أسرار الانقلاب التاريخي (4) (آثار رحلة كولومبوس)

  ...........  بقلم خالص جلبي   ...........

الادوات المعرفية التاريخية:  

حتى تفهم أحداث التاريخ لابد لها من الربط الكرونولوجي وإدخال عنصر الحركة فيها، مستخدمين آليات التفكيك والتحليل التاريخية التي لاتعتمد منهج النقل فقط، واستخدام الادوات المعرفية التاريخية، حتى يمكن الوصول أو بكلمة أدق الاقتراب من سر التاريخ المغيب ضمن أحداث حفظت في أوراق وملفات أكلها البلى، وتلعب السينما دورا حيويا في الوصول فهم رائع من هذا النوع.

وعندما يستعرض الكاتب النيهوم خسارة شبه الجزيرة الايبرية فإنه يحلِّل آثارها على الشكل التالي: (إن العرب لم يخسروا اسبانيا كما يقال في كتب التاريخ، بل خسروا المحيط كله، ومعه الامريكيتين واستراليا ونيوزيلندا وآلاف الجزر وجميع ممرات التجارة الدولية، وقد حشرتهم مدافع الاسبان وراء مضيق جبل طارق؛ لكي يتفرجوا على التاريخ من بعيد، ويروا الفلاحين الاوربيين يبحرون بسفن عربية وخرائط عربية الى عصر آخر في عالم جديد، وعندما نزلت فرقة الخيالة الاسبانية في المكسيك، وتقدم المدعو (كورتيز) لابادة الهنود أكثر من سواه، كان على التاريخ أن يسجل بهدوء، أن الحصان العربي قد وصل الى أمريكا، لكن فارسه العربي لم يصل؟!! وخلال الثلاثمائة سنة التالية كان العرب يقضون عقوبة الحبس وراء مضيق جبل طارق، مثل مارد مسحور في قمقم، وكان البحر المتوسط قد أصبح زنزانة للمسلمين، ولفظ المحيط موجة رأسمالية عاتية مالبثت أن اجتاحت العالم بقاراته السبع، ووضعتها جميعا تحت ادارة راسمالية واحدة، لاول مرة في تاريخ العالم والادارة معاً) ليصل في النهاية الى رسم صورة العالم في العصر الفيكتوري:

(الملكة فيكتوريا تتلقى سنة 1865 م تقريرا عن وضع الامبراطورية يقول لها مباهيا: سهول روسيا وأمريكا الشمالية هي حقول قمحنا. شيكاغو وأوديسا هي مطاحن غلالنا. كندا والبلطيق غابات أخشابنا. استراليا مراعي خرافنا. أودية أمريكا الغربية مراعي أبقارنا. مناجم البيرو تغدق علينا الفضة. استراليا وجنوب أفريقيا مناجم لذهبنا. الهندوس والصينيون يزرعون لنا الشاي والقهوة. الانديز تزرع لنا السكر. اسبانيا وفرنسا عرائش أعنابنا. بلدان البحر المتوسط حدائق ثمارنا. أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة فقد امتد الآن الى جميع مناطق الأرض الدافئة)(8)

المهمة التي تواجهنا هي فهم أحداث التاريخ بشكل ديناميكي جدلي، ومن خلال رؤية فلسفية عميقة لآليات الصراع الانساني، فالأحداث لاتولد من فراغ ولاتتشكل عبثاً وبدون خلفيات من  الانجاز التاريخي.

   فلسفة ولادة الحدث التاريخي  

حتى يمكن فهم الأحداث التاريخية لابد من القيام بأجراء تحليل تاريخي، لإدراك العوامل الخفية والعميقة التي قادت لتشكيل هذا الحدث. فكل حدث هو في علاقة جدلية في عدة مستويات. كونه سبباً ونتيجة بنفس الوقت، نتيجة لما قبله، وسبباً لما سيأتي بعده، وكونه في وضع (مجموعة) من العناصر (المركبة) بين تفاعل العناصر الداخلية والخارجية، وليس ولادة لحدثٍ مفردٍ يتيم،  وكونه في حالة (ديناميكية) فحتى يولد ويبرز أي حدث الى العيان ، فلابد من (تفاعل) مجموعة من العناصر بكمٍ وكيفٍ معينين، وكونه يولد بشكل أساسي بعد أن مهدت العناصر الداخلية في تشكيله.

   الارتطام الحضاري الحزين 

عندما وضع كولومبوس أقدامه في جزيرة اسبانيولا (جمهوريتي هايتي والدومينيكان حالياً) لم يدر في خلده أبداً مأساة الارتطام المروع الذي سيحدث بعد هذا اللقاء ويقود الى افناء مائة وثمانين مليون من البشر، في كارثة انسانية لم يكشف اللثام عنها بعد، في موت ثمانين مليون من أبناء القارتين الامريكيتين قبل أن يختم القرن السادس عشر، وإبادة مائة مليون من السود من أفريقيا، في عمليتين دمويتين الى أبعد الحدود، الأولى بالتفريغ والثانية بالشحن على ظهور السفن لاستحداث مزارع الرجل الابيض في الارض الجديدة ومد أوربا بالغذاء والذهب.

هذا اللقاء الحضاري غير المخطط له، وهذا الارتطام بين حضارات العالم القديم والجديد قاد الى تدمير حزين لكامل الحضارات الموجودة في الامريكيتين، في عملية عنيفة لاقصى الحدود لم تعرف الرحمة، فتم القضاء الكامل على حضارة الازتيك والانكا والمايا والهنود الحمر، في عملية يعجز عنها الشيطان الرجيم.

العالم القديم منح اسم العالم الجديد. شعوبه أُبيدت. وحضارته دمرت بالكامل وسويت بالارض، ولغته لم يعد يتحدث بها أحد، وكتبه يحاول علماء الفللوجيا حتى اليوم فك ألغازها فيما تبقى من كتب قليلة للاهتداء الى سرها، وأهم من كل هذا انقلاب الميزان التاريخي لصالح الغرب، فهذا الانقلاب الصاعق المزدوج في تبدد الهيمنة الاسلامية في العالم، وصعود القوة الغربية للامساك بمقود الحضارة العالمية فيما يسمى الدول الصناعية السبع، كلها بدأت برحلة رجل خرافي متعصب يؤمن بالاساطير أكثر من العلم، ويسجل خيالات فكرية أقرب الى الهذيان، ولكن كل هذا لايعني شيئاً البتة. الشيء المهم أن هذا الرجل أحدث زلزالاً في التاريخ الانساني من حيث يشعر أو لايشعر، فهو الذي فتح فتحة في سد يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون وقارات بأكماها يستعمرون.

حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram