في اللقاء العلمي الضخم الذي انعقد في مدينة تكسون ( TUCSON ) الأمريكية (ولاية أريزونا )(ARIZONA ) القريبة من الحدود المكسيكية في منتصف أبريل ـ نيسان من عام 1996 م الذي سافر إليه كمٌ ضخم من الفلاسفة والاخصائيين في البيولوجيا العصبية والباحثين في آليات عمل الدماغ وعلماء النفس ، تقدمت ثلاث سيدات باحثات في آليات السلوك في تطبيقات ميدانية حول فهم الوعي والنطق عند الحيوان وبداية التفاهم معه باللغة الانسانية ، وكان أكثر ماشدَّ انتباه الحاضرين ببغاء يحمل اسم ( اليكس )( ALEX ) يستطيع العد حتى رقم ستة ويستطيع التفريق بين الألوان ، كما ظهر شمبانزي يمتلك قاموسا لغويا حتى 256 كلمة ، وتقدمت السيدة الثالثة ببحث حول دلفين يتجاوب مع أنغام صفارة الكمبيوتر . كان السؤال المثير والمحير عند الفلاسفة والباحثين في آليات الوعي والادراك عند الانسان والذي سيطر على جو المؤتمر : هل يمتلك الطير منطقاً ؟ هل يوجد وعي عند الحيوان ؟ (1) أم هل يتفرد الانسان باللغة التي هي العمود الفقري للوعي ؟ )
قصة الببغاء المثير اليكس ( ALEX ) :
بدأت المحاضرات في اللقاء العلمي بشكلها الاكاديمي الرتيب ، فَعُرضت مشكلة الوعي وحرية الارادة عند الانسان ، تأثير اللاوعي ، بزوغ عصر الكمبيوتر العصبي (2) وانشغل الباحثون في قراءة تدفق التيارات الكهربية القادمة من الدماغ في النوم وخلال الأحلام ، فالدماغ لاينام على مايبدو ، كل مايحدث هو تغيير طبيعة نشاطه ، كما تناقش الحاضرون حول عمل الخلايا العصبية وآليات اتصال النهايات العصبية بالخلايا ، وكيفية مرور التيارات الكهربية ؟ وعمل الافراز الكيمياوي في الخلايا العصبية ؟ ماهو الوعي الانساني عموما ؟ وأين هي الارادة ؟ وهل لها مركز محدد ؟ (3) ولكن التحدي الأكبر الذي حاول العلماء التقرب من فهمه هو المشكلة القديمة الحديثة : الوعي الانساني وكيف يتم؟ في هذا الجو فوجيء الحاضرون في المؤتمر بتقدم السيدة ايرينه بيبربيرج ( IRENE PEPPERBERG ) وهي تحمل على يدها ببغاء رمادي اللون يذكر بقصة جزيرة الكنز والكابتن سيلفر الذي لايفارقه ببغاؤه الجميل . مالبثت أن صاحت فيه : اليكس .. عُدْ للسادة ماذا تعرف من أرقام .. لم يكرر كلماتها كما هي عادة الببغاوات ، بل بدأ في العد واحد .. اثنين .. ثلاثة .. حتى الستة . أمسكت السيدة (ايرينه) مفاتيح ملونة بيدها ثم طلبت منه : اليكس كم مفتاح أحمر اللون في يدي ؟ فصاح بلغة مشبعة بلهجة أهالي الوسط الغربي لأمريكا ؛ لهجة مدربته ايرينه : اثنين . وكم مفتاح بلون أزرق ؟ أجاب ثلاثة !! وعدد المفاتيح الصفراء ؟ أجاب بثقة : واحد .. ومالون هذا المفتاح ؟ أجاب : أخضر .. كانت إجاباته صحيحة دوماً .
منطق الطير الجديد :
صُعق الحاضرون لأجوبة الببغاء الحكيم ، هذه المرة لم يظهر غبياً يكرر الكلمات فقط كما هو معروف عن الببغاوات عادة . وبدأت الأرض تميد تحت أقدام السادة النخبة الذين شاركوا في المؤتمر ، فالوعي والنطق عند هذا الطير اخترق بعداً نوعياً جديداً . شعر العلماء المختصون في فهم الوعي الانساني هذه المرة بنوع من الاحساس الخفي بعدم الأمان في المسلمات القديمة ، بتفرد الانسان بالنطق بين الكائنات ، فالطير يملك منطقه الخاص ، الذي يحتاج مثل النبي سليمان عليه السلام من يفك ألغاز حروفه . وبدأ الحاضرون يتناقلون كلمات الببغاء متعجبين متسائلين كيف وصل الى هذه العتبة ؟
أين وصل قاموس ( اليكس ) الببغاء ؟
كان قاموس ( اليكس ) اللغوي قد وصل الى مائة كلمة (4) يفرق بين الألوان السبعة ، يهتدي الى خمسة أشكال من مثل المربع والمدور والمثلث والكروي ، استطاع الوصول بالعدد الى رقم ستة ، ويستطيع التفريق بين الأشياء حسب الشكل والحجم واللون ، فهذا صندوق كبير ، وذلك مفتاح أخضر ، وهذه كرة مدورة ؟!! وكان الاستنتاج مزلزلاً : هذا الطير يمتلك من الوعي مايقترب به من مستوى الذكاء الانساني لطفل عمره خمسة سنوات !!
السيدة ( ايرينه بيبيربرج ) بدأت نشاطها المهني منذ حوالي عشرين عاماً كباحثة في آليات السلوك ، بزيارة الى محل يبيع الحيوانات والطيور ، حيث صادفت ببغاء رمادي اللون ، انطلقت من إمكانياته في تقليد الأصوات الانسانية ، الى فضاء معرفي جديد .
كان مشروع الباحثة ( بيبربرج ) الطموح ليس صدح الكلمات وترداد الأصوات ، فهي قصة قديمة معروفة عند الببغاء ، ولكن برنامجها كان في إدخال الطير الى دائرة الوعي والفهم و( مغزى الكلمات ) التي يكررها أو تعرض عليه ، فعصرت دماغها للتفكير في ابتكار وتطوير طريقة حديثة تدرب فيها الطير على دخول هذه البوابة الجديدة ، أو بالعكس الدخول الى دائرة الطير الداخلية ، الى وعيه الداخلي إن كان ثمة وعي يمتلكه ، فالمشكلة مع الحيوان أنه عالم قائم بذاته (5) لايملك لغتنا لنتفاهم معه ، بل يجب التمكن من لغته لمخاطبته ، أو إدخاله الى عالم اللغة الانسانية كي يُعَبِّر عما يدور في نفسه ؟
طرائق التدريب لتفتيح منافذ الفهم :
كانت السيدة المساعدة في المختبر تُمَرِّر أمام عيني الطير شيئاً ما قطعة فلين .. جوزة .. مفتاح .. ثم تسأله ماهذا ؟ وفي الوقت الذي تكون الاجابة صحيحة يتلقى الثناء والتشجيع وتدفع له القطعة . بسرعة اكتشفت الباحثة ( بيبربيرج ) أنها أيقظت الكوامن الخفية عند هذا الطير ، وحرضت عند هذا الببغاء الفضولي للمعرفة ، آلية التعبير عن العالم الخارجي ، وفي النهاية كان ينعق بالكلمات فلين .. مفتاح .. كرة .. بصوته الصادح المزعج .
بصبر بالغ ودأب بدون حدود وبمئات الجلسات المكثفة ، كرست العالمة نفسها للحديث مع هذا الطير لاكتشاف طاقات الفهم ومنافذ الادراك عنده وتطويرها ، وكانت الخاتمة مثيرة للغاية حيث بدأ بنفسه في الرد على بعض الاسئلة المعقدة ، فعندما تعرض أمام عينيه ثلاث مفاتيح حمراء اللون واثنان زرقاء ، لايكتفي بالرد فقط بأن هذه حمراء أو زرقاء ، بل يجيب على سؤالها : ماالذي يفرق هذه المفاتيح عن بعضها البعض ؟ يجيب الببغاء اليكس فوراً وبدون تردد : الألوان !! حَدَّق الحضور في مؤتمر ( تاكسون ) مذهولين وتذكروا قصة الهدهد الحكيم مع النبي سليمان عليه السلام ، عندما حَدَّثه باكتشافه مملكة سبأ في اليمن ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين )(6) وطرح السؤال نفسه مباشرة ؟ إذا استطاعت فعلاً الخبيرة ايرينه بيبربيرج وحالفها الحظ ، أن تفتح بوابة عالم الفكر عند الحيوان والطير ، الذي كان قد حُجز للانسان سابقاً ، واعُتبر رمز تفرده ، بعد أن فشلت معايير أخرى لتفرد الانسان (7) وطرد منه أي كائن آخر ، فالحيوانات ( صفت على الدور ) ومن سيكون الحيوان القادم الذي سيُعترف له بامتلاكه الوعي ياترى ؟ السلاحف ؟ الدببة ؟ أم النمل الذي سميت سورة من القرآن باسمه .
وقف الفلاسفة في المؤتمر يتساءلون إذا أردنا إنكار الوعي جملة وتفصيلاً عن الببغاء اليكس ، فكيف يمكن أن نعلل ذلك ؟ وماذا يفرق حقاً الببغاء ، حينما يفرق بين الألوان بهذه الطريقة عن جواب طفل عمره خمس سنوات ؟؟
كان تساؤل الفلاسفة وبحاثة الدماغ بمثابة نقطة تحول في تاريخ دارسي سلوك الحيوانات والطيور ، الذين لم يأخذوا اعترافا علمياً بجدية النتائج التي وصلوا إليها . لذا فإن فريق البحث العلمي المرافق للباحثة بيبيربرج انتشى وهو يرى ذهول العلماء اللامعي الاسماء وبعيدي الصيت ، وهم يتأملون هذا الطير الفصيح ، وهو يجمع بين صفتي النطق والتفكير ، التي كانت خاصية محصورة بالانسان ، وحجراً محجورا عن غيره ؟!!
ماذا يجري في عالم الطير والحيوان ؟
عندما أردت حفظ علبة الحلوى بعيدا عن النمل وضعتها في مكان عال لايصل إليه النمل في تقديري ، إلا أنني اكتشفت في اليوم التالي أن علبة الحلوى ( الحلبية ) كانت مثيرة لشهيتهم أكثر من شهيتي ، فاجتمع جيش عرمرم من النمل داخل العلبة وهو يعمل بهمة بالغة في سلب مايستطيع من الحلوى المفضلة ، وهذه الملاحظة جعلتني أفكر في أنه لابد من طريقة ما يتفاهمون بها على الحلوى ومكانها حتى يتجمعوا عليها !! فهناك إذاً درجة من التفاهم والوعي الداخلي عند طائفة النمل ، فلاغرابة أن كتب الجاحظ سبعة مجلدات حول الحيوان وسلوكه في سابقة علمية ملفتة للنظر ، وأجمل مافيها تجربة النظَّام على الحيوانات وأثر الكحول على الأسد والظبي الذي كان من أظرف ماشاهد؟!!
لقد تكدس لدى الباحثين في سلوك الحيوانات أكواماً رهيبة من الملاحظات من عالم الطير والحشرات ، توحي جميعها بهذا المنحى من وجود درجة من الوعي عندها ، وكان موقف العلماء السخرية من هذه الملاحظات وأنها أقرب لرواة القصص أو دعاة العلم الشعبيين ، ولكنها لاتمت بصلة للبحث العلمي الرصين . ومن الأفضل ترك مثل هذه الأمور لهواة الحيوانات أو قصص كليلة ودمنة أو لجماعة الرومانسيين .
ملاحظات ملفتة للنظر من عالم الحيوان :
إن الذين يدافعون عن نظرية الوعي عند الحيوان يعتمدون مجموعة من الملاحظات العجيبة ، فالدجاج البري عندما يجتمع في حفل الزواج والتكاثر في موسم اللقاح ، تقوم الانثى بالبحث بين المتقدمين للزواج منها بكل دلال ، ولفترة طويلة درس الباحثون عبثاً عن القرائن التي تدفعها لاختيار الذكر المناسب . كان خيار الانثى عجيبا فهي لاتختار الأقوى في العضلات ولا الأجمل في الشكل ، ليس أكثرهم زعيقاً ولا أكثرهم انتفاشاً بريشه ، ولاالذي تدلت حنجرة الذكورة أمامه ، كل هذا لم يكن الحاسم في اختيار الزوج ، وينكشف السر فقط في وقت لاحق بعد أن يكون مصير الزواج قد بُتَّ فيه حيث يكتشف الباحثون مذهولين أن الانثى كانت أكثر حكمة من كل تقديرات الباحثين ، أو الأشكال الخارجية للذكور المتقدمين للزواج ، لأنها اختارت أفضلهم صحة وأطولهم عمرا كي يعني بها وبفراخها .
ماهي القرائن التي اعتمدتها هذه الزوجة الحكيمة ؟ وكيف تنبأت سلفاً بطول العمر ودوام الصحة للزوج المقبل ؟ إنها ضرب من الأحجية المغلقة حتى الآن في وجه الباحثين !!
ذكاء الاخطبوط :
كذلك تمتلك الحيوانات عديمة الفقار طاقة ذكاء غير عادية ، كما هو الحال في الاخطبوط الذي روى عنه ( جول فيرنيه ) الروائي الفرنسي قصته المشهورة ( عشرين ألف فرسخ تحت الماء ) ومثَّله الأمريكي المشهور كيرك دوغلاس ، أو في الصورة المثيرة التي عرضها الكاتب الفرنسي المرموق ( فيكتور هوغو ) في قصته الرومانسية المبكية ( عاصفة وقلب ) فهذا الحيوان الذي تمتد أذرعته الرهيبة لايُقتل بقطع أذرعته ، بل بضرب رأسه الذي يمتلك أكبر دماغ بين الحيوانات اللافقرية . ولاحظ الباحثون قدرة هذا الحيوان على التعلم والتمييز بين الكرات البيضاء والحمراء ، عندما يطوق بأحد أذرعته الكرة ويكافيء على ذلك ، فالسلوك ينمو مع مضاعفة التعزيز . وليست هذه كل القصة فحيوان آخر من نفس الصنف يتعلم من خبرة زميله بمجرد معايشته للواقعة والسعيد من وعظ بغيره .
حذر الجراذين من السموم :
بدأ بعض الباحثين في السلوك في التردد من استخدام لفظ الثقافة والتعلم ونسبها فقط للانسان ، فلم تعد تتداول في أوساطهم ، عندما لاحظوا أن الجرذان فيها من الحذر والحكمة بحيث تتجنب الطُعم المسموم . ليس هذا فقط بل القيام بما يشبه الدروس التلقينية لأولادها كي تستفيد من خبرتها ، فتتجنب السموم المهلكة ولو كانت رائحة الجبن منها قوية !! .
جدلية الغريزة والوعي :
ولكن على الرغم من كل هذه الخبرات الميدانية الموحية ومهما كانت قيمتها في الحفاظ على حياة الحيوان ، فإن الفريق الثاني الذي يدافع عن تفرد الانسان بالوعي والحرية والارادة والبيان في اللغة ، يرى أن الحيوانات تبقى أسيرة غريزتها في عبوديةٍ لافكاك منها .
لاشك أن التذكر وقدرة التعلم وتجنب المهالك والسلوك الجماعي المعقد والحواس المتطورة ، ليست بالقليلة في عالم الحيوان ، ولكنها كلها مبرمجة في التصرف لاتحيد عنه قيد شعرة ، وبالتالي فإن الوعي لايتولد من حياة في مثل هذه القيود .
قصص ودروس من حياة النحل الذكي :
ومن المهارات المدهشة في عالم الحيوان مايتصرف به النحل عندما يقوم برقص في غاية الابداع ، لتخبر النحلة رفيقاتها على وجه الدقة ، أن هناك شجرة للزيزفون على بعد 800 متر في الجهة الجنوبية الغربية من المملكة ، وعلى وجه التحديد في مكان تصل إليه بكل سهولة ، أو عندما تبحث الخلية المهاجرة عن مكان تلجأ إليه ، فعندما تكون المملكة كلها مدلاة فمايشبه عنقود العنب ، تنطلق 500 نحلة مثل الجواسيس تعس في الأرض ، حتى تعثر على المكان المناسب ، وقد يطول هذا التحري أياماً . المهم المكان المناسب بدون تعريض حياة الخلية المهاجرة للخطر .
غباء بدون حدود عند الدبور :
مع كل هذا الذكاء عند النحل والتخطيط الجيد فإنه لايتعدى البرنامج المغروس في دماغها الذي لايتجاوز حجم رأس دبوس ، ولاظهار هذه الرتابة والمحدودية في التصرف فإن العالم الفرنسي ( جان هنري فابري )( JEAN - HENRI - FABRE ) قام بتجربة على الدبور الذي يهيء الطعام لنسله بقتل الصرصور بسمه ثم سحبه الى العش ، وهناك أمام العش يبقي جثة الصرصور كما هو ثم يقوم بتهيئة العش وتنظيفه قبل إيداع الطعام فيه .
قام العالم بدفع جثة الصرصور سنتمترات قليلة عن مكانها ، فوجيء الدبور باختفاء الفريسة ، فلم يبحث طويلاً عن هذا المقلب ومن وراءه ، كل مافعله البحث عن صرصور جديد وقتله وإحضاره مجددا الى النفق ، وهكذا بدون أي تفكير وتمحيص عن سر الخدعة ومن يخطط لها؟ أعاد العالم الفرنسي العملية عشر مرات الى عشرين الى أربعين مرة بدون أن يستفيد الدبور من أخطاءه . كان الدبور يكرر العملية مثل الآلة بدون كلل وملل وتذمر ، وكان صبره بدون حدود مع شقاوة الانسان ؟!
ولكن أين تنتهي الغريزة وأين يبدأ الوعي ؟
بل قبل كل شيء كيف يمكن العثور على الوعي وأين مركزه في الدماغ ؟ حتى لو ثقبنا جمجمة الحيوان فلن نستطيع معرفة ورؤية الوعي والتفكير وتفسير سلوكه !!
المدرسة السلوكية في علم النفس _ اتجاهات في علم النفس :
من هذه النقطة بالذات نشأت ( المدرسة السلوكية )( BEHAVIORISM ) في علم النفس ، فمدارس النفس تطورت على شكل موجات متلاحقة ، بدءً من مدرسة ( التحليل النفسي )( PSYCHOANALYSIS ) الذي لمع فيه فرويد النمساوي وبقية رجال المدرسة الألمانية يونج وآدلر وميننجر ، أو مدرسة ( الجشتالت )( GESTALT ) التي برز فيها فيرتهايمر وكوهلر وكيرت كوفكا وكولر ، أو الموجة الثالثة المدرسة الارتقائية التي عنيت بظاهرة ارتقاء الانسان وألمع رجالها عالم النفس ( جان بياجييه ) السويسري ، ويمكن أن يضم الى هذه المدرسة الفلاسفة الفنومنولوجيون ( المعنيين بدراسة الظاهرة الانسانية )(8) وعلماء النفس الوجودي بدءً من كيركجارد وسارتر ولينج ورولوماي ، وكانت ( المدرسة السلوكية ) الموجة الرابعة وهي التي رأت أن الانسان وعاء مغلق فلايمكن فهمه الا من خلال تصرفاته ، فيجب أن ينصب البحث على تصرفاته في محاولة لفهمه ، مثل الآلة تماماً الى درجة التحكم في تصرفاته ، حينما نفهم القانون الذي يحكم تصرفاته ، وأشهر رجال هذه المدرسة بافلوف الروسي وواطسون وباندورا والعجوز المخضرم ( سكينر ) صاحب كتاب ( تكنولوجيا السلوك الانساني ) قبل أن تظهر الموجة الخامسة في ( علم النفس الانساني ) التي رأت أن أفضل فهم للانسان هو دراسة الانسان ، بعيداً أن يكون شحنة غريزة ، أو حركة آلة سلوكية ، وأبرز رجالها أمريكيون مثل ابراهام ماسلو وروجرز وبيرلز أو فيكتور فرانكل الذي دشن نظريته في كتابه الرائع ( الانسان يبحث عن المعنى )(9) وسيكون لنا عودة خاصة للغوص في ديناميات السلوك الانساني ومدارس علم النفس لتسليح عقلية القاريء العربي المسلم بمنجزات العصر العقلية في هذا الاتجاه ، في حملة إدخال العقلية العربية روح العصر ومنجزاته .
المدرسة السلوكية وإنكارها الوعي الانساني :
تعرض المدرسة السلوكية وجهة نظرها على الشكل التالي : إذا كانت النحلة ترقص فتدل على شجرة الزيزفون ، والدبور يحفر النفق لنسله القادم ، والدجاجة تختار العريس المناسب الأطول عمرا والأفضل صحة ، والجرذ يروي خبرته لأولاده في تجنب الجبن المسموم والمصيدة المتربصة ، والببغاء يحاور العلماء مذكرا بقصة الهدهد والنملة في القرآن ، كلها تحت آليات معقدة من السلوك المبرمج ، فما هو الجديد في سلوك الانسان الذي يزيد في التعقيد لاأكثر ولاأقل ؟ القضية هي في الدرجة كما في فولتاج الكهرباء الخفيف والعالي ولكن طبيعته واحدة فما يسمى الوعي الانساني ليس أكثر من وهم ( ILLUSION )؟!! .
يقول العالم الأمريكي ( ب . ف . سكينر )(B . F . SKINNER ) الحجة في المدرسة السلوكية موضحاً قواعد هذا الفهم : (( مانحتاجه هو تكنولوجيا للسلوك ، فحينئذ يمكننا أن نحل مشكلاتنا بسرعة معقولة اذا مااستطعنا ضبط نمو سكان العالم بالدقة نفسها التي نضبط بها مسار سفينة فضاء ، أو تحسين الزراعة والصناعة بشيء من الثقة التي نسرع بها ذرات الطاقة العالية ، أو السير نحو عالم ينعم بالسلام بشيء شبيه بالتقدم المطرد الذي تقترب به الفيزياء من الصفر المطلق برغم أن كليهما ( السلام والصفر المطلق ) افتراضان بعيدا المنال)(10) ولكن هذا الموقف المتطرف ابتعد عنه العلماء والباحثون تدريجياً وخف الحماس للمدرسة السلوكية وخمد بريقها منذ فترة طويلة ، ولنا عودة موسعة لمدارس علم النفس في المستقبل ، ويرى البيولوجيون أن الوعي وسط يمكن بحثه بنفس أدواته . ولكن جذوره مغروسة في بقية الكائنات التي يجب دراسة الوعي ومستواه فيها .
رأي العالم دونالد جريفين وخندق اللغة :
إذا كانت جذور الوعي الأولى مغروسة في الطير والحيوان ، فإن إشراقة الوعي الانساني المتدرجة والفهم والادراك المتميز يجب أن تكون في رأس القائمة المهمة لأبحاث السلوك ، هذا مايدعو إليه العالم الأمريكي ( دونالد جريفين (( DONALD - GRIFFIN ) الباحث في علم السلوك ، ولكن الخندق الذي لايمكن القفز من فوقه هو والذي يفصل الباحثين عن مشروع عملهم هو بكلمة واحدة اللغة !!
اللغة .. سحر البيان وقفزة الانسان النوعية :
في الوقت الذي ينفذ علماء النفس الى تضاعيف الروح الداخلية بواسطة اللغة ، فإن الباحثين في السلوك أمام جدار شبه أصم وليس عليهم سوى استخراج الخلاصات من تضاعيف السلوك : اللغة الجديدة . قد تطلق الحيوانات بعض الأصوات ولكنها محدودة ، ويبدو أن البيان اختص به الانسان فتفوق الى أعلى عليين ، فقرود البحر الخضراء يتنوع عندها الزعيق بين ثلاثة أنواع ، في محاولة تنبيه المجموعة الى خطر نمر مفترس أو نسر محلق أو أفعى زاحفة ، كما أن القرود من نوع البابون تتفاهم ببعض الأصوات بحيث تلتقي معا في أماكن محددة ، ولكن هذه الأصوات القليلة الهزيلة لم تمنح حتى الآن مفتاحاً لدخول العالم النفسي للقردة كي يتم فهم تضاعيف النفس الداخلية . هذا الباب المغلق حاولت السيدات الثلاث في مؤتمر تكسون اقتحامه وتجلية ضبابه .
الفضاء المعرفي الجديد في فهم سلوك الحيوان والطير :
قدمت السيدة الأولى ( سافيج _ روم باو )(SAVAGE - RUMBAUGH ) التي تعمل في جامعة جورجيا ؛ شمبانزي صغير قفز في مفرداته اللغوية فوق مستوى الببغاء اليكس فوصل الى 256 مفردة لغوية . كلها بلهجة الخرسان ، حيث فشلت كل محاولات رفعه لمستوى أن ينطق ، ويعرف العلماء البيولوجيون اليوم أن اللغة تعتمد على أمرين لايملكها الشمبانزي أصلاً : المراكز العقلية في الدماغ المسؤولة عن القواعد ( الجراماتيك ) وتفسير المعاني ، وجهاز التصويت في الحنجرة ، فالمراكز الدماغية هي ( بروكا ) و( فيرنيكيه ) في الدماغ ، الموجودتين في الفص الجداري في قشر المخ الأيسر عادة ، منطقة بروكا التي كشفها الجراح باول بروكا في القرن الماضي المسؤولة عن القواعد اللغوية ، ومنطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، أو ماتسمى المنطقة الحركية والحسية ، وعندما تعطب هذه المناطق لسبب أو آخر فإن المريض يتوزع بين عدم القدرة على النطق ، كما في إصابات الفالج الدماغي ، هو يريد أن يتكلم وتحضره الكلمة ومعناها ولكن لسانه يخونه فلا يقدر أن ينطق ، أو أنه يسمع الكلمات ولكنها تطير بجانب أذنه بدون أي إدراك لمعناها ، أما جهاز التصوت ففي القرد ارتفعت عنده الحنجرة ، فهو يستطيع التنفس والأكل معاً ، ولكن حنجرته تحولت الى عود مختنق فعجز عن اللحن الجميل ، أما في الانسان فغطست الحبال الصوتية للأسفل ؛ فتحول الصدر والرئتين الى عود جميل يصدر أعذب الأنغام .
اعتمدت الباحثة فقط على لغة الاشارات . ويستطيع الشمبانزي الآن المدعو ( كانزي )( KANZI ) أن يتكلم فيشير الى كلمتي ( أنا جائع ) أو ( الكرة في الغرفة ) و( العصا في غرفة النوم ) كما يستطيع التعبير عن رغباته بصورة أخرى ، فيخبر مدربته ماذا يريد أن يلعب ؟ الى أين يمضي ؟ أو ماذا يشتهي ؟ حتى أنه يفهم بعض النماذج النحوية اللغوية . ويقوم بإطاعة الأوامر بشكل حاذق كما لو أخبر اذهب الى غرفة النوم وأحضر منها الكرة ثم أعط فلان وردة ، فإن الكرة الموجودة بقريه لايلمسها بل يحضر ما ُأمر به على وجه الدقة فيحضر كرة غرفة النوم (11). أما دايانا رايس ( DIANA - REISS ) من جامعة روتجرز ( RUTGERS ) ولاية نيوجيرسي فإنها تدرب دلفيناً على الاستجابة لصفارة الكمبيوتر في محاولة للحديث معه ، ولكنها لاتعرف على وجه الدقة ماذا يفهم منها ضمن عالمه المغلق ، كل مالاحظته هو حماسه لتلقي هذه الترحيبات من العالم العلوي ومحاولة تقليدها .
ولعل أكثر الباحثات حظاً هي السيدة ايرينه بيبربرج بفضل تدريبها لطير يقلد الأصوات الانسانية بالأصل ، فلايحتاج الى لوح إشارات أو كمبيوتر يزمر ، ولعلها الصدفة الكونية السعيدة في الدخول الى عالم الوعي عند الكائنات من خلال هذا الطير ، الذي ينطق ويدل على قضايا رمزية مجردة كالألوان والأشكال والأعداد .
جلال الدين الرومي والببغاء والتاجر الهندي :
وكما كان الفيلسوف المتصوف جلال الدين الرومي يطرح أفكاره من خلال قصة التاجر الهندي والببغاء ، فيروي على لسان الببغاء بشكل رمزي أفكاره من خلال القصة (12) فإن مؤتمر تكسون الذي جمع هذا الخليط من علماء النفس وباحثو الدماغ والفلاسفة ، فإن السؤال الجوهري أمامهم ، بعد أن رأوا جرأة هذا الطير في اقتحام عالم الوعي وفهم المجردات مثل الأعداد هو توضيح سؤال جديد آخر ؟؟ ماهو حقاً لغز الوعي الذي اجتمع الكل له وانفض الجميع بدون ملامسته أو فهم كنهه .
مراجع وهوامش:
(1) تأمل الاية من سورة النمل التي يصرح فيها النبي سليمان عليه السلام أنه يعرف لغة الطيور ( وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) سورة النمل الآية رقم 16 كما يذكر بعدها أنه ضحك من حديث النمل عندما تم أعلان النفير العام بالانسحاب الى الاعشاش تحت الأرض (2) على الحدود النمساوية الألمانية في مدينة جراتس ( GRATZ ) في المعهد التقني الالكتروني والطبي الحيوي ، يتم حالياً تطوير الكمبيوتر العصبي حيث يمكن أن يعمل بالارادة الانسانية بدون الفارة وبدون برامج ، بحيث يقرأ أفكارنا مباشرة بواسطة الأمواج الكهربية الدماغية التي تتدفق بشكل تيارات متلاحقة من مائة مليار من الخلايا العصبية المتوقدة في قبة السماء الدماغية كتوقد النجوم في قبة المجرة _ تراجع مجلة ب . م . ( الألمانية )( P . M ) العلمية عدد 3 \ 1996 م ص 10 _ 17 (3) أجرى الدكتور وايلدر بنفيلد ( WILDER PENFIELD ) في كندا دراسة استغرقت منه حوالي نصف قرن لرسم خارطة كاملة لقشر الدماغ من خلال تطوير تقنيات حديثة على مرضى في حالة الوعي وتم تحديد معظم المناطق وأماكن عملها . الشيء الوحيد الذي كان يتملص من اليد هو عدم القدرة على تحديد مكان واضح لعمل الارادة الانسانية ، وخرج في نهاية أبحاثه في عام 1975 م بكتاب بعنوان لغز الدماغ ( THE MYSTERY OF MIND ) يراجع في هذا كتاب العلم في منظوره الجديد بحث العقل ص 35 _ تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو _ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 (4) أشارت مجلة الشبيجل الألمانية عدد 20 عام 1996 م الى الواقعة في قسمها العلمي تحت عنوان أبحاث السلوك : بوابة الى عالم آخر _ ص 188 _ 190 (5) تأمل الآية القرآنية من سورة الأنعام ( ومامن دابةٍ في الأرض ولاطائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ) الآية رقم 28 (6) سورة النمل الآية رقم 22 (7) اعتبر مثلاً أن الانسان تفرد باستخدام الأدوات وتم العثور على العديد من الحيوانات التي تستخدم الأدوات في غذائها كما في ثعالب البحر عند سواحل كندا في المحيط الاطلسي حيث يغوص في الماء فيصطاد السرطان ثم يضع الحجر على بطنه ثم يضرب السرطان به _ براجع في هذا كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم لمعرفة رقم 67 فصل قرد أم ملاك ص 7 (8) كتاب الانسان وعلم النفس _ تأليف عبد الستار إبراهيم _ سلسلة عالم المعرفة رقم 86 بحث الاتجاهات النظرية العامة لعلماء النفس ص 54 (9) كتاب الانسان يبحث عن المعنى وهو كتاب أكثر من رائع يهز قارئه تماماً فهي خبرة جاءت من جحيم المعتقلات النازية وفيها خسر زوجته الشابة _ تأليف فيكتور فرانكل _ نشر دار القلم _ ترجمة طلعت منصور (10) تكنولوجيا السلوك الانساني _ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 _ ترجمة عبد القادر يوسف _ ص 6 وأصل الكتاب باللغة الانكليزية ماخلف الحرية والالتزام ( BEYOND FREEDOM AND DIGNITY BY B . F . SKINNER )(11) مجلة الشبيجل عدد 43 عام 1995 م ص 152 (12) كتاب ( المثنوي ) الذي استفاد منه المفكر والفيلسوف الاسلامي محمد إقبال ، وكان يكرر دوما هذه العبارة في المثنوي : ذا حديث ماله من آخر فلنعد الى حديث ذلك التاجر .
كيف نطق الإنسان ؟
تيك ( TIK ) هل هي الكلمة الأولى التي تمكن الانسان من نطقها ؟ هذا مايدعيه على الأقل باحث أمريكي معاصر في دراسة اللغات وعلم الالسنيات ، ولكن هذا لايفسر على الإطلاق لماذا بدأ الانسان في النطق ؟ وكيف بدأ رحلة التعبير ؟ ومتى بزغ عصر الكلمة ؟ فاختلف عن كل الكائنات الأخرى التي تدب على البسيطة . ما أهمية التعبير ؟ وماهي أهمية اللغة في علاقة الانسان بالواقع ؟ مامعنى الترميز ؟ ماهي وظيفة اللغة ؟ مامعنى النطق عند الانسان ؟ وماعلاقة التصويت باللغة ؟ بل ماهي فلسفة اللغة ؟ ومامعنى الاسماء التي تعلمها آدم ؟ إن كل هذه الاسئلة الضخمة والمصيرية فجرت في الوقت الراهن مجموعة من العلوم الجديدة كان أهمها علم الالسنيات ( LINGUISTICS ) .
عندما أراد القرآن توثيق فكرته ، قال عنها إنها تشبه في الحق الذي تحمله نطق الانسان ( فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثلما أنكم تنطقون )(1) فما هو هذا النطق الذي اعتمدته الآية كمصدر لتوثيق الحق ؟ وماهي الاسماء التي عجزت عن علمها الملائكة وأنبأ بها آدم ؟
تجربة الفرعون بساميتك الأول ( PSAMMETICH I ) :
استولت فكرة عجيبة على ذهن الفرعون لم تغادره ليلاً نهاراً مفادها لو تركنا الأطفال بدون أن نعلمهم لغتنا فهل سينطقون باللغة الأصلية للانسان ؟ وهل ستكون نفس اللغة الهيروغليفية أم ستكون متباينة ؟ وإذا اختلفت فأي لغة ستكون ؟ كان ذلك قبل 2600 سنة من الآن فانطلق الفرعون ( بساميتك الأول ) بعد أن استولت عليه الفكرة تماماً الى ميدان التجربة اللغوية ( الالسنية ) .
يذكر المؤرخ اليوناني ( هيرودوت )( HERODOT ) عن هذه التجربة المثيرة أن الفرعون أخذ طفلين حديثي الولادة فدفعهما الى عائلة راعي تحت رقابة مشددة ، بحيث تم تغذية الطفلين بدون لفظ كلمة واحدة لهما ، وكان الفرعون يتفقدهما شخصياً ليرى نتائج تجربته ، ولعل هذه التجربة الالسنية الأقدم في هذا الاتجاه ، لمعرفة أصل اللغات بواسطة التجربة البشرية (2) وبعد مرور سنتين تذكر الرواية أنهم نطقوا شيئاً يشبه لفظة ( بيكوس )( BEKOS ) وعندما سأل الفرعون الحكماء حوله عن شعبٍ ينطق هذه اللفظة ، ذكروا له الشعب ( الفريجي )(PHRYGIER ) الذي يعيش في آسيا الصغرى ويعرفه المؤرخون أنه كان من الشعوب الهندية الجرمانية (3) وأن هذه الكلمة تعني الخبز في لغة الشعب الفريجي ؟!! فهل لغة هذا الشعب هي فعلاً أصل كل اللغات ؟ لو صدق هذا لحُلت هذه المشكلة بأبسط السبل ، ولكننا نعلم اليوم أن الشعب الفريجي الذي كان يعيش قبل ثلاثة آلاف سنة ليس شيئاً في عمر الزمن مع الانسان ، الذي أثبتت عظامه المرمية في طبقات الأرض في شرق أفريقيا ، أنه يعود ليس الى خمسة آلاف سنة ؛ بل خمسة ملايين من السنين ؟!! هذه الفكرة التي استولت على الفرعون المصري قديماً تحركت مرة أخرى في العصور الوسطى ، على يد حاكم مستنير حكم صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي ، محب للعلم ، متأثر بالثقافة العربية ، ويتكلم لغة الضاد ، لغة الثقافة العالمية في ذلك الوقت ، أراد أن يعرف بدوره أصل اللغات هل هي اللغة العربية أم العبرية أم السنسكريتية أم سواهم ؟
تجربة القيصر فردريك الثاني :
يذكر العالم الأمريكي ( بيتر فارب )( PETER FARB ) صاحب كتاب بنو الانسان ( HUMAN KIND ) تجربة قاسية أجراها هذا الملك الموهوب الفنان الشاعر وبنفس طريقة الفرعون السابق ، فدفع عدداً من الأطفال حديثي الولادة الى من يهتم بأمر الغذاء والنظافة دون أن يتكلم معهم بحرف من نداء أو مناغاة . وكانت النتيجة صاعقة لأن الأطفال _ خلافاً لما روى هيرودوت المؤرخ اليوناني _ ليس فقط أنهم لم ينبسوا ببنت شفة ؛ بل قضوا نحبهم فماتوا بالجملة ، متأثرين من هذه التجربة المدمرة !! (4)
تجربة ملك سكوتلاند يعقوب الرابع ( JAKOB - IX - OF SCOTLAND ) :
تروي المجلة الألمانية المعنونة ( معجزة التطور )( P . M . P . DAS WUNDER DER EVOLUTION ) قصة مشابهة أخرى مثيرة قام بها ملك سكوتلاندا قديماً ، بعد ثلاثة قرون من تجربة الملك فريدريك الثاني حاكم صقلية ، لاكتشاف جذر اللغات واللغة الأصلية ، التي تحدث بها الانسان ، تحت وهم أن نطق الانسان كان بالأصل موحداً ، وأن اللغة في حالة كمٍ ثابت غيرِ متطور ، ويزعم مراقبو التجربة أنهم أي الأطفال تكلموا في خاتمة المطاف اللغة العبرية ، ولاغرابة لأن أهل كل ثقافة يعتبرون لغتهم هي سرة العالم وأصل اللغات وسر الكون وأنهم أفضل ماخلق الله ، ولكن تجربة الصبي ( فيكتور ) التي برزت الى السطح في القرن التاسع عشر هزت الأوساط العلمية ، ونحن نعرف اليوم طائفةً من الحقائق المزلزلة حول المشكلة الالسنية .
قصة الصبي فيكتور والدكتور ايتار :
جاء في المجلة العلمية الألمانية ( الاتصالات )( P. M . P . KOMMUNICATION )(5) أن طفلاً عاش في الغابة وحيداً في ظروف غامضة ، قريباً من مدينة أفيرون الفرنسية ( AVEYRON ) حتى بلغ الثانية عشر ، ثم استسلم في الشتاء القارس ليد الناس في عام 1799 م في ظروف صعبة طلباً للدفء والغذاء ، وخضع بعدها لفحص وتدريب متواصلين من إجل إدخاله الحظيرة الانسانية ؛ فالطفل كان كالحيوان تماماً (( كان طفلاً قذراً الى حد يثير الاشمئزاز ، وكان يهز جسمه جيئة وذهابا كما لو كان قردا في حديقة الحيوان ، وتعتريه حركات تقلصية ، كما كان يعض ويخدش بأظافره من كان يحاول إطعامه دون أن يظهر محبة نحو أي انسان ))(6) ولكن الشيء المزلزل في القصة كان موضوع اللغة ؛ فالفلاسفة الفرنسيون الذين عاينوا ظاهرته المحيرة وعدم قدرته على النطق والتواصل مع الانسان ؛ افترضوا أنه أبله قاصر العقل ، ولكن الدكتور ( جين مارك كاسبار إيتار ) خالفهم في ذلك لعدم وجود سابقة من هذا النوع ، فركز كل جهوده على فهم هذا الانسان الجديد ، واعتمد طريقة الخطأ والصواب ، وحاول جهده في ابتكار العديد من الطرق في محاولة ( تحضير ) هذا الطفل ورده الى المجتمع الانساني وتمكينه من اللغة التي هي سمة الانسان الأولى .
الخلاصة المزلزلة في علم الاجتماع :
استطاع الدكتور ( ايتار ) بعد سنوات من الجهد المكثف أن يعلمه بعض الانماط الانسانية ، فبدأ يحسن الجلوس وارتداء الملابس وتناول الطعام وقضاء الحاجة ، ولكن الشيء المعند الذي لم يستجب له مع كل المحاولات هو النطق ، فهذا الطفل ذو الاثني عشر عاماً تقريباً بدأ يفهم بعض الألفاظ الفرنسية ، ولكنه لم يستطع التكلم بها رغم كل المحاولات ، ووصل بذلك الدكتور ايتار الى هذه الخلاصة الصاعقة ، أن العزلة الاجتماعية في السنوات الأولى من العمر تركت عنده مصيبة لم يعد بالإمكان إصلاحها قط فكتب يقول : (( يأتي الانسان الى هذا العالم بدون قوة جسدية ، وبدون أفكار تولد معه ، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الاساسية التي ترفعه الى قمة المملكة الحيوانية ، ولايستطيع الوصول الى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة الا إذا كان في وسط مجتمع ، وبدون حضارة يكون الانسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءً )(7)
الانسان يسبح بين معادلتين : المعادلة البيولوجية والاجتماعية :
إذاً فقصة حي بن يقظان وروبنسون كروزو تبقى للاستهلاك غير المجدي ، فالصبي حي بن يقظان الذي تصوره الفيلسوف الاندلسي قديماً ( ابن طفيل ) الذي عاصر الفيلسوف ابن رشد ، كان في وهمٍ كشفه علم الاجتماع حالياً ؛ أن المجتمع هو الذي يجعل الانسان بشرا سويا ، وبدون المجتمع لايتكون الانسان ، ولايصبح الانسان انساناً ، واللغة التي ننطقها تشبه قاعدة ( الدوس )( DOS ) في الكمبيوتر ، والتي على أساسها يمكن تعلم اللغات بدون حصر ، بل يصبح تعلم كل لغة جديدة أسهل من التي قبلها ، خلافاً لما يتوهمه البعض من العبقرية المفرطة عند من يتكلم ثمانية لغات ، ففي منطقة الجزيرة في سوريا يوجد مالايقل عن سبعة لغات ، تزحف بجانب بعضها البعض في التعامل اليومي ، من الكردية والعربية والتركية والسريانية والكلدانية والآشورية والارمنية ، بالاضافة الى مالايقل عن عشرة لهجات محلية بين لغة أهل الداخل واللهجة المحلية ولهجة البدو ، يضاف إليها بضع لغات محدودة جانبية ، مع كل الفرق الدينية بما فيها الفرقة النسطورية ( المسيحية ) المنقرضة التي تحمل اسم الكلدان اليوم ، فمدينة ( القامشلي ) تشبه بهذا التنوع المذهل من اللغات واللهجات والاثنيات والأديان المتحف الحي .
إن الصبي ( حي بن يقظان ) الذي كان يبني عليه فلسفته المفكر الاندلسي ( ابن طفيل ) سوف يفاجيء أن ممثل روايته سيكون أقرب الى الحيوان ، بل سيبدو كحيوان بئيس ، لأنه عاش لوحده مع الغزالة، فالانسان يأتي الى الدنيا بالمعادلة البيولوجية ، ولكنه يصبح انساناً بالمعادلة الاجتماعية .
المجتمع يشكل الثقافة _ يعلِّم اللغة _ يمنح الحظوظ الدنيوية : وأكثر من ذلك فإن المعادلة الاجتماعية تتنوع من مجتمع لآخر ، ولذا فحظوظ الانسان في الدنيا هي من المجتمع الذي ينتسب إليه أكثر من كفاءته الشخصية ، فجراح الأوعية في أمريكا يأتيه دخل يصل الى قرابة مائتي ألف دولار في السنة على الأقل ، ولكنه في مصر لايصل الى عشر معشار هذا المبلغ ، وينطبق هذا الكلام على حاملي جنسية البلد وتنقلهم في العالم ، حيث يتمتعون بهذه الامتيازات سلباً أو إيجاباً ، التي منحهم أياها المجتمع الذي أعطاهم عضوية الانتساب للبلد . فكما أن المجتمع يجعلنا بشراً أسوياء ، كذلك المجتمع يمنحنا حظوظاً مختلفة في هذه الدنيا ، فالذي يولد في بنغلادش غير الذي يولد في ألمانيا واليابان ، وهذه مرتبطة بدورها بقَدر المجتمع في مرحلة ما ، فالذي يولد في المجتمع الألماني الآن ، غيره الذي يولد في مطلع القرن العشرين في هامبورغ في ظروف عمل قذرة ، أو في أيام الحروب العالمية ليموت في ساحات المعارك المهولة مثل الجبهة الروسية في الصقيع القاتل . المجتمع هو الذي يعطينا اللغة ، هو الذي يمنحنا الحظوظ الدنيوية . هو الذي يشكلنا ثقافياً . فالذي يولد في اليابان سيتكلم اللغة اليابانية ويؤمن بالعقيدة البوذية أو الكونفوشوسية ، ومن يولد في بافاريا في ألمانيا سينطق الألمانية ويدين بالمسيحية في أحد جناحيها الكثلكة أو البروتستانتية في الأغلب ، ومن يولد من رحم امرأة يهودية سيتشكل سيكولوجياً في الأغلب بكل التراث اليهودي وإشكالياته ، ومن يولد في جنوب العراق سيكون شيعياً ، ومن يولد في شمال العراق سيكون تركمانياً أو كردياً ، ومن يولد في الاناضول قد يقتل في إحدى هجمات جيش العمال الكردستاني من أجل بناء دولة كردية ، من حيث يعلم أو لايعلم ، وهذه ليست فكرة قدرية بل هي حقيقة دامغة ساحقة ، فالمجتمع يشكلنا إن أردنا أم لا ، رغبنا أم رفضنا تحت قوة خفية ساحقة ماحقة لارد لها . ولعل هذا يلقي ضوءً على بعض أسرار آية التغيير في القرآن ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) حينما يعتبر أن التغيير الاجتماعي لايتم بشكله الفردي بل بكم جماعي وكتلة حرجة أي تشكل تيار اجتماعي مسيطر ، بل إن الفرد الذي يسبح ضد التيار يتعرض للتمزيق والتدمير بحس الدفاع الاجتماعي وهو أمر طبيعي ، فالآية واضحة أن التغيير لايتم بصورة فردية ( حتى يغير ) بل لابد من الكم الجماعي ( حتى يغيروا ) ونفهم من نهاية الآية أن الزلزال الاجتماعي حينما يقع فلامرد له ولامفر منه ( وإذا أراد الله بقوم سوءً فلامرد له ومالهم من الله من وال ) على صورة القدر الاجتماعي الذي شرحناه. إن هذه الحقيقة مزلزلة وتقلب الرأس فعلاً ، فالانسان يتشكل ويصبح انسانا ً فقط عندما يتصل بالمجتمع ، والانسان ينطق باللغة فقط عندما يعيش ضمن الوسط الانساني ، فاللغة والنطق هما مزيج من الوراثة والكسب الاجتماعي ، فالقرد لوعاش بين البشر لن ينطق ، كما أن الانسان لو عاش خارج الجماعة بين القرود لن ينطق ، وتأتي حقيقة رهيبة أخرى من قصة الصبي ( فيكتور ) وهي أن المرحلة التي تزرع فيها اللغة في دماغ الانسان ، حاسمة للغاية وهي السنوات الأولى من عمر الطفل ، فالطفل ينطق قبل أن يقرأ ، ويتعلم اللغة سماعياً ، وعندما يتجاوز هذه المرحلة فلايتعلم اللغة ؛ فإنها تفوته والى الابد بغير رجعة .
نظرية العالم الأمريكي ( جرينبيرج ) حول أصل اللغات :
والآن هل هناك لغة ( أم ) ترجع إليها كل اللغات ؟ إن كل أمة ترى أن لغتها هي سرة العالم ومحور التاريخ ، ولكن الفيلسوف افلاطون ذهب الى أن كل لغة هي اختراع انساني قائم بذاته ، واليوم لاتوجد نظرية موحدة حول وجود ( لغة أم ) ترجع إليها كل اللغات ، إلا أن عالم الالسنيات الأمريكي ( جوزيف جرينبيرج )(JOSEPH - GREENBERG ) وهو من علماء اللغة المرموقين يدافع عن نظرية ( وحدة الجذر)( MONOGENETIC ) قام بمسح عملاق لذخيرة الألفاظ وبعض القواعد النحوية الثابتة في مئات اللغات ، في محاولة لوضع ضابط بين كل هذه اللغات العالمية التي تم مسحها . إن التصنيف الذي اقترحه جرينبيرج ليس بدون نزاع بين علماء الالسنيات ، ولكن العالم الأمريكي يصر على أن لغات العالم التي تصل الى خمسة آلاف لغة في المتوسط ، تعود كلها في النهاية الى لغة أم مشتركة واحدة كما نعود نحن في النهاية الى أم واحدة ، بل ذهب في تصوره الى أبعد من ذلك فقال إن الكلمة التي لها أصل في كل اللغات هي لفظة ( تك ) وهي حسب الترجمات المنوعة بين اللغات تصير الى معاني لانهائية وكلها موجودة ككلمة في كل اللغات من واحد... الى بعض .. أصبع ... ذراع .. والى معنى أشار بأصبعه !!
اللغة كمٌ نامي متطور عبر الزمن :
ونظراً للوقت الرهيب الذي مر على الانسان عبر الأحقاب ، ونظراً لارتباط النطق بالدماغ وجهاز التصويت المكون من الحنجرة والحبال الصوتية والبلعوم والأنف ، فإن الأثر الانثروبولوجي الذي يتم العثور عليه من العظام والجماجم لايستطيع الإفصاح بشكل أكيد عن سر النطق عند الانسان متى بدأ ؟ وكيف بدأ ؟ وكيف كانت مسيرته على العموم ؟ نظراً لارتباط النطق بأعضاء تفنى وتندثر بعد موت صاحبها . ولكن الذكاء الانساني احتال على المشكلة مرة أخرى بشكل غير مباشر ، كما روينا سابقاً في قصة الكربون 14 وساعة البوتاسيوم الأرغون الكونية ، أو كما فعل الباحث الانثروبولوجي الهولندي ( فريد سبور )( FRED - SPOOR ) الذي يقوم في جامعة لندن بدراسة مشكلة انتصاب الانسان ، من خلال دراسة الأذن الباطنة في الجمجمة التي تملك جهازاً رائعاً بالغ الاتقان مسؤول عن آلية الاتزان عند الانسان، وبالتالي تشير الى انتصابه من عدمه ، حيث درس حوالي عشرين جمجمة ، وكلها دلت على تشابه ( الانسان المنتصب )( الهومو_ ايريكتوس ) معنا ، خلاف باقي الكائنات ، ويعود الى حوالي مليون ونصف من السنين (8).
دراسة الجمجمة بالكمبيوتر تدل أيضاً على تطور الدماغ مع الزمن من خلال انطباعاته التي تترك أثرها على باطن عظام الجمجمة ، ونظراً لوجود مراكز النطق في القشرة الدماغية اليسرى وأعضاء التصويت في أسفل الجمجمة ؛ فيمكن الاستدلال بشكل غير مباشر على الحدث الانثروبولجي عبر الزمن .
اللغة والواقع _ اللفظ والمعنى :
بقي أن نقول أنه مع الزمن تكسرت اللغات وتفرعت الى مالانهاية ، واللغة كائن ينمو مع الزمن سواء في المحتوى أم الشكل ، وأمة لاتطور لغتها تعتبر في حكم الأمة الميتة ، لأن تطور اللغة يعني الحياة ، فالحركة والنمو دليل الحياة ، والجمود والتحنط دليل الموت والفناء (9) ونظراً لهذا التطور المستمر في اللغة فلاغرابة من نشوء نظريات مختلفة حول أصل اللغة ، هل كانت من لفظة تيك أو تونج أو سونج أو سواها ، فإمكانية الوصول الى اللغة الأولى النموذجية ( PROTOTYPE ) هي في حكم المستحيل ، والأقرب أن اللغة هي أمر اصطلاحي ، وأن اللفظة لاتشع بالمعنى بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، فالكلمة كالقمر تعكس المعنى ، والمعنى كالشمس التي ترسل أشعتها ، أو على حد تعبير الفيلسوف المتصوف ( الغزالي ) الذي عاش في القرن الرابع الهجري ( 450 _ 505 هـ ) في كتابه المستصفى من أصول الفقه : أن من أراد أخذ المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان مثله كمن يريد المغرب وهو يستدبره ، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا (10) ولنا عودة لهذا البحث لاحقاً في فهم علاقة اللغة بالواقع ، فهناك دراسات في الوقت الحاضر تمشي باتجاه توليد المعاني من الألفاظ بدون حدود كما في السيرك والبهلوان الذي يخرج من قبعة الاخفاء مايريد من مناديل وأرانب ، مثل كلمة ضرب في القرآن ، أو اتجاه أن اللغة عندما تشكلت كانت انفعالاً كاملاً للواقع الحقيقي (11) بمعنى أن معرفة اللغة بجذورها الأولى سيقودنا لفهم أسرار الكون دفعة واحدة ، وفي تقديري أن الطريقة الأولى على الرغم من إغراءها لاتقود الى الحقيقة ، والثانية فيها عدم الأخذ بعين الاعتبار تدرج مرور الحقيقة الخارجية الى صورة ذهنية ؛ فالتعبير عنها الى الآخرين فكتابتها ، فالوجود الموضوعي يمر بــ ( فلترة )( FILTERATION ) ذات أربعة مستويات ، وكلها تدرجات وانكسارات محفوفة بمخاطر الانزلاق العقلي الكبرى ، فرؤية الشيء لاتعني أبداً أن الصورة الذهنية تساوي الحقيقة الخارجية ، والا لماذا حرق الناس من أجل رأيهم أن الشمس لاتدور ؛ بل الأرض هي التي تمشي في مدارها حول الشمس ؟! كذلك فإن تصوراً من هذا النوع سينهي الخلاف الانساني دفعة واحدة ، طالما كانت رؤية الوجود الموضوعي يقود الى تصور ذهني واحد لجميع الناس ، إن القضية ليست بهذه البساطة كما نرى إذاً.
إن منتقدي نظرية جرين بيرج حول أحادية الجذر يرون أن اللغة متعددة الجذور ، وأنها نشات في أماكن شتى في العالم ولاعتبارت اصطلاحية ، حيث انتقل الانسان من لغة الاشارات باليدين الى الترميز ، ومازالت حركات أيدينا وتعبيرات وجوهنا بواقي تلك اللغة القديمة البدائية قبل انتقال الانسان الى الترميز المجرد .
ولكن كيف يتكلم الانسان حقاً ؟ وماهي أدوات التصويت ولماذا يتكلم الانسان وتخرس بقية الكائنات ؟
نظرية عالم اللسانيات نعوم تشومسكي(12):
يرى العالم الأمريكي تشومسكي (NOAM - CHOMSKY ) عالم الالسنيات أن السر يكمن في إضافات خاصة للانسان مكنته من التصويت ، فالنطق يعتمد جهازين واحد للانتاج وآخر للإطلاق ، الأول عقلاني منظِم في منطقتين ، واحد لتنظيم القواعد الجراماتيك ، والثاني لتفسير المعاني . وجهاز التصويت فيزيائي بحت ، يعتمد إطلاق الصوت وتقطيعه وصدمه ونفخه في أماكن شتى بين الحلق والفم ، الرغامى والبلعوم ، الأنف والشفاه وتجاويف الجمجمة ، وهذه قد غُرست فينا بشكل جيني مختلف عن كل الكائنات ، فأما جهاز انتاج النطق أي كمبيوتر الكلمات فهو الدماغ ، ولقد عُرف أن الفص الجداري الأيسر يملك منطقتين منفصلتين لتنظيم الكلام ، الأولى مختصة بالتنظيم القواعدي والنحو والصرف وهي المعروفة بمنطقة (بروكا BROCA ) نسبة للجراح ( باول بروكا ) أول من أشار إليها عند أصابة الانسان بها والآثار المأساوية المترتبة على ذلك ، فهي تعطي الأوامر للحلق والحبال الصوتية بتقطيع الهواء ولللسان بالتقعر أو التجوف ، الاندفاع للأمام أو الاختباء للخلف ، وللفم بالفتح أو الانقباض ، وللأسنان بالتقارب أو التباعد ، في سيمفونية من أعجب ماخلق الله ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون ) فالنطق يبدأ من الرئتين مثل المنفاخين في قذف الهواء ، ليمر الهواء على حبال تهتز فتعطيه تردد وتر العود في الشدة المطلوبة ، لينصدم بعد ذلك على مسارات مختلفة تعطيه الأنغام بدون نهاية . أما المنطقة الثانية الحسية في قشر الدماغ الأيسر فهي منطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، وكلا المنطقتين مترابطتين بجسر مدهش من التعاون فالدماغ يعمل كوحدة كلية ، ولنا عودة تفصيلية في بحث الدماغ وعلاقته بالنطق واللغة والتفكير .
الاعتراضات على نظرية تشومسكي :
اعتبر نعوم تشومسكي أن الانسان يتفرد باللغة ، وأن اللغة حققت له تفوقاً نوعياً ، ولكن الاعتراضات توافدت في صورة تجارب ميدانية ليس آخرها مؤتمر ( تكسون )( TUCSON ) الأخير في ولاية أريزونا ، الذي عقد في أبريل من هذا العام ، عندما تقدمت السيدة ( ايرينه بيببربيرج )( IRENE - PEPPERBERG ) ببغاء يعد حتى الستة ويفرق بين الألوان والأشكال في صورة تجريدية ، كما أن فريقاً من العلماء أخذ الصغار الرضع للشمبانزي ، وبدأ في تربيتهم مثل الأطفال تماماً وبعد جهود سنوات استطاعت القرود تناول الطعام في صحون ، وقضاء الحاجة في تواليت ، وغسل أدوات الطهو ، ولكن كل الجهد المصبوب لم يصل الى درجة النطق عند الشمبانزي ( فيكي )( VICKY )سوى أربعة كلمات ( ماما .. بابا .. كاسة .. أعلى )( MAMA .. PAPA .. CUP .. UP.. )
تجربة آلان وبياتريكس جاردنر مع الشمبانزي واشو :
عمد الباحثان ( جاردنر )( ALAN&BEATRIX - GARDNER ) بعدها الى تجربة جديدة بعد الفشل الذريع في أي نطق للشمبانزي باعتماد طريقة التكلم مع الصم البكم ( لغة الاشارات )( AMERICAN - SIGN - LANGUAGE = ASL ) واستطاعا تحقيق إنجاز كبير في هذا الصدد وكذلك السيدة ( سافيج راوباوم ) من جامعة جيورجيا مع الشمبانزي كنزي ، فأما شمبانزي الزوجان جاردنر ( واشو )( WASHOE ) فقد وصل الى 132 مرادفة ، وأما كانزي وهو انجاز جديد فقد قفز الى 256 كلمة ، ولكن الشيء المؤكد في هذا الانجاز أن إمكانية الشمبانزي توقفت عند هذا الحد بمايشبه الاختناق ، في مستوى عقل طفل لايزيد عن عامين ، في جمل محدودة للغاية من مثل : أنا جائع _ الكرة هناك وهكذا . فالحيوان دخل الى عالم الكلمة ولم يبقى الانسان متفرداً الا في المدى والكم ، فالببغاء أخذ عقل طفل في الخامسة والشمبانزي فهم طفل في السنتين .
كيف تخرج الكلمات ؟
يرى الباحث الأمريكي ( فيليب ليبرمان )( PHILIP - LIEBERMAN ) في علم الأصوات (PHONETIKER ) الذي يعمل منذ ثلاثين سنة على فهم آلية تطور اللغة أن تمفصل ( ARTICULATION ) جهاز النطق والتمكن من إخراج الكلمات شيء سحري حقاً ، فخلق الانسان اعتمد قاعدة في غاية الجمال ، فجهاز التصويت لم يلجأ الى فتح ثقوب جديدة في الرأس ، بل استفاد من نفس فتحات الطعام والشراب ، ففي الوقت الذي تستفيد الحيوانات الثديية من الفم في الطعام والحلق للتنفس ، فإن حلق الانسان برزت فيه صفة تقدمية للغاية وهي دفع الحنجرة للأسفل ، وتحويلها الى جهاز نطق على حساب ( الشردقة ) في الطعام ، فالانسان لايستطيع أن يتكلم ويأكل بنفس الوقت خلافاً للقرود التي تسطح عندها الفم والبلعوم وصعدت الحنجرة الى الأعلى ، فالقرد يتفوق علينا بأنه يستطيع المضغ أفضل ، ويأكل ويشرب في نفس الوقت الذي يتنفس فيه ، في حين تراجعت هذه الصفة عند الانسان لينمو جهاز النطق الرائع من نفس مستودعات الأكل والشرب ، ليصبح كياناً واعياً ناطقاً يعبر عن نفسه ويحقق الاتصال بغيره ويفكر بواسطتها فاللغة لها ثلاث حقول جبارة : إمكانية أن يخرج مابداخل الانسان الى خارجه بالتعبير ، وبواسطة الاتصال مع بني جنسه من خلال الترميز برزت الحضارة للوجود ، واللغة ثالثاً هي أداة التفكير وفهم العالم كما أشار الى ذلك الفيلسوف الألماني هومبولدت (HUMBOLDT )(13) مابين رحلة نفثة الهواء من الصدر الى استقرار المعنى في الذهن يعمل جهاز عملاق من التنظيم العصبي حتى يتم تدفق الحروف وتآلف الكلمات وانسياب الجمل وتتابع الأفكار ، تتعاون فيه سبع عشرة عضلة في اللسان وثلاثة أعصاب في الرأس وحزام متدفق من السيالة العصبية ، مع مركز مستقر في نصف الدماغ الأيسر ينظم تدفق الحروف ، من خلال تنظيم عملية التصويت لأخراج النغم المناسب والكلمة المتزنة ، فالكلمة ملك لك قبل أن تنطقها فإذا نطقتها ملكتك هي ، والكلمة مسؤولية وليست خروج هواء بل هي إفراز عصارة الفكر ، ولذا تباينت ثقافة عن ثقافة في اختيار الكلمات وتحمل مسؤوليتها .
هوامش ومراجع
(1) سورة الذاريات الآية رقم 23 (2) ذكرت القصة بالكامل في المجلة الألمانية العلمية ( P . M . PERSPIKTIVE - DAS WUNDER DER EVOLUTION - 044 \ 96 ) ص 72 (3) جاء هذا التعريف في القاموس الألماني ( WAHRIG - DEUTSCES - WOERTERBUCH ) ص 2722 (4) كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم المعرفة _ رقم 67 _ ص 12_13 يقول صاحب الكتاب (( وكان هدفه من إجراء هذه التجربة معرفة ماإذا كان الأطفال سيتكلمون اللغة العبرية التي كانت الأقدم أو اليونانية أو العربية أو اللغة المحلية في صقلية التي يتكلمها آباؤهم وأمهاتهم ، ولكن جهده ذهب عبثاً إذ مات جميع الأطفال الذين دفع بهم الى التجربة ، ذلك أنهم لم يستطيعوا العيش بدون تدليل المرضعات ورؤية وجوه باسمة وسماع كلمات أو أصوات تشعرهم بالحب والحنان ))(5)المجلة المذكورة ( الاتصالات ) عدد 12 عام 1989 م ص 37 المقالة عن النطق عند الحيوان والانسان بقلم ( P . J . BLUMENTHAL )(6) راجع القصة المثيرة في الكتاب السابق بنو الانسان ص 10 (7) نفس المصدر السابق ص 11 (8) مجلة الشبيجل عدد 42 عام 1995 م ص 238 (9) في مشروع عابد الجابري المفكر المغربي في كتابه دراسة بنية العقل العربي يصل الى هذه المحصلة المؤسفة من توقف فضاء النمو في اللغة العربية (10) كتاب المستصفى من أصول الفقه _ الغزالي _ الجزء الثاني ص 23 (11) يراجع في هاتين النقطتين كتاب شحرور القرآن والكتاب وكتاب محمد عنبر جدلية الحرف العربي (12) يعتبر نعوم تشومسكي عالم مرموق في اللسانيات ، كما أنه ناقد اجتماعي سياسي قوي ، ولعل كتابه ردع الديموقراطية أو فبركة القرار من الكتب التي تكشف عورة الديموقراطية الغربية (13) كتاب فلسفة اللغة _ تأليف الدكتور محمود فهمي زيدان _ نشر دار النهضة العربية ص 57 (( عند همبولدت الذي رأى أن اللغة ليست مجرد أداة لتوصيل أفكارنا الى الآخرين ولكننا لانستطيع إدراك العالم أو معرفته الا عن طريق اللغة وهذا الادراك مستحيل بدون استخدام اللغة )) ويعلق المؤلف على ذلك بقوله : ان الانسان بلغ انسانيته حين استخدم اللغة فالنطق ليست مهمتها توصيل المعلومات بين فرد وآخر وإنما هي التي تحدد تصورات العقل .
لغات التعلم الثلاث ( 1-2 )
( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة )
يظن الانسان أنه يتعلم اللغة من المدرسة ، ويظن أن نقل الأفكار والمعرفة تتم بالكلمة المطبوعة ، ونقول عن الانسان أنه أميِّ من لايحسن توقيع اسمه .
المسلمات الثلاث كلها خاطئة . اللغة يتعلمها الطفل بالسماع قبل كتابة حرف واحد ، وهي الطريقة المثلى لتعلم لغة جديدة . وهناك قبل اتقان اللغة سماعياً مرحلة أعمق وأهم وهي لغة لاتنطق بل يتعلمها الطفل من سيما الوجوه . فاللغة كما نرى تتدرج في ثلاث مراحل ، باختراق ثلاث حواجز ، تركبها طبقاً عن طبق .
طبقة اللغة العميقة تتقن بالاشارات وتعبيرات القسمات بدون حرف واحد . الطبقة الثانية أقرب الى السطح وتتقن من البيت والبيئة بالتصويت ، بلفظ الحرف قد اعتلى متن الفيزياء وموجات المادة . الطبقة السطحية الظاهرة تتم عن طريق المدرسة بإتقان رسم الحرف والكلمة ونظام الخطاب بواسطة الكتابة المقروءة . الأولى تشكيلية والثانية تركيبية فوق الأولى والثالثة عائمة سطحية ظاهرة يراها الجميع . الأولى تفرز السلوك وتشكل العواطف العميقة . الثانية تبني عالماً جديداً يعتمد الصوت والحنجرة والألفاظ ، الثالثة هي حقل الخلاف الانساني لإنها سطحية عائمة تتملص وتتفلت بعنف وقوة ولاتعبر تماماً ولايتفق الناس حولها . لابد من تفكيك الكلمات وإدراك نظم الخطاب . كتب فيلسوف الحداثة الفرنسي ( ميشيل فوكو ) كتاباً كاملاً بعنوان ( نظام الخطاب ) وقبله كتب الجاحظ كتابه اللامع ( البيان والتبيين ) من أصل أربع كتب تعتبر أجود كاتب في اللسان العربي القديم ، ( مثل الكامل للمبرد والأمالي للقالي ) . نظام الخطاب والكلمات المكتوبة هو مايتصارع البشر حوله ، فيما يعرف بمشكلة النصوص ، كونها مكتوبة بالكلمة المقروءة .
لاتعتبر ( لغة المدرسة ) أكثر من نهاية المطاف في رحلة اللغة بثلاث عتبات ، طبقاً فوق طبق . استطاع الانسان نقل الأفكار فيزيائياً بالصوت ، ولقن الطفل الكلام ؛ فاللغة سماعية ، وتعلم اللغة عند الطفل يعتمد الأذن قبل رؤية حرف واحد ، ويبقى تعريفنا للأمي قاصراً ، فالذي لايجيد الكتابة يكون قد مخر عباب أوقيانوس اللغة ( سيميائياً ) وبالصوت .
المعرفة ( السيميائية )
هناك ( لغة فكرية ) ليس لها اسم ولايلتفت إليها الناس ، وهي أهم مراحل تكوين الطفل عقلياً ، يبدأ الطفل فيها رحلة تكوينه العقلي ، لغة لاتعتمد الصوت ولا الرسم ، لاالنطق ولاالكتابة ، بل عمل ( السيمياء ) والايحاء ، أو في تعبير القرآن ( فلعرفتهم بسيماهم ) ثم يضيف ( ولتعرفنهم في لحن القول ) ؟!!
اللغة تشتغل هنا ليس من ( الموجة الأساسية ) للقول بل من ( اللحن الجانبي ) فقد يقول أحدهم ( السلام عليكم ) وكلماته وتعبيرات وجهه تقول ليتني لم أرك ولم أجتمع بك . فهنا يتشكل نوع جديد من ( المعرفة ) في ( سيما الوجوه ) و( اللحن الإضافي ) في ذبذبة الصوت ، وإفرازات السلوك المتناقضة .
عالم الكلمات السحري
نحن هنا أمام حاجزين عجيبين لعالم الكلمات السحري . هناك لغتان أضافيتان غير المنطوقة المتعارف عليها ، وغير المكتوبة التي يتنازع البشر حول تفسير نصوصها .
في حرب الخليج الأخيرة لم تحل الأزمة باستنطاق النصوص ، كما لم تقد المؤتمرات التي انعقدت في كلا الجانبين الى أي انفراج ، والذي حلها في النهاية ( بيزنطة ) بدون نصوص ، ولحاجة في نفس يعقوب قضاها . مازال نص الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة بالقوة مفتوح لعالم كامل من التأويل بإضافة حرف واحد فقط ، هل الانسحاب من أراضي ( عربية ) أو من الأراضي ( العربية ) . حرف ( الـ ) العجيب هذا في النص الانكليزي ( THE ) قلب ظهر المجن وفتح الباب لتفسيرات لانهائية ، في شهادة صاعقة عن مشكلة ( استنطاق النصوص ) .
نحن نعرف أن أول صراع في الاسلام تم فيه استدعاء النصوص ، ولم يكن الذي رفع المصاحف على رؤوس الرماح بأنزه الطرفين وأتقاهما .
غضبت عائشة (ر) عندما سمعت كلمة التحية من اليهود وهم يدخلون مجلس رسول الله (ص) وغضب هارون الرشيد من التحية واطراءه بالعدل ؟! السبب هو ( لحن القول ) فاليهود لفظوا ( السلام ) بابتلاع حرف اللام خفية فأصبحت اللفظة ( السام ) بمعنى الموت ، فردت عليهم عائشة وعليكم ( السام واللعنة ) فقال المعلم الأكبر ( ص ) لقد رددت عليهم بقولي ( وعليكم ) فكان الجواب يغطي كل الاحتمالات بذكاء وخلق وافتراض حسن النية بالآخرين . المرأة البرمكية التي حيت هارون الرشيد قالت له تمدحه ( حكمت فقسطت ) ؟! بإسقاط حرف ( الألف ) فتحولت الكلمة من ( أقسطت ) الى ( قسطت ) من العدل الى الظلم ؟! إن الله يحب المقسطين بمعنى العادلين ولكنه يحكم على القاسطين أنهم كانوا لجهنم حطبا ؟!
الفرق هائل بين ( السام والسلام ) وبين ( المقسطين والقاسطين ) إنها لعبة خطرة تراهن على لحن القول . وتبقى اللفظة بريئة فنحن من يشحنها بالمعنى ، أو نفرغها ونعيد تعبئتها من جديد ، في آلية تجري في كل لغة انسانية .
النفس في حالة مخطط لايعرف الراحة
اعتبر القرآن ( الإيمان ) شبيه بهذا ؛ فطالما حصل التصميم على عدم مراجعة الموقف
و اعتماد ( الأحكام المسبقة ) وتعطيل آلية ( النقد الذاتي ) وأغلاق منافذ الفهم ( صم بكم عمي فهم لايعقلون ) فلن ينفع فيه أي نص أو آية أو معجزة ( ولوجاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ؟! الكفر هو التغطية والستر . من هنا عبر القرآن عن المزارعين الذين يغطون الحبة بالتراب أنهم ( كفار ) ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) . تعطيل منافذ الفهم والمراجعة والتأمل يدخل الانسان هذه الحلقة النفسية المعيبة التي يسميها القرآن (الكفر) ويراها علم النفس ( وضع نفسي ) قابل ان ينزلق باتجاهه أي انسان ، كثقب أسود متربص للشفط في كل حين . الحديث حثنا على الدعاء دوماً أن لاتموت قلوينا . اعتبر القرآن بالمقابل حالة الإيمان أنها وضع نفسي تنشرح فيه النفس ( أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه )( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ) . الإيمان والكفر حالة نفسية . النفس في حالة تذبذب ورجرجة لاتتوقف وفي مخطط صعود ونزول ، وعلى الانسان أن يسأل نفسه دوماً في أي نقطة من المخطط تسكن نفسه ؟ هل هو في حالة انشراح في معظمها ؟ إن الميل أو الاتجاه ( TREND & TENDENCY ) يحكم على الوضع ، ويوم القيامة هناك نظام كمبيوتري خاص يحاسب الانسان بموجبه نفسه بنفسه ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
مراحل التشكل الفكري عند الطفل
من الأهمية أن نعرف كيف تتشكل ( الخرائط الذهنية ) عند الطفل ومراحل تأسس اللغة وجدليتها مع ( الفكر ) و( الواقع أو التاريخ ) ؟؟
يمر الطفل وهو يتكون ( فكرياً ) بثلاث مراحل جوهرية :
1 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( السلوك ) فيقرأها الطفل من كتاب الوجوه والتصرفات
2 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( الكلام ) فتنتقل الفكرة على متن الصوت فيزيائياً .
3 ـ مرحلة تلقي ( الأفكار ) بواسطة الكتاب والقراءة ؛ فيحدث التحول العقلي ونقل المفاهيم بنبضات الضوء الكترونياً .
تبدأ المرحلة الأولى بعد الولادة مباشرة ، عن طريق التأثر بالمحيط ، وينقل الطفل رغباته بلغة لاتعتمد الحرف ، مثل تعلم قضاء الحاجة بالبكاء ، ثم يتم امتصاص المفاهيم عن طريق قراءة ( كتاب الوجوه ) فيتأمل السحنة الغاضبة والتعبير الحاقد ، تكشيرة العبوس وتقطيب الوجه ، استرخاء الضحك وبشاشة الابتسام ، ارتفاع الأصوات الغاضبة ، أو هدوء وروحانية الأصوات الراضية . كلها تنتقل على ظهر الموجة الفيزيائية الضوئية ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها الانسان عربية كانت أم ألمانية ؛ فنحن نعلم أن المتكلم غاضب وإن كنا لانعرف لغته التي ينطق بها ، والطفل يمتص معنى الحرام والعيب والمحظور والجيد من المواقف والتصرفات أكثر من الكلمات والحروف ؛ فهو دائم التحديق في وجوه من يحيط به خاصة الوالدين ؛ فيمتص السلوك المقبول والمرفوض ، من الانفعالات ومؤشرات تعبيرات الوجوه وتلويح اليدين . ويبقى تصرف الطفل في معظمه ارتكاساً للمحيط ، هل يعزز تصرفه أم يثبطه ؟؟ وكلها تحدث بطريقة لاتعتمد الوعي ، بل الايحاء والتقليد .
الطفل دائم التطلع الى وجوه القوم المحيطين به يقرأ التعبيرات ويفسر السحنة ؛ بصرف النظر عن نوع الحروف والكلمات ؛ فإذا تصرف الطفل أدنى حركة درس ارتكاس الوسط المحيط به ، وكله يتم بآليات اللاوعي ، فهي لغة سلوكية ، ويتم الفهم فيها والإرشاد بالتصرف لابواسطة اللغة .
نحتاج الى الى ابتكار اسم جديد لهذا الاسلوب في التلقي غير اللغة ، والبعض يسميه نظام الفكر ، ويمكن أن نسميه اللغة التحتية ، أو الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والقيم .
هذه المرحلةتشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت التشريح المجهري فيمكن فك أسرار حديث الفطرة ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ؟!
هذه اللغة التحتية تتغلغل وتستحكم في الطفل قبل أن ينطق خلال السنتين والثلاث الاوائل الحاسمة من عمر الانسان .
نمو الحنجرة التشريحي سبب النطق
نحن نعرف اليوم من علم ( الانثروبولوجيا ) و ( التشريح ) أن النطق عند الانسان قريب العهد بسبب تشريحي بسيط هو نمو ( الحنجرة ) . الطفل والقرد كلاهما لايستطيع التصويت والنطق . أكثر ماكشف في عالم القردة إطلاق صيحات محدودة لاتتجاوز الخمسة تنبيهاً لمخاطر الغابة . الطفل بعمر السنة تبقى حنجرته أقرب الى حنجرة الشمبانزي قبل ان تكبر وتبدأ بالتصويت . حجم الدماغ ونمو الحنجرة هو الذي قاد الى النطق وانبثاق العقل . الطفل عندما يولد يكون دماغه بنصف حجمه الأصلي بسبب بقاءه تسعة أشهر فقط في الرحم ، حتى يولد مكتمل الرأس والدماغ لابد له من ضعف المدة وحوض انثوي خرافي الحجم . هذا السبب البيولوجي يفسر تأخر النطق عند الطفل وعجزه الكامل عند الولادة . العجل يمشي بعد ولادته بلحظات ، والأرانب تزحف بعد ولادتها بساعات وتركض خلال أيام . التطور الروحي الحركي عند الانسان يستغرق سنوات ؛ فهو عند الولادة أضعف مخلوقات الله قاطبة ، في تناقض وجودي يدعو للتأمل . القرود بسبب انخفاض حنجرتها تستطيع الأكل والصياح معاً ، بسبب زحف الحنجرة عند الانسان للأعلى يجب أن يكف الانسان عن الكلام عند الطعام والا ( تشردق واختنق ) لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم . بين نفخ الرئتين واهتزاز الحبال الصوتية وانطلاق الهواء بين اللسان والحلق والأضراس ، وعمل الأجواف المجاورة في البلعوم كحجرات طنين ، مكَّن الانسان من النطق والترميز من خلال لغة مفتوحة ، وعلم آدم الأسماء كلها . ولكن هذه هي اللغة الصائتة المنطوقة . اللغة الأخرى هي اللغة الصامتة تشكل البنية التحتية لنظام الخطاب .
جبل الجليد الثقافي
البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار .
المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة )
الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة
هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟! لكن ( الكتبة والفريسيين ) لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون .
المرحلة التشكيلية في حياة الطفل
إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل .
لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون .
لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون .
قارة جديدة في عالم الوعي
المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث .
ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها .
المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة .
حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة
مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية .
إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية .
الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس .
نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو )
المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب .
قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة
كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) .
الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد .
العمليات الجراحية على الثقافة
كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها .
كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة .
جدلية الكلمة
الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك ))
نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) .
قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام )
وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت .
تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت .
تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة .
نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف .
لغات التعلم الثلاث ( 2-2 )
( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة )
جبل الجليد الثقافي
البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار .
المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة )
الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة
هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟! لكن ( الكتبة والفريسيين ) لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون .
المرحلة التشكيلية في حياة الطفل
إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل .
لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون .
لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون .
قارة جديدة في عالم الوعي
المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث .
ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها .
المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة .
حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة
مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية .
إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية .
الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس .
نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو )
المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب .
قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة
كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) .
الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد .
العمليات الجراحية على الثقافة
كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها .
كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة .
جدلية الكلمة
الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك ))
نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) .
قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام )
وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت .
تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت .
تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة .
نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف .
البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية
البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية مصدرها ثلاث كلمات باللغة الإنكليزية هي: Neuro-linguistic-programming وتختصر بثلاث حروف هي: NLP. والذي تقدم بهذا المصطلح هما عالمان في اللغويات هما: (جون غراندر) وعالم الرياضيات (ريتشارد باندلر) في عام 1975م في كتاب بعنوان (بنية التخيل Structure of Magic). وهذا العلم في الواقع ليس جديداً تماماً فقد اشتغل عليه (الفلاسفة) و(الصوفية) و(المربون) و(مدارس علم النفس) منذ فترة طويلة. وخلاصته هي فهم تشريح العقل الإنساني وكيف يتصرف الإنسان ومن أين ينبع السلوك؟ وصولاً إلى شيء خطير يزعمه الكثيرون هو (التحكم) بالسلوك الإنساني. واعتبر عالم النفس الأمريكي (سكينر) من مدرسة (علم النفس السلوكي) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الإنساني Beyond Freedom and Dignity) أن "العقل لا يزيد عن خرافة وأن الكرامة وهم"؟ وهو يذكر بفكرة عالم الاجتماع العراقي (الوردي) عن العقل الإنساني أنه عضو يحقق وظيفة البقاء ولا يبحث عن المنطق والعدالة والحق كما يردد ذلك المتحاورون في الفضائيات. ويقول الوردي أن العقل الإنسان جعل لابن آدم مثل ناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة كي تمكن الحيوانات من متابعة البقاء. وكل الحديث عن الحقيقة النهائية والعدل المطلق والعقلانية خرافات؟
وعالم النفس (سكينر) يريد الوصول بهذا إلى نوع من العلم نتحكم من خلاله بالسلوك الإنساني كما نتحكم في مسار قمر صناعي نطلقه إلى الفضاء. وبالطبع فإن ادعاءً كبيراً كهذا يدخلنا إلى شيء خطير في تحويل الإنسان إلى إنسان آلي (روبوت)، ويصبح سلوك الإنسان لا يزيد عن إفراز هورموني يمكن التحكم فيه.
ويرى عالم النفس (بريان تريسي) في كتابه (أسس علم نفس النجاح) أن الإنسان يشبه (الكمبيوتر) مع الفارق الهائل في التعقيد، ولكنه مثل أي جهاز يحتاج إلى كتاب (تعليمات التشغيل Manual Instruction) كما هو الحال عندما نشتري (فاكسا) فنتحكم به ونعرف أسراره عن طريق كتاب التشغيل.
وتقول الدراسة أن 3% فقط هم الناجحون في الحياة ويرفع (تريسي) الرقم إلى 5% ويدعي الفريق الذي قام بالمقارنة بعد عشرين عاماً من الدراسة أن حصيلة النجاح الذي حققته مجموعة 3% كانت تفوق عمل 97%. والمشكلة في الإنسان أنه يأتي إلى الدنيا لا يعلم شيئاً وعنده السمع والبصر والفؤاد أي الاستعداد للتشكل، وهي الفكرة التي طرحها (ديفيد هيوم) في كتابه (عن الطبيعة البشرية) أن الدماغ الإنساني يشبه لوحة شمع للتشكل. ولكن (ايمانويل كانت) قال بشيء اسمه (المقولات العقليةCategorical Imperative) أي أن الدماغ الإنساني مركب على نحو مسبق لنقل الحواس الخام إلى قالب مدركات ثم أفكار. ولولا هذا لكانت رؤية البقرة للعالم ورؤيتنا واحدة، ولكن حصيلة هذه الرؤية مختلفة جذريا بين الإنسان والحيوان ومصدر الإرسال واحد.
ويعتبر الدماغ الإنساني هو مركز التعقيد الفعلي لأنه المكان التشريحي والفيزيولوجي الذي تجري فيه العمليات العصبية بدءً من التصورات وتحليل المعلومات واستيعابها وخزنها بالذاكرة وانتهاءً بالنطق والاتصال. وبعد الوصول إلى فك كامل الشيفرة الوراثية اصطدم العلماء بحقيقة أن أكثر (الجينات) تعمل لمصلحة الدماغ وعلى نحو تبادلي برقم فلكي مرعب. ونحن نعرف اليوم أن خلق الإنسان يتم من خلال حوالي 140 ألف أمر (جيني). ولكن الرقم التبادلي هو الذي يصيبنا بالدوار. فمثلاً عرف أن (الجينات) أي الأوامر الوراثية المسؤولة عن تنظيم (الضغط الدموي) ليست (جيناً Gen) واحداً مفرداً بل حوالي 200 جيناً في ضفيرة متبادلة التأثير.
و حتى نقترب من التعقيد المخيف في أدغال غابة المخ فعلينا ملاحظة لوحة الفيديو الداخلي ، فإذا كانت لوحة الفيديو فيها مائة نقطة فالدماغ فيه لا يقل عن مائة مليار خلية (عصبية). ومعنى هذا أن عمل الجسم يقوم على شبكات (لانهائية) إذا أخذنا في عين الاعتبار أن كل نورون عصبي هو كوكب دري في سماء الدماغ، وهي ليست مجرات تتباعد عن بعضها كما في النظام الفلكي، بل خلايا عصبية تتصل فيما بين بعضها البعض بمحاور على نحو مذهل. وكل خلية عصبية عندها لا يقل عن ألف ارتباط وبعض خلايا المخيخ مثل خلايا بوركنج عندها 200 ألف ارتباط.
وحتى الآن نحن على السطح التشريحي ولم ندخل الدغل المخي تماماً، ومما كشف عنه أن الوعي هو شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق. ومما عرف أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن لا يشتغلان سوية وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل. وهذا يعني أن الإنسان يشكل معادلة غير قابلة للحل عملياً.
وتذهب مدرسة (اريكسون ملتون) في محاولة لاكتشاف علاقة اللغة بالعقل الباطن. فاللغة العليا تكلم الوعي المباشر أما (اللغة الرمزية) فإنها تتسلل إلى العقل الباطن فتكون أبلغ في التأثير. ومنه نفهم معنى ما قاله علماء البلاغة أن المجاز أفضل من الحقيقة أحياناً، وأن الكناية أبلغ في الإفصاح، وأن الاستعارة أقرب من التصريح. وهدف (قصص ألف ليلة وليلة) كانت محاولة لمداواة مريض نفسي محطم مغرم بالقتل هو الملك شهريار من خلال القصة التي تنفذ إلى اللاوعي (مباشرة) فتعالجه على نحو (غير مباشر).
والهندسة النفسية تحاول فك هذا اللغز الإنساني لفهم جدليته المحيرة. وقديما حاول الإمام الغزالي فهم مراتب الوجود فقال بأن الحقيقة تمر من خلال مستويات تضعف فيها المرة بعد المرة كما يمر الضوء عبر أوساط شفافة مختلفة فيتعرض للانكسار في كل وسط يتخلله. فبين الحقيقة الخارجية وكتابتها مراحل من (المفلترة المشوشة) قبل أن تصل إلى مرحلة النطق اللغوي وتختم باللغة المكتوبة في النهاية.
ومن هنا فإن طبيعة الاتصالات بين (الكتابة) أو (النطق) أو (المقابلة الشخصية) تدخل الخلل إلى صحة المعلومات على نحو مأساوي. بسبب أن (الكلمة) ناشفة بريئة ولكن (النطق) يحمل (لحن القول). والرؤية تحمل قسمات الوجه وما تخفي السريرة "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول". فهنا تدخل على الخط لغة جديدة هي (اللغة السيميائية).
وقام فريق بحساب مقدار وصول المعلومة أي (المردود الاقتصادي) الفعلي للحقيقة المشوهة من خلال الكلمة (المكتوبة) أو (النطق) أو (المقابلة المباشرة) فكان على الترتيب 7% ثم 38% ثم 55% ويعني هذا أن المعلومة مع كل المحاولات لا تنفرغ عصبيا بشكل كامل، وربما سيحدث هذا للمستقبل إن استطعنا أن نفعل هذا كهربيا بتفريغ كامل شحنة الأفكار والتصورات من دماغ إلى دماغ أو من الكمبيوتر إلى الدماغ وبالعكس. مع ملاحظة أن ما يستقبله الدماغ هو قسم ضئيل من الحقيقة لأنه يتغذى بالحواس الثلاث الأساسية ويرمز لها VAKمن أصل ستة حواس وهي مختصر للرؤية والسمع والحركة(Visual Auditory Kenthetic). وهي محدودة بشق بسيط من كون حافل بالموجات.
والخلاصة التي نصل إليها ثلاثة أمور: إن كل من يدعي فك أسرار الإنسان نهائيا هو إما مغفل أو مدعي. وأن الإنسان يشبه المحيط يتم اكتشاف بعض الجزر فيه من حين لآخر تنفع في الرسو ومتابعة اكتشاف هذا المحيط الذي لا يكف عن الاتساع. وثالثا أن من يدعي فهم كامل الإنسان من اجل السيطرة على تصرفاته واهم. حيث تتكسر كل نظرية عند عتبة قدمي الإنسان. وهذا بكلمة أخرى يعني أن الإنسان مجهول ومعلوم بنفس الوقت في زاوية تزداد اتساعا ومع كل جواب تقفز من جديد مجموعة أسئلة.
والمهم فهناك من يدعي هندسة نفسية يمكن بواسطتها التحكم في الإنسان؟ ونحن نعرف من تاريخ العلم أن علم نفس (الفرينولوجيا) تحمس له العلماء كثيرا ولم يكن يتطلب أكثر من تمرير اليد على الجمجمة وتعرجاتها للحكم على ملكات الإنسان وطبيعة كيميائه ومزاجه. ثم ظهر أنها لا تزيد عن دجل.