة وتسليم الأمانة وفي 26 تموز من عام 1945 وفي طريق العودة تعرضت البارجة لطوربيد قاتل، هوت على إثرها إلى قاع البحر في مدى 12 دقيقة فقط وعلى ظهرها 1196 بحاراً لم ينجو سوى 315 (13)رجلاً وأما البقية فكانوا وجبة شهية لسمك القرش!!
وفي نفس يوم كارثة البارجة انديانابوليس انطلقت طائرة نقل من نوع (C_54) تحلق أيضاً فوق أمواج المحيط الهادئ باتجاه جزيرة تينيان وعلى متنها العالم الذري ريمر شرايبر (Raemer Schreiber) وق وضع في حجره حملاً لا يتجاوز سبعة كيلو غرامات، يتلألأ كالذهب، كان شرايبر مكلفاً بنقل هذه القطعة الذهبية إلى قاعدة تينيان لمهمة أكبر، فبعد خمسة أيام من وصوله (8) نقلت الطائرات الحربية الأمريكية قطعاً لاحقة، وقام السيد شرابير بتركيب هذه القطع بكل حذر بعضها ببعض، وأما الرأس الذهبي الذي كان في حضنه في الطائرة فجلس في قلب هذه القطع وبعد الانتهاء خرج شكل يشبه البيضة الكبيرة في ارتفاع قامة رجل متوسط الطول.
القاذفة اينولا-جاي (Enola-Gay):
قضى طاقم الطائرة Enola Gay عطلة نهاية الأسبوع (8) بعد أن شحنوها بالقنابل كالعادة، ولكن الطائرة القاذفة من نوع 29-ب ادخل إليها هذه المرة نموذج قنبلة مختلف، ولم يتم اخبار الستيوارد (طاقم الطائرة) عن حقيقة القنبلة الجديدة، وإنما تم التنبيه المؤكد عليهم أن هذه القنبلة ليست ككل القنابل، فإذا رميت فوق المدينة عليهم أن ينطلقوا بعدها إلى كبد السماء ولا يلتفت منهم أحد خلفه(13)، كل ما عليهم بعدها أن يصوروا الانفجار.
هيروشيما و(النار ذات الوقود):
في الساعة الثامنة والربع من صباح يوم الاثنين الموافق 16- آب حلقت الطائرة (اينولا- جاي) فوق مدينة هيروشيما اليابانية وألقت بحمولتها ثم هربت إلى الأعالي وصورت باهتمام النار المشتعلة التي تأكل أجساد البشر في أسفل سافلين وتحصد أرواحهم ، وخلال ساعات صعق العالم للنبأ الجديد الذي دشنه العلماء وأشرف عليه العسكريون في مختبر (لوس آلاموس) في ولاية نيو مكسيكو بأمريكا، فالسلاح الذي استعمل هذه المرة لم يكن نارياً تفجيرياً، بل كان ذرياً انشطارياً، ومع انفجار القنبلة الذرية من نوع (الولد الصغير) فوق هيروشيما والتي كانت محشوة باليورانيوم المحض (235) مائتان وخمس وثلاثون، ثم نوع الرجل السمين (Fat Man) والتي كانت مزودة بالبلوتونيوم (239) والتي كانت من حصة مدينة ناغازاكي بعد ثلاثة أيام في 9 أغسطس-آب 1945 أدرك الجنس البشري أنه دخل حقبة جديدة، وتشكل انعطاف نوعي في امتلاك القوة، ذلك أن كلتا القنبلتين اللتين انفجرتا مسحت مدينة كاملة من خارطة الوجود وأرسلت إلى العالم الآخر أرواح عشرات الآلاف من الناس في عشرات الثواني، فالانشطار الذري هو مفصل تاريخي في تصعيد القوة في تاريخ الجنس البشري، والذي لم يره أو يعاصره سوى جيلنا الحالي فقط.
عندما سمع الزوجان (ويسل مان) نبأ انفجار القنبلة الذرية فوق هيروشيما أدركوا عندها تلك الظاهرة السماوية التي كانوا الشهود الأوائل فيها، كما أدركوا أنهم شهود عصر جديد في تاريخ امتلاك القوة.
النموذج الذري للكون:
كيف انشطرت ذرة اليورانيوم؟ ولماذا أحدثت كل هذا التدمير؟ بل لماذا تملك كل هذا الجبروت من القوة التي لا ترى؟! فالعالم نسي لمدة 2400 ألفي وأربعة مائة سنة النظرية الذرية بعد وفاة الفيلسوف اليوناني ديموقريطس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وانطلق بتصوراته عن هذا العالم أنه مكون من لبنات أساسية هي (الذرات الأولية) وأطلق عليها اسم (أتوم) a tom بمعنى أنها الجزء الذي لا يتجزأ، فالجو السائد في حينه أن مكونات الكون هي أربعة: الماء والتراب والنار والهواء، ولكن الفيلسوف ديموقريطس مضى أبعد من ذلك فقال أن نفس التراب أو الماء مكون بدوره من لبنات أصغر، كل ما في الأمر أننا لا نراها بأعيننا.
أقول: هذا الوصف للكون الذي تخيله ديموقريطس اختفى عن الفكر الإنساني وعاد للحياة مرتين (الأولى) على يد فلاسفة الإسلام من المعتزلة والاشاعرة وأهل الحديث على حد سواء، حيث مضى المعتزلة إلى فكرة (الجزء الذي لا يتجزأ) في حين اعتبر ابن حزم الأندلسي أن (الجزء يتجزأ) وابن حزم يمثل المدرسة الظاهرية في علم الحديث كما نعلم.
ويمكن أن نشير إلى العقل الجبار لإبراهيم بن سيار النظام الذي وضع قدميه على أول طريق (ميكانيكا الكم) عندما أشار إلى فكرة (الطفرة) أو (الوثوب) في مشكلة المكان- الزمان (5)، وكان الإحياء الثاني للنموذج الذري للوجود هو الفتح العلمي في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي.
فيلسوف الذرة:
الفيلسوف اليوناني ديموقريطس عندما تخيل الكون أنه مكون من لبنات أو وحدات أساسية هي الذرات اعتبرها غير قابلة لمزيد من التجزئة؛ فقبضة التراب التي نمسكها بيدنا، أو لقمة الخبز التي نلوكها، أو شربة الماء التي نرشفها بل حتى زفرة الهواء التي نقذفها مكونة من أعداد رهيبة من هذه الذرات، وهو سبق مدهش في التفكير الإنساني فالعلم الحديث يقدر أن الزفرة الواحدة من تنفسنا البالغ حوالي العشرين مرة في الدقيقة يحوي عشرة مرفوعة إلى القوة 24 من عدد الذرات أي يحمل الزفير الواحد مليون مليون مليون مليون ذرة وهذا يعني أن تنفس وزفرة ضفدع واحد مات قبل ملايين السنين يرجح أن ما دخل حلقه من بعض الذرات نتنفسها نحن اليوم بل وحتى زفير الديناصورات التي انقرضت قبل 65 خمس وستين مليون سنة (3).
ويبقى السؤال هو كيف وصل هذا الفيلسوف المشبع بالحكمة إلى هذا التصور وبالطريقة النظرية البحتة؟
العالم الأصغر:
كان أمام العالم رحلة تبلغ الألفي عام ويزيد قبل الدخول في العالم الأصغر ذلك أن حواسنا لا تتناسب مع عقلنا، فنحن نشتهي أن نرى أكثر فأكثر ولكن عيوننا لا ترى إلا شقاً بسيطاً من هذا الكون الفسيح.
نحن نظن أننا نرى الكثير، ولكننا ومن خلال النظام الموجي للمرئيات والذي ينقله شعاع الضوء نرى- ودماغنا الذي يرى ويفسر في الواقع- من خلال النبضات الالكترونية، عبر العصب البصري، الذي ينقل انطباع المرئيات على الشبكية في قاع العين، نرى الطيف اللوني فقط الذي يصبح لوناً أبيضاً بامتزاجه، وهو يتراوح بين موجات اللون الأحمر الطويلة والبنفسجي القصيرة، وكلها في مدى يتأرجح بين 390 و 760 ميلي مكرون، للموجة الضوئية (13)، هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار أن الميكرون هو واحد من المليون من الملمتر الذي يشكل بدوره جزء من الألف من المتر القياسي.