عصر الانحطاط العربي في القرن 21 (2)  بين العالم الأول والعالم الرابع 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

وهكذا ففي الوقت الذي دخل العالم القرن العشرين بقدر كبير من التفاؤل بقدر ما يدخله اليوم بكثير من عدم الثقة. والجدير بالذكر أنه وفي الأول من يناير عام 1901 جاء في افتتاحية جريدة «شيكاغو تريبيون» على الشكل التالي: «أن القرن العشرين سيكون قرن الإنسانية والأخوة لكل البشر وسيفوق في عظمته كل اكتشافات العلم وانتصارات الفن التي سبقته» والذي ظهر أن القرن العشرين كان قرن الحروب العالمية والأوبئة مثل أنفلونزا 1918 التي قضت في أربعة أشهر على البشر أكثر مما قضت الحرب العالمية على الجنود في أربع سنوات. وفرخت العنصرية والنازية والفاشية والديكتاتوريات العسكرية بالانقلابات (ومن هذه اللعنة شرب العالم العربي كؤوسا دهاقا). وفيه ولد حق الفيتو مثل أي كائن مشوه لا يصلح لحل مشاكل العالم سوى خدمة نادي الأقوياء، وتعطيل وتعضيل ولادة العدل في الأرض.

والآن يتفق العديد من المفكرين مثل المؤرخ (ايرك هوبسباوم Eric Hobsbawm) من جامعة لندن، والفيلسوف نوربرت بولتس Norbert Bolz من جامعة إيسن من ألمانيا وعالم التاريخ رولف بيتر زيفرليه Rolf Peter Sieferle من جامعة برلين أن القرن الحالي أفضل ما يوصف فيه أن «البشرية مقبلة على عهد تزداد فيه الفوضى» وأنه على حد قول (هوبسباوم) كما في كتابه الشهير «عصر التطرف» «أنه لا توجد أي قوة عظمى بما فيها الولايات المتحدة أن تسيطر وتنظم العالم، وأن الكون في فوضى عارمة». وهو بذلك يولد ولادة جديدة لا يتجرأ أحد على التنبؤ بها فقد علمنا التاريخ مصير مسيلمة الكذاب والصحاف العراقي وجوبلز النازي وأحمد سعيد الناصري.

لقد كتب الأمريكي ادوارد بيلامي Edward Bellamy عام 1888 قصته المثالية بعنوان (العالم عام 2000). توقع أن يكون العالم «خالياً من الطبقات تعمه الأخوة، بدون سيارات وطائرات وقنابل نووية، يساق للناس رزقهم عبر شبكة هائلة من الأنابيب بالعشي والإبكار». واليوم بعد مرور أكثر من قرن على أحلام الكاتب بيلامي نعرف أنها لا تزيد عن هلوسة.

ونشر قسيس مجهول اسمه توماس مالتوس عام 1798 بحثاً قصيراً بعنوان «تزايد السكان وأثره في مستقبل نمو المجتمع» تنبأ بكارثة اجتماعية أمام تكاثر السكان وفق سلسلة هندسة أمام زيادة الغذاء وفق سلسلة حسابية (الحسابية 2-4-6-8-10 وهكذا والهندسية هي 2-4-8-16-32-64-128-256-512- 1024) ورأى أن الحل سيكون أحد أمرين: المجاعة أو الحرب أو كلاهما معاً. وحين كان يتكلم عن عدد السكان في الأرض كان العدد لا يزيد عن مليار إلا قليلا (عام 1803 كان عدد ساكنة الأرض مليار واحد ـ ومع بداية عام 2022 اقترب من 8 مليارات ويزداد يوميا مائة ألف أو يزيديون) واليوم وصل الرقم إلى الثمانية مليارات بدون مجاعة وحروب مهلكة من أجل الغذاء كما زعم صاحبنا مالتوس.

وكرس البنتاغون معاهد خاصة لدراسة المستقبل اسمها «مستودعات التفكير ThinkTanks» ظهر أن أخطاء التنبؤ فيها تزيد عن 80%. أما (هيرمان كان) رئيس معهد «راند» للدراسات المستقبلية فقد توقع لعام 2000 أن لا يجد سوى 70% من الأمريكيين عملاً! وتوقع (رافي بترا) كسادا مزلزلاً للاقتصاد العالمي عام 1989 على أساس الأزمة الدورية التي تحيق بالنظام الرأسمالي كل ستين سنة، وقدم نصائحه للناس بأن يستعدوا لدخول سبع سنوات عجاف اشد من سنين يوسف. أما (هاري فيجي) و(جيرالد سوانسون) فقد ذهبا إلى أفظع من هذا في كتابهما «الإفلاس الأمريكي عام 1995» بقولهما «لن يبق للولايات المتحدة التي نعرفها اليوم أي وجود بحلول عام 1995». وانطلقا في هذه النبوءة التي رجت مفاصل الناس من فكرة مفادها أن الديون الأمريكية ستصل على صورة عصا الهوكي إلى مقدار 13 تريليون دولار بحيث يدخل الاقتصاد الأمريكي حالة اللاعودة كما في الصدمة اللامرتجعة عند الإنسان – Irreversible Shock».

وفي الطب توقعت وزيرة الصحة الأمريكية عام 1982 الوصول إلى حل لمرض الإيدز في أربع سنوات. واليوم وبعد مرور أكثر من أربعين سنة على التصريح لا يوجد لقاح ضده. ويحمل هذا المرض اليوم أكثر من 33.4 مليون إنسان مات منهم 14 مليونا، وفي أمريكا وأوربا 1.4 مليون مصاب بالمرض.

إلى أين يمضي التاريخ ومن يستطيع أن يتجرأ فيقول إلى أين يمضي؟ الشيء الأكيد أن التاريخ يمضي بخطى تقدمية على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. والشيء الأكيد أن العالم العربي يعيش عصر الانحطاط ولم يتغير كثيرا عن عصر كافور الأخشيدي. وأن الشمس طلعت من مغربها. و«إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». والسؤال ما هو هذا الذي بأنفسنا ويحتاج للتغير؟

تقول الرواية أن طفلاً نزقا أراد أن يعلمه والده ضبط النفس فقال له كلما غضبت اثقب في الجدار ثقبا بطرق مسمار فيه ففعل وكانت كثيرة ومريعة. قال له أبوه: عندما تكف عن الثقب ارفع مسمارا عن كل يوم لا تغضب فيه ففعل. وبقي فترة طويلة حتى رفع كل المسامير. نظر الطفل فرأى أن الجدار زالت منه المسامير وبرز محلها فوهات لانهاية لها من آثار الثقوب. استحى الطفل في نفسه فقال له أبوه: قد نكف عن الغضب ولكن الإهانات التي نفعلها مع الناس تبقى ندبات لا تزول مع زوال نزواتنا، وهذه هي قصة العرب اليوم. فلو بكى أحدنا بقدر نهر دجلة فلن يعيد قتيلاً إلى الحياة. وللعلم فإن قتلى نظام البراميلي في سوريا فاقت المليون مالم يتله بنو صهيون في كل حروبهم مع العرب على كل الجبهات!

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram