مصير الحرب .. إلى أين ؟

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

قد يستغرب القاريء لو قلت له : إن زمن الحرب قد ولَّى وأننا نطأ بأقدامنا عتبة (عالم السلام) ونحقق علم الله القديم فينا ( 1 ) وسيعتبرني بعضهم مسرفاً في التفاؤل أو غير واقعي بل قد يرى البعض أنني أتكلم ضد التاريخ وأحداث العالم !! نعم قد يختلط هذا الأمر على كثير من الناس وهم يسمعون طبول الحرب ويرون فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة ، ولكن الغوص الصبور والتأمل الفاحص في بطن الواقع ، سيكشف الغطاء عن بصيرتنا ؛ أن هذه المظاهر هامشية وجانبية أمام زخم التدفق العام لحركة التاريخ ، فهذه الفرقعات هي بقايا فلول جيش منهزم أومحتضر في سكرات الموت ، فالعالم أصبح الآن وكأن رأسه في عالم السلام وقدماه ملوثتان في برك الدم وهو يخرج منها ، فدماغه مع العهد الجديد ، وأطرافه مازالت في العهد القديم ، وعدم تصديق هذا التحول النوعي الجديد يأتي من عدم حضور العالم و ( شهود ) مايحدث فيه ، والكهنة ( الجدد ) للعالم الصناعي يدركون تماماً أن سحرهم قد بطل وأن أصنام القوة لاتضر ولاتنفع ، ولكنهم يحاولون احتكار الامتيازات في العالم الجديد حتى الرمق الأخير .
مازلت أتذكر أحداث الشيشان حين هز الدكتور كامل رأسه متألماً على وضع مدينة (جروزني) وهي تتحول إلى أنقاض ويتصاعد منها رائحة البارود وتسقط في بركة دم . وعقبت زوجته قائلة : يحق لهم أن يدافعوا عن أنفسهم ؛ فالروس سمحوا باستقلال الكثير من الجمهوريات فلماذا يحرمون منها الشيشان ؟
إن صورة الدمار والحروب في بؤر التوتر والنزاع تشوش البانوراما ( الصورة الشمولية ) التي رسمناها عن مصير الحرب وزوال المؤسسة العسكرية ، فماذا نقول عن مذابح راوندا والبوسنة ؟ وصراع اذربيجان والأرمن ؟ والحرب الأهلية في الصومال وأفغانستان ؟ بل ماذا نقول أمام شهادة ( ويل ديورانت ) وهو المؤرخ الحجة في التاريخ الذي يقول في آخر كتاب صدر له : (( الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والاربعمائة سنة الأخيرة ( 3421 ) من التاريخ المسجل لاتوجد سوى ( 268 ) سنة بغير حرب))( 2 ) فعلى حساب ديورانت المذكور يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط ، لإنه مع كل دورة ( 14 ) أربع عشرة عاماً في التاريخ تلطخت ( 13 ) ثلاثة عشر عاماً منها بالدم الإنساني وسكت منجل ( عزرائيل ) ملك الموت سنة واحدة فقط ؟! فإذا أخذنا هذه الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة من مآسي التاريخ المروعة ، وجعبة التاريخ مليئة من مثل تدمير حضارة الازتيك في المكسيك على النحو الذي رسمه ( تزفيتان تودوروف ) في كتابه ( فتح أمريكا مسألة الآخر ) ( 3 ) حيث كشف النقاب بعد مرور خمس قرون ومن خلال استنطاق نفس النصوص التاريخية للغزاة الاسبان ( المبشر لاس كاساس ) عن إبادة ( 80 ) ثمانين مليون من أصل ( 100 مائة ) مليون نسمة كانوا يعيشون في الأمريكيتين ، تم إبادة معظمهم على يد الاسبان والبرتغاليين . أم ماذا نقول عن حصار قرطاجنة وذبح معظم سكانها على يد الرومان عام 164 قبل الميلاد وحمل ماتبقى منهم عبيداً إلى ساحات المجالدين لتسلية الرومان المتخمين ، أم ماذا نتكلم عن تراجيديا شعب ( الوبيخ ) من شعوب شمال قفقاسيا المجاورة لمنطقة الشيشان الحالية ، الذي لم ينقل إلينا خبره إلا رجل واحد فقط ، سجل النهاية المروعة لذوبان أمة بأكملها في قصة ( آخر الراحلين ) ( 4 ) بحيث تنقل لنا بوضوح مآساة شعوب شمال قفقاسيا في منتصف القرن التاسع عشر ، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسوريا ومصر ( 5 ) هذه القصة من قصص التراجيديا التي لاتقترب منها قصص التراجيديا العالمية بشيء ، لاقصة البؤساء أو قصة عاصفة وقلب ( 6 ) لــ ( فيكتور هوجو ) ، لاقصة ماجدولين للمنفلوطي ، أو قصص ديستوفسكي وتولستوي ، لإنها رواية شعب يفنى بكامله فلايبقى حتى من يقص خبر اختفاءه من سطح الأرض ، إنها ليست قصة عاطفية ومأساة فردية ، بل هي مصير أمة ونهاية شعب بالكامل ، إنها قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة ولايتركها إلا وقد بكى مرات ومرات .. وروعتها أنها ليست قصة من تأليف الخيال ، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل ، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه الإنسان .. إلى درجة أن البعض فكر أنه من الأفضل للانسان أن يهرب من المجتمع ويرجع إلى الغابة التي خرج منها مرة أخرى ، فثعابين الغابة ووحوشها أرحم من بطش الانسان وظلمه ... ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف الذين هربوا إلى الجبال ولجأوا إلى الكهوف ، لإنهم توقعوا شر ميتة فيما لو عادوا إلى قومهم ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ) كله بسبب الخلاف في الرأي ، حتى ضنوا بالكلب أن يعيش في ذلك المجتمع ، فمجتمع من هذا النوع ليس فيه الضمانات حتى للحيوان ؟! ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا ) ( 6 ) ولاغرابة في هذا الكلام فالمجتمع الإسلامي لاتموت فيه القطط جوعا والكلاب هرسا بدواليب السيارات ، بل يغفر الله لمن سقى كلباً عطشاناً ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت .
***********************
ولكن صبراً فهذه ليست القصة ولاكامل الجرعة ، فلابد من تملي الصورة جيداً ورؤية التاريخ الإنساني في ضوء جديد ... والسؤال الكبير والمحير والذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو لماذا الحرب ؟ كيف يقتل الإنسان أخيه الإنسان ؟ كيف نشأت الحرب وتطورت ؟ أين نشأت وماهي ظروف تكوينها الجنينية ؟ وماهي جذور العنف والحرب عموماً ؟ ثم إلى أين وصلت اليوم ؟ وماهو مصيرها في المستقبل ؟
**************************
إن الحرب هي التجلي الأعظم لإلغاء الإنسان أخيه الإنسان ، فعندما يختلف اثنان هناك طريقان لاثالث لهما لحل المشكلة القائمة بينهما ، إما محاولة التفاهم بحيث يغير الآخر موقفه من تلقاء نفسه وبقناعته الخاصة ، وإما باستخدام أساليب ( الاكراه ) للآخر بصور شتى لاتنتهي ، فالعنف يبدأ من الكلمة وينتهي بالرصاصة ، وأشكال السلوك العنيفة لاتنتهي من رفع الصوت وحدة النظر والتوتر والانفعال والتآمر والكراهية والغضب والحقد والخبث والضرب والأذية ، وتتوج في النهاية بالإلغاء الكامل والتصفية الجسدية ، فالحرب هي الصورة النهائية والتجلي الختامي لحذف الآخر الذي لانعترف بوجوده ، نحذفه من الوجود بالسكين والمسدس والقذيفة والسلاح النووي والكيمياوي؟! فهذه هي فلسفة الحرب وجذر العدوان .
***********************
الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة ، وتشكلت كخطأ ( كروموسومي ) مع بداية تشكل المجتمع الإنساني ، فمع الحضارة ولدت الدولة ونشأت المؤسسة العسكرية الذكورية ، ومع ولادة التخصصات في المجتمع وتطور التقانة نبتت العلوم العسكرية والتكنولوجيا الحربية ، وبتعانق هذا الثالوث المشؤوم ( المؤسسة + العلوم + التكنولوجيا ) ولدت الحرب من رحم العنف ؛ صغيرة ضعيفة لتكبر وتنمو بأشد من السرطان والغيلان ، بل إن مجتمعات بكاملها تحولت لفترة طويلة أو قصيرة إلى مجتمعات عسكرية بالكامل كما حدث مع مجتمع ( اسبرطة ) القديم والذي أصبح مضرب مثل السوء ، مقابل مجتمع ( أثينا ) مركز العلم والفلسفة والفنون . ومع تطور آلة الحرب وعلوم استخدامها ، وضخامة المؤسسة العسكرية واستفحالها وتغول الدولة ، تفجرت الحروب والصدامات كتحصيل حاصل وكنتيجة حتمية ، وكلها تحت ستار ( الدفاع ) عن النفس المشروع ، أو أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع ، وبآلية الاستعداد المزدوج للدفاع يتشكل برميل البارود الذي لايحتاج لأكثر من عود ثقاب كي يتفجر ، فكانت الحرب كما وصفها ( غاستون بوتول ) بنت الحضارة وقاتلتها بنفس الوقت ( 7 ) فالحروب قررت مصير العديد من الدول والامبراطوريات فارتفعت لتسقط بعد حين وبنفس الآلية .
************************
ومرت دورات الحرب لتفرز أسلحة جديدة تنفع سواء في الصدم أو الوقاية أو الحركة ، وهكذا طور الآشوريون العربة الحربية ، واستخدم هانيبال الفيلة ، وطور الاسكندر نظام الفالانكس ببراعة ، واستخدم الرومان نظام اللجيون بدقة وتفوق ، وفتح الاتراك القسطنطينية بالمدفع الجبار ، وحول كل من جنكيزخان وهتلر جيوشه إلى فرق محمولة سواء بالخيالة أو البانزر ( الدبابات ) ، ومع دخول النيران سقطت القلاع والحصون ، وبتطوير المدفع الرشاش هزم الانكليز دولة التعايشي خليفة المهدي في السودان ، كما حصد الرشاش أرواح مايزيد عن ستين ألفاً من خيرة الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى وفي 12 ساعة فقط ( معركة السوم ) ، ثم حصل التحول النوعي عندما انتشر الفطر النووي فوق سماء هيروشيما معلناً وصول الإنسان إلى سقف القوة ، ممتلكاً هذه المرة سلاحاً ليس كالأسلحة ، فهذه المرة وضع يده ودفعة واحدة على الوقود النووي وأصبح مصير الجنس البشري برمته مهددا بالفناء ، فمع تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي ( القنابل الحرارية النووية الالتحامية من عيار الميجاطن ) أصبح بالإمكان مسح عاصمة دولة عظمى تضم 20 مليون نسمة ؟؟؟!! وتحويل سطح الأرض في النهاية إلى مايشبه سطح القمر بدون شجر أو مدر ، وتحويل الكرة الأرضية إلى جمهورية من الأعشاب والصراصير والعقارب ربما ؟! .
*********************
تعتبر الحرب حسب تعريف المعهد الفرنسي لعلم الحرب أنها كارثة ذات ( 18 ) ثماني عشر وجه فهي : (( هيمنة وتأكيد مبدأ المانوية وعدم الاعتراف بالغير بل وإنكار وجوده واندلاع العنف وغياب الحق والمخاطرة بحياة الإنسان وتدمير الثروات المتنوعة وتكريس جميع النشاطات للمجابهات الدموية وأفضلية اللامعقول على المعقول والمطلق على النسبي في إطار عقلي شمولي ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة والفوضى واشتداد الأزمات والدم والعرق والدموع واللقاء الحتمي مع الموت وانقطاع أحمق يبرهن على فشل العقل والقلب )) ( 8 ) . مع كل صورة ( التنين ) ذو الألسنة النارية الثمانية عشر هذه كما تتكلم الأساطير ، فإن الإنسان يخطط لها ويبرمج ، ويسعى لها ويحفد ، يتدرب ويستعد ، فالثكنات العسكرية كلها للتدريب على قتل الإنسان أخيه الإنسان ، والأسلحة المرهفة الثاقبة والمفجرة قد أعدت بعناية فائقة لنسف الإنسان وتقطيعه ؟؟!!
********************
لعل أخطر مرضين أصيب بهما الجنس البشري هما ( الرق ) و ( الحرب ) فالحرب كانت تفرز الرقيق ، والرق كان ( الآلة القديمة ) فعضلات الإنسان كانت هي الآلة المستخدمة في حرث الأرض وحصد المحاصيل وتربية الحيوان والنقل وماشابه ، وبدخول الإنسان عالم الصناعة كان إلغاء الرق محصلة طبيعية ، فلولم يُلغ الرق قانوناً لألغته الآلة عملياً ، فاختراع الإنسان الآلة وفر الجهد البشري ، فكان تحرير الرق تابعاً لهذا التطور النوعي ، وبنفس هذه الآلية يزحف الإنسان ببطء إلى إلغاء المرض الثاني ( الحرب ) وكل توابعها وتأثيراتها على الإدارة والعلوم والفنون . وهذا التطور الجديد يحتاج بالتالي إلى فكر جديد فلم تعد أوعية الفكر وأساليبها العتيقة مناسبة للعصر النووي ، فلابد من استراتيجية فكرية مناسبة للتطور العلمي الجديد .
يقول غورباتشوف (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف أخرى وتكتسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلام ، فالوظيفة السياسية للحرب كان تبريرها عقلانياً أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ففي النزاع النووي لن يكون هناك رابحون وخاسرون لإن الحضارة العالمية سوف تفنى فالنزاع النووي ليس حرباً بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )) ( 9 ) وانتبه الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) إلى هذا التحول النوعي منذ عام 1956 م فأشار إلى أن الخيار المفتوح أمام الجنس البشري هو بين الموت والحوار وبأن عصر التسلح قد ولى ؟! ( 10 )
*************************
وإذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة وراوندا ، في اذربيجان والشيشان ؟؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف لتسمع الإجابة فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين .
إن هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذي شرحناه وقدمناه . وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من حديقة الفكر :
( 1 ) تقول الفكرة الأولى : إن العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين ، الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه ، وطورت كل الأسلحة التي تخطر على البال ولاتخطر ، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) أي أنه لاسبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة ، وفض النزاعات عن طريق الحروب ، ولذا توقفت عن استعمال القوة فيما بين بعضها بعضاً ، وهكذا اقتربت فرنسا وألمانيا مع كل العداوات التاريخية القديمة ، وتشكلت الوحدة الأوربية التي يزداد أعضاؤها كل يوم ، بحيث تتحول البحيرة الأوربية مع كل يوم إلى بحيرة سلام ، وأرض تفيض عسلاً ولبناً . والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثاً لارجعة فيها ، فهو وإن كان يعيش بيولوجياً في نهاية القرن العشرين ولكنه مازال يعيش عقلياً في القرن التاسع عشر ، فهي شريحة منتسبة إلى العهد العتيق ؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع أو التلمظ لـ ( صنم ) السامري الجديد ، سلاح شمشون الجبار ، القنبلة النووية ، التي يفككها من بدأ بصناعتها ، ويندم على مليارات الدولارات التي أنفقها في إنتاجها ، ويعلم علم اليقين أنها سلاحاً ليس للاستخدام ، فهي صنم السامري الذي له خوار ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ) ولكنه لايضر ولاينفع ولايملك موتا ولاحياة ولانشورا ، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد الظروف حلكة ً ، في حرب فيتنام وكوريا وسواه .
( 2 ) وتقول الفكرة الثانية : إن عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن فهناك تياران في العالم ، الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه ، بعد أن شعر أنه صنم لايضر ولاينفع ، وبدأ يكتشف أن أعظم سلاح هو الانسان الجديد المسلح بالعلم والسلم ، فهما الجناحان اللذان سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل ، وتيار يكدس السلاح ويشتريه الليل والنهار ، بل والمضحك أكثر ، أن الفريق الأول يفكك السلاح الاستراتيجي فلايبيعه ، ويبيع السلاح السخيف ، فيقبض عليه أموالا ً وفيرة ، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف ودفع ( مليون مليون = تريليون ) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة ومازال ، كل ذلك بسبب هذه العمى التاريخي عن المتحولات الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه .
( 3 ) وتقول الفكرة الثالثة : إن هذه اللعبة العجائبية والمسلية ، يدركها أساطين السياسة ، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في العالم الغربي علم اليقين ، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن ، لقناعتهم الراسخة أنه في الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسرون امتيازاتهم ، ويتراجع مركزهم في العالم ، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة . ولذلك فإنهم يحافظون بل ويشعلون الحروب هنا وهناك ، لقناعتهم الكاملة أنها كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى الجديدة أن تبقى بعيداً عن الفهم الجديد ، ولذا فكل الحروب التي تشتعل هنا وهناك ، يجب أن نعلم أنها ليست تحت سيطرتنا ، بل تحت سيطرتهم ، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا بل بأيديهم ، فهم ينصرون من يرون أن من مصلحتهم نصره ، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم ، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج ، كي تجري فيها جنباً إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين ، واللعبة هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي ، ولكن الملام الأكبر هو نحن المغفلين ، وتجربة البوسنة التي تمثل ( حي أوربي ) داخل أوربا لاتخرج عن هذه اللعبة المقيتة ، التي آخر ماينظر فيها مقياس العدل والحق ، وهذا واقع يجب أن نتعامل معه .
( 4 ) وتقول الفكرة الرابعة : طالما هم الذين ( يدركون ) و ( يستطيعون ) فلماذا لايطفؤون الحرائق ، أو لايشعلونها على الأقل ، وجواب هذا هو أن العالم الذي نعيش فيه كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي يعيش حالة فراق بين العلم والقيم ، فالعلم شق الطريق إلى السلم ، كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة ، ولكن الذي حصل هو أن السياسيين مازالوا لم يقفزوا نفس القفزة النوعية التي قفزها العلم ، فهم مازالوا يريدون وضع الطاقة الجديدة في القربة القديمة ، ولكن وضع ( الغاز ) في ( قربة جلد) تنتهي بتعفن الجو وكارثة تفجير ، كما هي في حروب السياسيين التي لاتنتهي ، ومايحتاجونه هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار إليه غورباتشوف ، فمسلمة ( كلاوسفيتز ) القديمة في فن الحرب ، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جدبدة ، قد طواها الزمن وأكلها العث ، ولكنها مازالت حية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد . ومن هنا فإن المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم ويتركون آثاراً بعيدة ، فلايظهر أثرهم إلا قليلاً في عصرهم الذي عاشوه ، فابن رشد مازال يعيش
في ذاكرة التاريخ في الحين الذي لانذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها .
إذا استطعنا أن نفهم هذه القضايا البسيطة والمصيرية فيمكن أن نصل إلى حل مشاكلنا بسهولة ، من توديع العالم القديم ، عالم الحرب والسلاح ، وأن دخولنا إلى دائرة النار تجعلنا تحت سيطرة الذي يفهم اللعبة ويحولنا فيها إلى مسخَّرات ( بالفتح ) تحت رحمته ، وسنبقى ندفع فواتير الدم والدموع وحفلات التهجير الجماعي وهدم المدن فوق رؤوس الناس بأيدينا وأيديهم كما وصف القرآن اليهود ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ) .
يقول المثل ( الله يطعمك حجة والناس راجعة ) عن الرجل الذي أراد أن يذهب إلى الحج ، عندما قفل الناس عائدين إلى بيوتهم ، فإن أبينا الا سلوك طريق القوة ونحن نرى الناس تعود منه منجفلة مذعورة ، تنفض عن كاهلها الغبار الذري وهي لاتصدق أنها مازالت على قيد الحياة فسوف نكون أحمق من هبنقة وأشعب معاً .
مراجع وهوامش :
( 1 ) تأمل الحوار بين الله ( جل جلاله ) والملائكة في سورة البقرة ، فالإنسان في نظر الملائكة متهم بأنه مجرم ومخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) في حين رأى الله تعالى فيه كائناً آخر (( إني أعلم مالاتعلمون )) ( 2 ) دروس التاريخ - ول واريل ديورانت - ترجمة علي شلش - دار فكر ص 155 ( 3 ) فتح أمريكا مسألة الآخر - تزفيتان تودوروف - سينا للنشر - ترجمة بشير السباعي - ص 143 ( 4 ) آخر الراحلين - رواية قفقاسية _ باغرات شينكوبا - ترجمة ونشر محي الدين سليق ( 5 ) تتناثر قرى ( الشراكسة ) في المناطق المذكورة وهي بقايا الهجرات المروعة لشعوب شمال قفقاسيا ولذا فإن الصراع الحالي في الشيشان هو استمرار القصة الأليمة السابقة ( 6 ) الكهف الآية رقم 18 ( 7 ) راجع كتاب الحروب والحضارات - المعهد الفرنسي لعلم الحرب - ترجمة أحمد عبد الكريم ( 8 ) المصدر السابق ص 28 ( 9 ) بيروستريكا - غورباتشوف - دار الفارابي - ص 199 ( 10 ) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية - جوناثان شيل - ترجمة موسى الزعبي - مكتب الخدمات الطباعية دمشق ص 14 (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد انتهى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة أو اختيار الموت ))

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram