في عام (1099 م) قبل أن يختم القرن الحادي عشر بعام واحد بالضبط، كانت مدينة القدس تعيش أزمة مروعة لسكانها المحاصرين الجياع، فالعصابات الصليبية المفلسة كانت تجتاح منطقة آسيا الصغرى والشرق الأوسط مثل الجراد المدمر، وتذبح سبعين ألفاً من سكان القدس في الشوارع، وينشغل العالم الاسلامي في حرب (كماشة) تجتاحه من الشرق والغرب بوقت متقارب. ذراع الكماشة القادم من الشرق كان الإعصار المغولي (تدمير بغداد 1258م) وذراع الكماشة الغربي كانت أوربا الفقيرة القذرة. فأما الاعصار المغولي فتم امتصاص زخم اندفاعه، وتحويله الى رصيد اسلامي (النهضة التيمورية في الهند) وأما ذراع الكماشة الغربي فقد قام بحرب لم يعرف لها الجنس البشري حتى الآن نظيراً، ولعله لن يعرف في المستقبل حرباً تدوم (171) عاما بسبع حملات عسكرية يقودها ملوك أوربا الأميُّون. يضاف لها حملة ثامنة عام 1948 ببناء مملكة بني صهيون.
وعندما كان الملك الفرنسي لويس العاشر يفدي نفسه من الأسر الذي سقط فيه في المنصورة، كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يظن أنه أنهى الغارة الصليبية على العالم الاسلامي، ولم يعرف أنها قد بدأت فعلاً في ذلك الوقت، ولكن من زاوية لاتخطر على بال أحد، ولاتوحي مظاهرها بذلك.
سقوط مدينة طليطلة كمؤشر لانكسار الميزان التاريخي:
إن انكسار الميزان التاريخي بين الشرق والغرب بدأ في الواقع قبل مذبحة القدس بأربعة عشر عاماً (1085 للميلاد) عندما سقطت العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية ( طليطلة ـ توليدو حالياً TOLIDO) بيد الفونسو السادس بعد حصار دام سبع سنوات. وعندما ارتعب ملوك الطوائف وارتجفت مفاصلهم فرقاً على عروشهم البئيسة أمام الزحف الاسباني القادم، هُرعوا باتجاه المغرب الى الدولة القوية المرابطية جديدة الولادة، فاستنجدوا بملك المرابطين (يوسف بن تاشفين) ليقول المعتمد بن عبَّاد حاكم اشبيلية يومها، وهو يرى الخيار الصعب في زوال دولهم بين مطرقة الاسبان وسنديان المرابطين: إن لم يكن بد من التحول الى طبقة الخدم والعبيد وفقدان الملك، فأن أرعى جمال المرابطين أحبُّ إلي من رعي خنازير الاسبان.
كان (المعتمد بن عبَّاد) شريفاً على كل حال في اتخاذ مثل هذا القرار المصيري التاريخي. وبقي قبره في (أغمات) خارج مراكش، يروي حسرات الأسير وشعره الباكي .. مات (المعتمد) قهراً وغماً في الأصفاد بعد موت حبيبته وأم أولاده (اعتماد) التي شاركته المحنة، فبكاها بحرارة روَّى فيها تربتها بالشعر المبلل بالدموع، ودفن بجانبها، فقبرهما المشترك نزلا فيه ضيفين على الأبدية يروي قصة الشعر والحب والحرب.
معركة (الزلاقة) وأثرها في مصير الجزيرة عام 479 هـ ـ 1086م:
في عام (1085 م) سقطت (طليطلة) وفي عام (1086 م) كان سيف العجوز يوسف بن تاشفين ذو الثمانين عاماً، ينزل كالصاعقة على رؤوس الاسبان فيحطم تجمعهم في معركة (الزلاَّقة) ولكن ابن تاشفين يدرك فوراً بعد دخوله الجزيرة أنه لن يستطيع إيقاف مسلسل الأحداث، وأن المسلمين خسروا زمام المبادرة التاريخية، فالجسم الاسلامي مريض، وطليطلة لا أمل في استعادتها، وأبناء الجزيرة الاندلسيين تحولوا الى أيتام في مأدبة اللئام، وكان المرض الأموي القديم قد فعل فعله وآتى أكله أيضاً في الجزيرة، منذ أن نجح في إيقاف المسيرة الراشدية في العالم الأسلامي، وتحويل الدولة الاسلامية الى امبراطورية بيزنطية، فاستوى المرض وبدأ الجسم الاسلامي في الترنح والسقوط، بفعل انهيار جهاز المناعة الداخلي قبل الهجوم الاسباني بفترة طويلة.
معركة (الزلاقة) في عام 479 هـ الموافق 1086م التي دارت رحاها على حدود دولة البرتغال الحالية، حَجَّمت الامتداد الاسباني ومسحت دول الطوائف الهزيلة التي عاشت لجيلين لمدة ثمانين عاماً (399هـ ـ 479 هـ) في ضربة واحدة، وفرملت السقوط النهائي للاندلس لمدة أربعة قرون لاحقة، حتى جاء موعد كسوفها مع كريستوف كولمبس عام 1492 م.
بعد سقوط طليطلة صمدت الجزيرة حتى مرحلة وفاة الفيلسوف (ابن رشد) الذي مات عام 1198م للميلاد بعد أن كافأه أهل مدينته بالطرد مرتين، مرةً من المسجد هو وابنه وكانت من أحزن ما لاقاه، ومرة بنفيه الى قرية (الليسانة) اليهودية، ليقضي فيها بقية عمره وهو في السبعين من العمر.
وعندما نضب العقل الاسلامي الجماعي الى هذا القدر الحزين، جاءهم الطوفان الاسباني هذه المرة، ليمسح مدينة قرطبة بالكامل بعد موت الفيلسوف بجيل واحد فقط ( 1238م)، وليطرد أهل قرطبة كلهم من المسجد، ويُدخل في مسجدها الجامع بشكل محشور عجيب، مثل الشوكة في اللحم. كنيسة مصطنعة لايصلي فيها أحد ومسجد يؤمه السواح فقط.
كل من يمر اليوم في قرطبة يبكي عند المحراب الذي لايصلي فيه أحد، والكنيسة الخرساء التي يحدق فيها السواح الأوربيون بنظرة بلهاء بدون معنى، ويتأمل العربي المسلم وجوه أهل قرطبة فيتذكر أهل دمشق. قبل توحلها وتحولها إلى مملكة قرود. هذه المرة لايسمع اللغة العربية ولا الأذان ويتعجب من اختفاء أمة كاملة من خريطة الوجود.
نقطة التحول التاريخية (منتصف القرن الثالث عشر الميلادي)
إن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يسجل كارثتين غير معقولتين للعالم الاسلامي ودفعة واحدة وبفاصل عشر سنوات، ففي عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الاسلامي (اشبيلية) وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي، بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد الحصادة المغولية القادمة من الشرق. ويخرج خليفة أعزل سمين حاسر الرأس لمقابلة جزَّار دموي من طراز (هولاكو) يناشده الحفاظ على 700 من الجواري اللواتي لايعرفن ضوء الشمس.
وكما جلس العباسيون على جثث الأمويين النازفة المغطاة بالسجاد، يأكلون عشاءً فاخراً، ويشنفون آذانهم بسماع ألحان حشرجة أنات الموتى الأخيرة، فإن حياة آخر خليفة عباسي كانت في كيس (خنشة = جوال خيش) يقضي نحبه على نغم طبل مختلف، بالخنق والرفس بالأقدام، ويساق الوزراء وأعضاء الأسرة الحاكمة والأعيان والفقهاء الى مقبرة المنظرة فيذبحون كالشياه، وتنعي بغداد يومها حوالي ثمانمائة ألف قتيل، وتتحول أكوام الكتب الى جسر يصلح لمرور الجندي التتري على نهر دجلة. إن التدمير المغولي خاصة لشبكة الري في جنوب العراق، والذي قامت عليه حضارة سومر، لم يصلح حتى يومنا الحالي.