ورطة التسلح في الثورات

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

جاءتني هذه الرسالة من أخ فاضل في مونتريال كندا وهو من أفضل من اجتمعنا بهم في المهجر من مثقف مميز يشتغل على أبحاث في غاية الأهمية هي ماذا جرى بعد ابن خلدون؟ هل كانت رحلة التيتانيك إلى القاع أم أن الأمة كانت في رحلة صعود وهبوط وثمة لحظات متألقة في تاريخنا. 

قال الرجل في رسالته: دكتور خالص أرجو أن تكون بخير وعافية في هذا الجو القاسي. لدي سؤال لحضرتك، أطال الله بعمركم ومتعكم بالصحة والعافية. ما هو الدافع الأساسي للإنسان للحياة؟ لماذا تكتب؟ لمن؟ وماذا تتأمل من ذلك؟ صراحة بعد المقتلة السورية لمدة عشر سنوات وجدت أن لا شيء تغير، لا في التفكير ولا في السلوك، ولا كأن شيئا قد حدث، كل كتابات الإصلاح والتغيير لم تنفع، ونصف قرن من كتابة حضرتك والشيخ جودت حول اللاعنف سقطت أمام أول رصاصة، لماذا نستمر في الكتابة والصراخ في هذه الصحراء؟

شاهدت فيلم همنغواي وهو يتحدث عن مشاركته في الحرب الأهلية الأسبانية، وكيف دُحرت القوات الديموقراطية والمتطوعين لنصرة الشعب الأسباني، وكيف انتصرت الفاشية، وأمسك فرانكو الحكم عاضا بأسنانه عليه، ودام هذا الوضع قريبا من أربعة عقود. دامت الحرب الأهلية الأسبانية ثلاث سنين (1936 ـ 1939) ومات فيها قريب من مليون إنسان، وجربت فيها أسلحة الحرب العالمية القادمة ولكن فرانكو بعد أن ذاق ماذاق من مرارة الحرب الأهلية لم يبق عنده متسع لا هو ولا أسبانيا لحرب جديدة ولذا اعتزل وبقي على الحياد في الحرب الكونية اللاحقة وكان عقلا منه وحكمة وهو العتل الزنيم. وماحصل في سوريا كان أطول من الحرب الكونية وهلك من الناس نسبة ومقدارا أكثر مما هلك من الأمم في الحرب الكونية، وهو يشهد سواء لأسبانيا أو سوريا أو الصومال ورواندا عن عبثية الحرب الأهلية وفظاعتها. وهكذا فالزمن يتدفق، والأقدار تتشكل، وفي النهاية يذهب الجفاء، وماينفع الناس يمكث في الأرض ويستمر خيرا وأبقى، ويذهب الطغاة إلى اللعنة وسوء الدار. وحاليا تتمتع أسبانيا بالديموقراطية ولاتذكر فرانكو إلا كما يذكر الطفل أيامه وهو يوسخ على نفسه، فيضحك أو يبكي سواء؛ فهي ضريبة عدم نضج الأمم، وفي القرآن قانون صارم أن الأمم تؤخذ بالعذاب فإما رجعت وأصلحت، وإما زيد من جرعة العذاب. فإن أصرت على نفس الخطأ هلكت، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. هذا القانون يتكرر في أكثر من موضع: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الكبر لعلهم يرجعون.

روى لي صديقي سفيان في مدريد كيف أن بعض أفراد المعارضة بقي متخفيا أربعين سنة تحت الأرض خوفا من بطش الطاغية فرانكو. الوضع في سوريا يذكر بعملية المحافظة على فرانكو مع الفارق. أو حتى المحافظة على النازية (البعثية العبثية) وهتلر سوريا.

أتذكر حينما دخلت ألمانيا للتخصص الطبي وللمرة الأولى والأخيرة رأيت (الشيف) رئيس القسم الجراحي (كارل توما) وكان عنصريا بغيصا رأيته فرحا بموت الطاغية فرانكو، وكان ذلك عام 1975م. أنا شخصيا زرت أسبانيا لاحقا وقد تحررتْ من الطاغية ووطأت بقدمي مكان قبره ومساعده الأيمن من الجبارين. ومن أعجب ما رأيت أن هذا الطاغية سخّر المعتقلين السياسيين لبناء أعلى صليب في العالم دليلا على تقواه وورعه. قصته تذكر بقصة مسجد الضرار الموجودة في آخر سورة التوبة حين يسخر المقدس لخدمة الحقارة. كان المسجد موطئا للتآمر فجاء نبي الرحمة فهدم المسجد على رؤوس الخونة ومزق ستار التقوى.

هذا التلاعب بالمقدس يتكرر في أشكال شتى عبر التاريخ، ولعل رفع المصاحف على رؤوس الرماح كانت أفظع لعبة في تاريخنا، ومن جاء بها لم يكن أنزه الطرفين، وكانت النهاية من نتائج معركة صفين مدمرة حين أفرزت ثلاث اتجاهات شتى، كل يدعي وصلا بالحق المطلق، بين فريق انتهازي يؤمن بحكم القبيلة، وثاني يؤمن بحق العائلة المقدس، وثالث يرسم خطوط التاريخ بالدم، ومازال يتناسل وداعش هي نسخة مكررة عن هذا الفريق الثالث.

كانت الكنيسة مع فرانكو في هذا المسعى لترسيخ العبودية، شاهدا على فعل الأديان المزيفة مع الشعوب المسحوقة. كانت الثورة ديموقرطية بانتخابات حرة وبطعم يساري واضح، وتجند الشيوعيون أيضا يومها لنصرتها منهم جماعة ستالين فاسأوا للثورة أكثر من نصرتها. نفس السيناريو حصل مع تسلح الثورة السورية وانزلاقها إلى الحرب الأهلية فتحولت الأرض السورية إلى ساحة حرب بين فصائل شتى، والتاريخ علمنا أن من تسلح احتاج إلى التمويل وتعني دولا تمنح مقابل أجندات معينة، وبذلك يموت الشهداء، وتسرق الثورات، وتسبح الأمم في الظلمات حتى حين. وهو السر خلف تحذير أرسطو قبل 2000 عاما من الثورات. ونقرأ أيضا في كتاب الكواكبي عن الشروط الثلاثية للتخلص من الطغيان من التدرج والسلمية وأن من انخرط في الفتنة يستبعد من التغيير الجديد.

بيكاسو الرسام المشهور خلد لوحة غورنيكا حيث مسحت الطائرات الألمانية المدينة من علو، في التحام شيطاني بين فرانكو وهتلر الصاعد يومها، حين وقعت تفاحة السلطة في ألمانيا في يد الحزب الاشتراكي الوطني الألماني ماعرف لاحقا بالنازي (Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei)‏ NSDAP).).

بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية نلاحظ سخرية الأقدار بالمحافظة على فرانكو سوريا وإعادة تصنيعه مع قتل مليون من الأنام وتشريد خمسة عشر مليونا. أو كأننا أمام دمار ألمانيا والمحافظة على هتلر على رأس النظام النازي.

هل سيشهد الشعب السوري مأساة فرانكو لمدة ثلاثين أو أربعين سنة قادمة؟ قناعتي العميقة أن التاريخ يمشي بخطى تقدمية، وكما حصل لأسبانيا وغيرها من التخلص من الديكتاتوريات المقيتة إلى مزابل التاريخ مع اللعنة وسوء الدار فستكون العاقبة في النهاية للتقوى. وحاليا تنعم أسبانيا بالديموقراطية وتبادل السلطة السلمي، بل ومحاكمة الملك السابق بتهمة الفساد. مع أن الملك السابق هو الذي أجهض محاولة ضباط اشرار من جماعة فرانكو حين اقتحموا البرلمان الأسباني المنتخب بالغدارات والرصاص. وهو ماسيكون في سوريا المستقبلية، بل وسنشهد أفول الأصوليات في المنطقة بعد تجربتها الضارة سواء السنية أم الشيعية وآخر من شكله أزواج.

 

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram