مصير الحرب .. إلى أين ؟ (3) 

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

يقول غورباتشوف (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف أخرى وتكتسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلام ، فالوظيفة السياسية للحرب كان تبريرها عقلانياً أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ففي النزاع النووي لن يكون هناك رابحون وخاسرون لإن الحضارة العالمية سوف تفنى فالنزاع النووي ليس حرباً بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )) ( 9 ) وانتبه الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) إلى هذا التحول النوعي منذ عام 1956 م فأشار إلى أن الخيار المفتوح أمام الجنس البشري هو بين الموت والحوار وبأن عصر التسلح قد ولى ؟!  

وإذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة وراوندا ، في اذربيجان والشيشان ؟؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف لتسمع الإجابة فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين .

إن هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذي شرحناه وقدمناه . وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من حديقة الفكر :

( 1 ) تقول الفكرة الأولى : إن العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين ، الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه ، وطورت كل الأسلحة التي تخطر على البال ولاتخطر ، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) أي أنه لاسبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة ، وفض النزاعات عن طريق الحروب ، ولذا توقفت عن استعمال القوة فيما بين بعضها بعضاً ، وهكذا اقتربت فرنسا وألمانيا مع كل العداوات التاريخية القديمة ، وتشكلت الوحدة الأوربية التي يزداد أعضاؤها كل يوم ، بحيث تتحول البحيرة الأوربية مع كل يوم إلى بحيرة سلام ، وأرض تفيض عسلاً ولبناً . والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثاً لارجعة فيها ، فهو وإن كان يعيش بيولوجياً في نهاية القرن العشرين ولكنه مازال يعيش عقلياً في القرن التاسع عشر ، فهي شريحة منتسبة إلى العهد العتيق ؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع أو التلمظ لـ ( صنم ) السامري الجديد ، سلاح شمشون الجبار ، القنبلة النووية ، التي يفككها من بدأ بصناعتها ، ويندم على مليارات الدولارات التي أنفقها في إنتاجها ، ويعلم علم اليقين أنها سلاحاً ليس للاستخدام ، فهي صنم السامري الذي له خوار ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ) ولكنه لايضر ولاينفع ولايملك موتا ولاحياة ولانشورا ، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد الظروف حلكة ً ، في حرب فيتنام وكوريا وسواه .

( 2 ) وتقول الفكرة الثانية : إن عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن فهناك تياران في العالم ، الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه ، بعد أن شعر أنه صنم لايضر ولاينفع ، وبدأ  يكتشف أن أعظم سلاح هو الانسان الجديد المسلح بالعلم والسلم ، فهما الجناحان اللذان سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل ، وتيار يكدس السلاح ويشتريه الليل والنهار ، بل والمضحك أكثر ، أن الفريق الأول يفكك السلاح الاستراتيجي فلايبيعه ، ويبيع السلاح السخيف ، فيقبض عليه أموالا وفيرة ، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف ودفع ( مليون مليون = تريليون ) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة ومازال ، كل ذلك بسبب هذه العمى التاريخي عن المتحولات الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه .

( 3 ) وتقول الفكرة الثالثة : إن هذه اللعبة العجائبية والمسلية ، يدركها أساطين السياسة ، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في العالم الغربي علم اليقين ، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن ، لقناعتهم الراسخة أنه في الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسرون امتيازاتهم ، ويتراجع مركزهم في العالم ، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة . ولذلك فإنهم يحافظون بل ويشعلون الحروب هنا وهناك ، لقناعتهم الكاملة أنها كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى الجديدة أن تبقى بعيداً عن الفهم الجديد ، ولذا فكل الحروب التي تشتعل هنا وهناك ، يجب أن نعلم أنها ليست تحت سيطرتنا ، بل تحت سيطرتهم ، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا بل بأيديهم ، فهم ينصرون من يرون أن من مصلحتهم نصره ، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم ، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج ،  كي تجري فيها جنباً إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين ، واللعبة هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي ، ولكن الملام الأكبر هو نحن المغفلين ،

( 4 ) وتقول الفكرة الرابعة : طالما هم الذين ( يدركون ) و ( يستطيعون ) فلماذا لايطفؤون الحرائق ، أو لايشعلونها على الأقل ، وجواب هذا هو أن العالم الذي نعيش فيه كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي يعيش حالة فراق بين العلم والقيم ، فالعلم شق الطريق إلى السلم ، كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة ، ولكن الذي حصل هو أن السياسيين مازالوا لم يقفزوا نفس القفزة النوعية التي قفزها العلم ، فهم مازالوا يريدون وضع  الطاقة الجديدة في القربة القديمة ،، فمسلمة ( كلاوسفيتز ) القديمة في فن الحرب ، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جدبدة ، قد طواها الزمن وأكلها العث ، ولكنها مازالت حية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد . ومن هنا فإن المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم ويتركون آثاراً بعيدة ، فلايظهر أثرهم إلا قليلاً في عصرهم الذي عاشوه ، فابن رشد مازال يعيش في ذاكرة التاريخ في الحين الذي لانذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها .

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram