حين احتشد 7700 عالم في أعظم تظاهرة علمية في برلين على مشروع بناء الحاسوب الأعظم فبعد عام 2020 م سيقف الكمبيوتر الحالي عند عتبة من انهيار قوانين الفيزياء
في ربيع عام 1925م أصيب (فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg) المحاضر في جامعة (جوتنجن) بنوبة شديدة من الحساسية فهرع إلى جزيرة (هليجولاند) في بحر الشمال للعلاج. وهي جزيرة مواجهة لمدينة (فليهلمسهافن) حيث كنت أتخصص في الطب، وكانت ميناء بحريا في عصر القيصر غليوم (يسمونه غليوم وهو فيلهلم). أما مدينة (جوتنجن Goettingen) فهي مدينة جامعية صغيرة في الشمال أنجبت عبقريات شتى، وكنت على وشك العمل فيها في جراحة الأوعية الدموية فلها في قلبي الذكرى.
كان هايزنبرغ يومها يبلغ 23 عاماً ومنكب على فهم التركيب الداخلي للذرة (العالم الأصغر Microcosmos). يقول هايزنبرغ إنه جاءته ليلة حاسمة فارقه النوم وبقي يسهر على المعادلات الرياضية حتى كانت ساعة السحر. عندها انجلت الأمور أمام عينيه. ويشبِّه تلك اللحظة أنها كانت كمن هو غارق في بحر من الضباب فقد الاتجاهات وفي لحظة انقشع الضباب فرأى المسير. يقول: فعرفت أين أنا؟ (wo ich bin). غادر هايزنبرغ غرفته وصعد إلى سفح جبل يتأمل ثبج البحر الأخضر حتى صعد قرص الشمس آتون من قلب الأمواج. من الملفت للنظر عن هذه اللحظة التاريخية تكررت مع الكثيرين. مع حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وشامبليون وديكارت وباسكال. الأول في رحلة الإيمان واليقين. الثاني في فك شيفرة اللغة الهيروغليفية. الثالث في وضع المنهج التحيلي بأربع درجات. الرابع في ليلة الامتحان الأعظم.
بالنسبة لهايزنبيرج كانت هذه اللحظة التاريخية التي غيرت العالم وما زالت، فقد اجتمع 7700 عالم في برلين في مارس 2005م في الذكرى السنوية للقاء (الجمعية الفيزيائية الألمانية DPG =Deutsche Physicalische Gesselschaft) يبحثون (عالم الكوانتوم) الذي كشف عنه النقاب هايزنبرغ قبل ثمانين سنة. ولم يحدث أن اجتمعت في مكان واحد مثل هذه التظاهرة الفريدة التي تضم ألمع الأدمغة العلمية في أوربا.
ومن استمع لهم ظن أنه في بابل من المصطلحات العلمية مثل: (الأوتار الفائقة) و(بداية العالم والانفجار العظيم) و(ثنائية الضوء) و(حقيقة الواقع) و(طبيعة الزمن) و(ما هو الشيء الذي تتكون منه كل الأشياء؟).
إننا على ما يبدو نتحدث مثل السحرة حتى الآن أو ما يلقب به (أنتون تسايلنجر Anton Zeilinger) من (فيينا) الذي أدهش (الدلاي لاما) وهو يلعب بالضوء، فيخفيه من مكان ليلمع في مكان آخر، مثيرا فكرة ولادة الفوتونات من لاشيء، أو مذكرا بمفاجأة نقل عرش ملكة سبأ بتحويله إلى أشعة؟ وهي التجربة التي حققت له سمعة مدوية قبل سبع سنوات عن (الحزم الضوئية Beamexperiment) فهو كل يوم في مؤتمر ومحطة فضائية يستعرض مع فريقه فكرة الكوانتوم وكأنها السحر، ويتكلم في كل شيء من الفيزياء إلى الفلسفة، ويحب الاستشهاد بالفيلسوف النمساوي (فيتجنشتاين)، وقد تكون له زيارة إلى السعودية، وأهم شيء فعله هذا الرجل في عالم الكوانتوم النقل البعيد للفوتونات(Quantenteleportation).
إن (ميكانيكا الكم) يعتبر من أكثر العلوم غرابة وطرافة وشذوذا، حيث تتكسر الحتمية، ولا يبق مكان للواقع الموضوعي، ويسود قانون الاحتمالات، وهو ما عبر عنه (هايزنبرغ) مع (بول ديراك) البريطاني وهما يدشنان هذا العلم منذ عام 1928م بقانون (اللايقين Uncertainity Principle)، وأذكر أنني قرأت تفسير الظلال في الستينات عند قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فوقف (سيد قطب) وقفة طويلة يتكلم عن (العقلية العلمية) و(العقلية الغيبية) ويستشهد بمفاهيم الكوانتوم بدون إشارة إلى علم ميكانيكا الكم، الذي كان قد تأسس قبل أربعين سنة من كتابته، فعرفت أن قمم الفكر الإسلامي لم تعرف العصر بعد؟
ولد مفهوم الكوانتوم على يد العالم الألماني (ماكس بلانك Max Planck) الذي وضع قانونا لوحدة الطاقة ولعل أهم ثوابت الكون هي وحدة ماكس بلانك وسرعة الضوء، وكان ذلك عام 1900 م ولم يعترف العلماء لبلانك إلا بعد أربعين سنة، وهي نفس قصة (لوي باستور) مع الجراحين الذين رفضوه لأنه كيمياوي، وهو الذي دخل إلى عالم الميكروبيولوجيا، فأماط اللثام عن الوحدات المرضية من عالم الجراثيم، وطور لقاح الكَلَب.
وفي مدى قرن حدثت قفزات في مفهوم الكوانتوم قلبت شكل العالم الحديث، وتبدأ القصة من (آينشتاين) الذي فهم الضوء وفق كمات الكوانتوم، فالضوء من وجهة نظره ليس موجات كهرطيسية بل جزيئات من الطاقة، ومع أن آينشتاين كان من مهد الطريق لمفهوم الكوانتوم، ولكنه بكل أسف انقلب عليه حينما رأى غرابة هذا العالم الذي يتملص من قبضة القوانين إلى فوضى الاحتمالات، وكل يوم هو في شان، فعارض المفهوم، وحزن لذلك هايزنبرغ الشاب، ويومها قال آينشتاين: إلى أين أنت ذاهبون؟ إن خالق الكون ليس مقامرا يلعب بالنرد؟
وفي عام 1913 استطاع الدانمركي (نيلز بور) الاستفادة من مفاهيم الكوانتوم ليطور (موديل) الذرة، وأن الإلكترون يدور في مدارات لا تتجاوز السبعة، وتخضع لقانون 2ن2، وأنه يقفز كموميا من مدار لآخر فيمتص أو يعطي الطاقة ومعها اللون، وهو الذي قاد إلى تفسير ظاهرة إشعاع الجسم الأسود، الذي بدأ رحلة فهمه بلانك، حين رأى أن الجسم الأسود الذي يتسخن تتغير ألوانه بالتدريج من الأسود إلى الأحمر ليصل في نقطة إلى الأبيض.