جاء في كتاب ( الخواطر ) للفيلسوف الفرنسي باسكال ( PASCAL ) مايلي : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ولكن هناك لانهائية أخرى هي لانهائية صغر الذرة ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .. إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهائية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور ، فماهو الإنسان بعد كل هذا في الطبيعة ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل إلى استكناهه ، وهو عاجز على السواء عن رؤية العدم الذي أُخذ منه واللانهائي الذي يغمره )) ( 1 )
إذا لم نعرف كيف كان الإنسان ( قبل ) عشرة آلاف سنة ، فإن القفز عبر الزمن لرؤية مصير الإنسان ( بعد ) عشرة آلاف سنة ، يصبح ضرباً من المستحيل ، فالوجود الإنساني في حالة صيرورة وكم معرفي تراكمي ، ومعرفة البدايات يعطي تصوراً عن تشكل النهايات ، ذلك أن المجتمع الإنساني لايبقى على حال ، بل هو في حالة ديناميكية متغيرة متطورة نامية ، ومالم يتشكل عندنا بانوراما - نظرة شمولية ( PANORAMA ) للرحلة الإنسانية عبر التاريخ ، ومعرفة المنحنى البياني للصيرورة الإنسانية ، فإننا سوف نبقى نوجه أصبع الاتهام تجاه الإنسان ، ولانرى فيه إلا مارأته الملائكة : أنه كائن مجرم وشقي مخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) ( 2 ) ولكن توقع الملائكة هذا يمثل نصف الحقيقة فقط ، ولمعرفة بقية الحقيقة للاقتراب من رؤيا شمولية ومسح طوبوغرافي للطبيعة الإنسانية ، فإن قراءة التاريخ والانثروبولوجيا وعلم الحضارات وقوانين المجتمع ، سوف تسعفنا في إلقاء الضوء على فهم المصير الإنساني بشكل مختلف في ضوء جواب الله تعالى للملائكة ( إني أعلم مالاتعلمون ) .
**********************
في مقالتي السابقة عن ظاهرة ( انطفاء العقل ) وأثر ذلك في مركب ( الانحطاط ) الذي تسلط على الجسم الإسلامي ، وكانت أفظع تجلياته ولحظة الانكسار الكبرى في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، الذي لم يرتفع عنه حتى اليوم ، فإن هذه المقالة خصصت نفسها ليس لمسيرة الحضارة الإسلامية ، بل لرحلة الإنسان عبر التاريخ ، وبفهم طبيعة هذه المرحلة ، وبتجميع نقاط حركتها في المنحنى البياني التاريخي ، يمكن الاقتراب لفهم أفضل لآليات الحركة التاريخية .
************************
ياترى كيف يمكن التوصل إلى معرفة حقيقة عمر الأرض والشمس ؟ وكم أصبح للإنسان وهو يدب على ظهر هذا الكوكب ؟
يطيب لأفلام الخيال العلمي إظهار الإنسان مع الديناصورات ، ولكن هذا الترافق الزمني غير صحيح ، كما كشفت عنه الأبحاث العلمية الجديدة ، فبعد اختفاء الديناصورات بفترة طويلة ظهر الإنسان ، فالديناصورات دبت على الأرض بأطنانها الثقيلة وأدمغتها الصغيرة قبل 570 مليون سنة ( 3 ) واختفت عن وجه اليابسة قبل حوالي 65 مليون سنة ، في حين أن بدايات الإنسان ظهرت قبل حوالي ( 2.3 ) مليون سنة ، وفي هذا الصدد يواجهنا سؤال ملح
هو : كيف استطاع العلماء تحديد هذه الأشياء وبهذه الأرقام ، وليس هناك من أثر تاريخي أو وثيقة تقر على هذه الحقيقة ؟ كيف تم استنطاق الوجود وبأية وسيلة تم معرفة عمر وسيرة حياة هذه الكائنات ؟ إذا كانت الديناصورات وطأت الأرض بهياكلها العملاقة وأنيابها المرعبة وأدمغتها القاصرة ، قبل نصف مليار سنة فكم أصبح للحياة على وجه الأرض ؟ سواء وحيدات الخلية ، أو عديدات الخلايا ، متمثلة في بقية الحيوانات من زواحف وطيور وحيوانات ثديية ؟ بل كم أصبح للكون من عمر ؟ ومتى تشكلت المجموعة الشمسية ؟ ومتى بدأت الحياة على وجه البسيطة ؟ وأين تقع الحياة الإنسانية في هذه الرحلة الطويلة ؟!!
******************************
لابد إذن من معرفة ( الأداة ) التي يمكن بواسطتها استنطاق الشجر اليابس والحجر الصلد ، النجم اللامع والهيكل الرميم ، عن عمره فيما أفناه ؟ ومنذ متى غُيب في أحشاء الثرى ؟؟ فــ ( اللغة ) هنا التي تنطق ، تختلف في طبيعة أقلامها ومدادها وورقها ، والقرآن أشار إلى أعضاء تتكلم ليس في طبيعتها النطق والإفصاح عن نفسها ، بل يمضي القرآن أبعد من هذا ، حيث يُنطق من ليس في طبيعته النطق ، ويُسكت من في طبيعته النطق (( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم )) ( 4 ) فالفم الذي للنطق يُغلق ، وتبدأ اليد بالكلام على طريقة جديدة ولغة مستحدثة لابد من ترجمتها ، وتفسير حركاتها ، فالأصابع لاتنطق ولكن بأمكانها أن تكتب وتشير وتنقر وتعزف وتضغط وتلمس وترسم وتنحت وتشكل ، فأمامنا شريحة واسعة من إمكانيات التعبير الجديدة . فــ ( اللغة ) يعبر بواسطتها عادةً إما نطقاً أو كتابةً ، وهي الشكل التجريدي الراقي عند بني البشر ، ولكن الطبيعة لها لغةُ نطقٍ مختلفة ، فهي لاتصوت أو تكتب على طريقتنا ، بل على طريقتها الخاصة بها ، وماعلينا سوى اكتشاف هذه اللغة من واقع الطبيعة ، وأشار القرآن إلى إمكانية أن تتحدث الأرض ( يومئذ تحدث أخبارها ) ( 5 ) إلا أن هذا الحديث ليس تصويتاً بشرياً ، بل نطقاً خاصاً بالشجر والحجر علينا أن نفهمه بعد ترجمته ، وانتبه ( غاليلو ) سابقاً إلى حديث الطبيعة هذا فاعتبر أن الطبيعة كتبت بلغة خاصة وهي لغة رياضية ، علينا اكتشافها وصياغتها على شكل معادلات ، وأصاب غاليلو في حديث الطبيعة التي تتحدث بطريقتها الخاصة ، ولكن حديث الطبيعة يبقى حديث الطبيعة الذي تمثل المعادلات تعبيراً غير نهائي عن حقيقتها ، فالطبيعة هي أكبر من الطب والهندسة والرياضيات والاقتصاد والمعادلات ، فلا يمكن قياس العواطف والتجليات الروحية مثلاً بالغرامات أو درجات السلم الزئبقي ، بالسنتمترات المكعبة أو الفهرنهايت على الشكل الذي افترض غاليلو!! عملية استنطاق هذه ( اللغة ) من الطبيعة هي التي حرمت المؤرخين قديماً من عدم إمكان الغوص في بطن التاريخ لمعرفة كيفية بدء ( خلق الأشياء ) (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )) ( 6 ) بسبب عدم انتباههم إلى إمكانية هذه اللغة الجديدة ، إلى درجة أن شراح العهد القديم في أوربا اعتبروا أن العالم بدأ في العام 4004 قبل الميلاد ، وهي التي منحت العلماء اليوم ، وبطرق علمية مختلفة معرفة عمر العناصر المعدنية ، والشجرة المعمِّرة ، والصخرة الراقدة عبر الأحقاب الجيولوجية ، والهياكل العظمية التي حفظتها طبقات الأرض ، المدن التي طواها التاريخ ، والحضارات التي انهارت ولفها ليل الزمن .
لم تعد الإمكانيات محصورة في تحديد عمر الشجرة فقط من خلال حلقاتها الداخلية ، بل حتى قراءة هذه الحلقات على شكل ( سيرة ذاتية - C . V. ) ومعرفة سنوات الخصب من الجفاف التي مرت خلال حياة الشجرة ، كُتبت القصة وحُفظت ووُثِّقت وخُتمت بختم ( الواقع ) الذي لايكذب ولايزور ، لايحرف النصوص أو يؤولها ؛ فهي وثيقة أكيدة سطرتها يد الزمن كوثيقة أصلية غير مزورة ، لذلك كانت طبقات الأرض في حفظها للنصوص التاريخية ووقائعه أدل على نفسها بنفسها من أي نص كتب عنها مهما كان مصدره ، كل ماتحتاجه هو المحاولة الدؤوبة لفك ألغاز هذه اللغة ، كما حصل مع حجر رشيد في مصر .
**************************
وإذا امتلكنا هذه الأداة سواء من خلال العناصر المشعة في الطبيعة ، مثل اليورانيوم أو الراديوم وسواهما ، أو الكربون 14 من الشجر ، أو الحفريات المختومة مثل البصمات على الحجر وفي طبقات الأرض ، أو حلقات الشجر الداخلية ، أو تحليل كلس العظام في الهياكل العظمية ، أو التحليل الطيفي لــ ( اللون ) القادم من المجرات ، كما في ظاهرة ( دوبلر والزحزحة الحمراء ) ( 7 ) التي طبقها العالم الأمريكي ( إدوين هابل ) لاكتشاف تباعد المجرات وظاهرة تمدد الكون . كل هذه الأدوات المنوعة يغوص الإنسان بواسطتها مثل أدوات الجراح في قاعة العمليات ، ولكن الحقل هنا هو الوجود كله وليس جسم المريض ، فيتأمل المجرات بالتلسكوب ، والباكتريا بالمجهر ، ينبش طبقات الأرض بحثاً عن الهياكل العظمية وبقايا الحفريات ، يقلب النظر في مخلفات المدن البائدة والحضارات التي ابتلعتها الأرض ، فيصل ليس فقط إلى ( عمر ) هذه الأشياء ، بل إلى تسجيل ( موثق ) إلى أبعد الحدود ، وبدون أي تزوير للقصة الكاملة التي حدثت . إن بصمات المجرمين ومخلفات الشعر والدم تقود إليهم مهما أقسم أحدهم بالأيمان المغلظة أنه لم يرتكب الجريمة ، لإن آثارهم تنطق بشكل حيادي وموضوعي عما حدث ، فإمكانية الخطأ بين بصمة وأخرى هي بنسبة واحد إلى 64 مليار ، فالخطأ هنا ممتنع ، ولعل الآية القرآنية أشارت بشكل خفي إلى هذا السر في تفرد البصمة ، من أن البعث سوف يكون كاملاً غير منقوص بما فيها البصمة ( البنان ) التي هي تفرد قائم بذاته لكل شخصية إنسانية ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) ( 8 ) كذلك الحال في ( بصمات الحفريات ) على الصخر وطبقات الأرض فلا يمكن أن تضلل .
هكذا استطاع العلماء الذين ( مشوا في الأرض ) استنطاق الحجر والشجر ، النجم وطبقات الأرض ، الراديوم والكلس ، العظام والدماء ، وهذا الاختراق لهذا الفضاء المعرفي هو في حالة زيادة يومية وتراكم معرفي نامي ، تتفاعل عناصره مع بعضها فتولد عناصر جديدة ، وهكذا أمكن الكشف عن هياكل العائلة المالكة الروسية للقيصر نيقولا الثاني الذي غاب في بطن الأرض مع الثورة البلشفية برصاص الشيوعيين الحمر .
*************************************
وطالما أمكنتنا هذه الأدوات الجديدة من كل هذه المعرفة الغزيرة والمنوعة ، فإننا نقترب اليوم من لغز بداية الكون في إطار نظرية ( الانفجار العظيم - BIG - BANG - THEORY ) التي تفيد ببداية عجائبية خارقة للوجود ، بدأت فصولها قبل حوالي 15 مليار سنة ، من نقطة لم يستطع العلماء إلا اعتبارها أنها لحظة ( متفردة - SINGULARITY ) حيث انفجر الكون على صورة كرة نارية هائلة في جزء من ( سكستليون ) من الثانية أي واحد مقسوم على عشرة أمامها 36 صفراً ، حيث كان الكون كله بما فيه من كل المجرات الحالية مضغوط في حيز أقل من بروتون واحد .. حيث لازمان أو مكان .. لاطاقة أو مادة .. لاقوانين تنتظم الكون أي غياب كامل لكل مفاهيم الوجود التي نتعامل معها اليوم ؟!! هذا ماتقوله باختصار نظرية الانفجار العظيم التي جاءتها التأكيدات من كشوفات ( هابل ) في تمدد الكون ، ثم الكشف عن ( الإشعاع الأساسي ) في الكون على يد كل من ( آرنو بنزياس ) و ( روبرت ويلسون ) عام 1965 م ( 9 ) والتي تمشي معظم الدلائل باتجاه تأكيدها حتى الآن .
وإذا كانت نقطة البداية قد دشنت للكون قبل 15 مليار سنة ، فإن مجموعتنا الشمسية التي ننتمي إليها ربما تكون قد بدأت قبل حوالي ثماني مليارات سنة ، أما أمنا الأرض فتتأرجح الأرقام عند( 5.4 ) مليار عام ، ويبقى السؤال عن الحياة التي باشرت وجودها قبل حوالي ( 5.3 ) مليار سنة ، وكانت الحياة البدائية في صورة وحيدات الخلية التي لاتحتاج للأكسجين ، حيث لم يكن في تلك العصور الساحقة وجود للأكسجين في غلاف الكرة الأرضية، وفي مسلسل الحياة هذا تأتي الحياة الإنسانية في قمة الخلق الألهي ، حيث يرجح أن تكون قد بدأت قبل حوالي ( 2.3 - 4.3 ) مليون سنة وفي أفريقيا الساخنة ، ربما في شرق الحبشة ، على النحو الذي كشف عنه العالم الأمريكي الانثروبولوجي ( دونالد جوهانسون ) في نوفمبر عام 1974 م ( 10 ) في مثلث عفار شرق الحبشة ، حيث تم الكشف عن 80% من هيكل عظمي لإمرأة تمشي منتصبة ، تعود إلى مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين ( هيكل لوسي ) فإذا وضعنا الآن الحياة على شكل كتاب ، شكلت الحياة الإنسانية فيه الصفحة الأخيرة من كتاب سماكته ألف صفحة .
******************************
بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش والوحوش تطارده ، يأكلها وتفترسه ، يعيش على الصيد وجمع الثمار ، بدون ذكر في التاريخ ، فلاتدوين ، فكان خارج التاريخ ، ولفترة ملايين السنين ، ثم حدث الانعطاف الأول والخطير في تاريخ الإنسان باكتشاف النار والمحافظة عليها متقدة ، فصرف خطر الحيوانات عنه ، كما استطاع أن يتقدم للعيش في المناطق الباردة ، وكانت هذا قبل حوالي 900 ألف سنة ، وبذلك خرج من أفريقيا في أرجح الأقوال ليعمر القارات كلها ، وأما أمريكا فانتشر إليها من أقصى الشمال عبر مضيق بهرنج ، الذي كان يصل آلاسكا بآسيا ، ولعل شبه أهل الأسكيمو بأهل الشرق الأقصى والصين يوحي بمجيئهم من هناك .
****************************
وبقيت فترة الصيد وجمع الثمار واعتماد النار والانتشار في الأرض فترة طويلة من الزمن وبدون أي قفزة نوعية ، حتى دشنت المرأة الانعطاف الخطير الثاني بدخول الثورة الزراعية ، وكان ذلك قبل حوالي عشرة آلاف سنة ، ففي الوقت الذي كان الرجل فيه يركض خلف الصيد على ماخلدته نقوشات الكهوف ، انتبهت المرأة للزراعة ففجرت التاريخ وعطفت مجراه وحققت القفزة النوعية للجنس البشري ، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان تحرر الإنسان ودفعة واحدة من الموت ( جوعاً ) فسيطر على إنتاج غذاءه ، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة ، وانبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه ، على ماأشار إليه عالم الاجتماع ( دركهايم ) في كتابه تقسيم العمل ، وعلى النحو الذي فهمه ابن خلدون في ( المقدمة ) في ضرورة المجتمع الإنساني من نقطة ( الغذاء ) الذي لايمكن تحصيله بدون تعاون التخصصات ، وبتوفير الغذاء ازداد السكان ، في صراع مع حصد الأمراض التي كانت تعالج بيد ( السحرة ) حيث كانت أحد وظائف الساحر ( الطب ) ، وبدأت التجمعات السكانية الكبرى في التشكل ، وببناء المدن وتخصص فريق الفلاحين بالسيطرة على إنتاج مايزيد عن حاجة الجماعة ، تحول بقية الفريق الاجتماعي إلى تخصصات مختلفة ، وبدأ الانسان في وضع قدمه في أول طريق الحضارة ، فتشكلت المدينة ، وولد النظام السياسي الذي احتكر السلاح والعنف ، وبدأ الإنسان مع أخيه الإنسان في تشكيل مجتمع المدينة ( الآمن ) وبذلك تحرر الإنسان من الخوف من أمرين : فوضى الغابة وعنفها وجوعها ، وهو ماأشار إليه القرآن عن نعمه على الإنسان من أنه ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . وهو مانوه به ابن خلدون كاعتبار ثاني للتجمع الإنساني بعد الغذاء ( المدافعة )
*****************************
ظهرت على وجه الأرض مجموعات إنسانية على شكل مجتمعات بدائية تجاوزت ( 600 ) مجتمعاً ، على ماحررَّه المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه ( دراسة التاريخ ) ، ولكن الحضارة كان عليها الانتظار بضع آلاف من السنين قبلا أن تنبثق ، فانطلقت أول حضارة من جنوب العراق الحالي قبل ( 6000 ) سنة ، لتتلوها 28 حضارة أخرى ، في ظروف مازالت قيد التحليل من قبل فلاسفة التاريخ ، منهم توينبي الذي أشرنا إليه والذي رأى في قانون ( التحدي والاستجابة ) آليةً تفسر بزوغ الحضارات أو بالعكس انطفاؤها ، سواء كان التحدي في البيئة أم النفس كما في حضارة ( البلوبينيز ) مع تحدي ( المحيط ) أو حضارة جنوب الرافدين والنيل في تنظيم الري .
********************************
ومع ولادة الحضارة حصل خطأ ( كروموزومي ) رهيب ذي قرنين أو شعبتين أو مرضين ؛ كل منهما يزيد في تفشي القيح عند الآخر ، هما ( الحرب والرق ) ، الحرب كانت تولد الرق ، والرق هي القوة العضلية ( الآلة في ذلك الوقت ) المستخدمة في مزيد من الانتاج ، الذي اعتاد القوة العضلية المباشرة الإنسانية أو الحيوانية ، ولعل أفظع مرضين أصيب بهما الجنس البشري في تاريخه كانا ( الحرب والرق ) لإنه بالحرب يدمر وجود الإنسان بالكامل ، وبالرق يمسح من عالم البشر المعنوي فهو ميتة من نوع جديد ، ومن هنا نفهم أيضاً النتيجة المباشرة ، لتفشي مرض ( قوة العضلات - العجول الآدمية ) على وضع ( المرأة ) فطالما كانت المرأة لاتمتلك ( العضلات ) فإن المجتمع تعرض لاختلال فظيع ، بغياب المرأة عن التوجيه المشترك مع الرجل ، فوقع المجتمع تحت سيطرة الذكور فقط ، ونمت المؤسسات العسكرية ، التي هي ذكورية بالدرجة الأولى ، فكان اندلاع الحروب تحصيل حاصل ، فالحرب هي عملية ذكورية كاملة في التخطيط والقيادة والتنفيذ بل والموت في النهاية ؟! فالذكور يخوضونها بكل ضراوة ويموتون في ساحاتها ، في حين أن الانثى لاتشارك في هذه المذبحة الجماعية ، بل تحافظ على الحياة ، وتنجب الحياة ولاتموت في حمامات الدم المرعبة هذه ، فهي خزان الحياة المتجدد وينبوع الحب المتدفق ، وبترسيخ الثقافة العسكرية الاسبرطية تم تحويل وتشويه كامل للثقافة الإنسانية باستلاب الإنسان من أهم عناصر إنسانيته ، بسل روح المبادرة والبعد الفردي والاستقلالية ، وتحويل المجموع إلى كتلة لحمية مضغوطة تعمل كالمطرقة ولاتناقش ، وتحويل تيار الثقافة بكامله في الفنون والأدب والجمال وسواه ، ليصب في تيار اتجاه تكريس ثقافة البطولة و ( العنترية ) وهي كارثة إنسانية عامة ، عانت ومازالت تعاني منها كل شعوب الأرض ، ووضع لها محمد ( l ) حلاً : (( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق )) .
**********************
وقبل خمسة آلاف سنة حصل انعطاف ثالث لايقل في وزنه وثقله عن الانعطافين السابقين باختراع الكتابة ، فبواسطة الحرف والكلمة أمكن حبس المعنى ورسمه في الأوراق وشبهها ، وبذلك أمكن وللمرة الأولى في التاريخ الإنساني ( حفظ ) الذاكرة الإنسانية ، وبدأ تيار التراكم المعرفي وثورة المعلومات ، ولعل فواتح السور من الحروف المكررة من ( ألف ولام وميم وعين وصاد ) والتي اختلف فيها المفسرون على مذاهب شتى ومازالت أحد أسرار القرآن ، لعل أحد تفسيراتها هي إشارتها إلى هذه الثورة الخطيرة في العقل والتاريخ الإنساني ، فالإنسان قبل ( الكتابة ) كان يتفاهم بالنطق والتصويت ، ولكن حصيلة التجربة الإنسانية كانت تموت مع كل جيل فلا تحفظ ، تماماً كما لو تصورنا أن خلايا الدماغ تتكاثر وتموت كما يحصل مع الكريات الحمر في الدم والتي تتبدل كل 120 يوماً فتتكسر لتعطي حمضاً يذيب دهن الطعام ويلون بعد ذلك فضلات الأمعاء الخارجة ، ذلك ان خلايا الدماغ هي من عمر الإنسان تولد معه برقم محدد وتبقى معه وترافقه إلى رحلة القبر الأخيرة ، فهي تخزن المعلومات وتبني الذاكرة تنمي الخبرة وتصقل المواهب ، تشحذ القدرات الفنية ، وهي بعد هذا مركز الإبداع وتجلي الشخصية ، ولو تبدلت وأعيد صناعتها كما هو الحال مع باقي خلايا الجسم إذاً لكان على الإنسان أن يتعلم اللغة كل بضعة أشهر من جديد .
هذا الشيء كان يحدث مع الإنسان عبر التاريخ ، كما لو كان الجنس البشري بدون دماغ وخلايا عصبية ، وباختراع الكتابة تشكلت الخلايا العصبية الحافظة والدماغ الرائع للجنس البشري ، الذي يحفظ الخبرات والذاكرة البشرية والتراكم المعرفي طبقة فوق طبقة .
************************************
وبين القرن السابع والرابع عشر للميلاد تم تطوير الفكر بشكل نوعي على يد المسلمين الذين ودعوا الفكر اليوناني ، ليولِّدوا _ بدفع من روح القرآن _ المنهج الاستقرائي التجريبي وروح البحث الواقعي واعتماد التجربة ، لتتخمر بعد ذلك بعد نقلها في إيطاليا ، لتفجر بعدها روح النهضة الجديدة في أوربا ، ومع تطوير الطباعة قبل 500 سنة بدأ العقل يتحرر ، وتم ربط العالم ببعضه من خلال قوة البخار التي استخدمت قبل 200 سنة ، ليتلوها تسخير الكهرباء قبل 120 سنة ، وأما الاستعمال السلمي للذرة فتم قبل 30 عاماً فقط ، وكل إنجازات الجنس البشري الرائعة من الطب الحديث وجراحة الأوعية والمناظير والتخدير والالكترونيات والبريد والفاكس والطيران ، كله تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية .
*************************
كذلك حصل انفجار سكاني بتسارع لم يعهده الجنس البشري من قبل ، خاصة بعد ارتفاع المستوى الصحي ، فالجنس البشري بين محطات عام 1800 - 1930 - 1960 - 1975 - 1988 م قفز من مليار واحد إلى خمس مليارات ، وربما يصل العدد إلى 120 مليار مع نهاية القرن القادم ؟! عندها ستتحقق نبؤة جول فيرن عن الغواصة ناوتيلوس والكابتن نيمو والمدينة في قاع البحر كما عرض في فيلم عشرين ألف فرسخ تحت الماء . حيث تسخر إمكانات البحر لإيواء وإطعام المليارات المتدفقة من البشر ، وفي الوقت الراهن فإن الأرحام تدفع مع كل شروق شمس إلى الحياة بــ 270 ألف إنسان ، في حين تبلع القبور مع كل غروب شمس 140 ألف انسان ، فيزداد البشر كل 24 ساعة 130 ألف انسان جديد ضيفاً على الكرة الأرضية .
***************************
وأما رحلة القوة عبر التاريخ والصراع المسلح ، فكانت كل دورة تمضي أشد هولاً في إيقاعها من التي قبلها ، في دورات جنونية من التخريب المتكرر للجهد الإنساني ، والتدمير المعاد للمدن والدول والحضارات ، حتى حصل الانعطاف السادس في مسار عشق القوة ، بعد اكتشاف النار والثورة الزراعية ودخول الحضارة واختراع الكتابة والثورة الصناعية ، ولعل الانعطاف الأخير الأخطر من نوعه ، باعتبار توقف مصير الجنس البشري عليه ، والمثير فيه أنه أفضى إلى عكس ماأراد أصحابه ، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم 16 تموز يوليو من عام 1945 م في تجربة السلاح الذري الانشطاري الأول ( قنبلة البلوتونيوم )، حيث وضع الإنسان يده هذه المرة على وقود المجرات ، ولمس جدار جهنم الصاعق ، وأدرك أن هناك انقلاباً نوعياً في مفهوم القوة ، هي حزمة من الأفكار التالية : 1 - الأول : لم يبق غالب ومغلوب في هذه الحرب بعد اليوم ، ولن يدخل أحد الحرب وهو يعلم أنها انتحار جماعي 2 - الثاني : لن تحل المشكلات بعد اليوم بالقوة المسلحة ، فهذا هو المنطق الجديد ، منطق العصر النووي ، وبالتالي وجب على الإنسان كما ودع هراوة الغابة أن يودع عقلية الغابة 3 - الثالث : كانت بنفس الوقت إعلاناً غير مباشر ودعوة مبطنة إلى عودة الإنسان إلى انسانيته فوجب أن يودع المواجهة والصراع والدماء والصدام ، ويدخل العهد الجديد ويعتاد اللغة الجديدة : الحوار وامتزاج الثقافات والتفاهم وتكوين الثقافة السلمية وتوديع روح العنف والبطولة الفارغة 4 - الرابع : تحولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة يرى الناس بعضهم ويتخاطبون بسرعة الضوء ويتحركون بأسرع من الصوت ، فهم قفزوا فوق ثقل الجسد ليلتحقوا بخفة الروح ونبض الأفكار 5 - الخامس : النزاعات المسلحة اليوم وتكديس ( خردة ) السلاح هي بضاعة المتخلفين عقلياً ، والذين لايملكون ( المعرفة ) ونواتجها من التكنولوجيا ، واستعراضاً سريعاً لبؤر النزاع المسلح في العالم يرينا أن عالم الكبار ( لايتقاتل ) والذي يتقاتل هم دول الأطراف المتخلفة فقط 6 - السادس : من يتقاتل من هذه الدول الهزيلة لايملك مصير ومخرج القتال ، بل خاتمتها متوقفة مرة أخرى على دول المركز التي تملك المعرفة والتكنولوجيا والمال ، فمن ينطلق في شراء السلاح وتكديسه يكون كمن اُرتهن لعالم الكبار وباع قضيته إليهم 7 - السابع : يتحول العالم تدريجياً الى شريحتين : شريحة من يفهم وشريحة من لايعقل ، كما يتشكل العالم إلى طبقتين مسخِّرة ( بالكسر ) ومسخَّرة ( بالفتح ) ، مستكبِرين ومستضعَفين على حد تعبير القرآن ، من يملك ( البرستيج PRESTIGE= الوجاهة والنفوذ ) ويأكل 80% من خيرات العالم ، وأخرى تشكل كعدد 80% من سكان العالم ولكنها تحظى بأقل من 20 % من خيرات العالم ويشكل العالم الإسلامي اليوم مركز الثقل فيه فيجب أن نعي هذه الحقيقة المرة من أجل تغييرها ، بتغيير مابنفوسنا أولاً 8 - الثامن : تعلم شريحة ( المستكبرين ) في العالم علم اليقين أن زمن القوة انقضى وولى ، وأن هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة ، التي لاتضر ولاتنفع ، وهم ( سحرتها ) ومانحتاجه هو توحيد محمد بن عبد الله ( l ) كي يبطل السحر الجديد 9 - التاسع : قد تتغبش هذه الرؤية عند البعض بمذابح راوندا وقتال الشيشان وقذائف مدافع الأفغان والبوسنة ، ولكن العالم الذي نعيش فيه هو عالم النور والكهرباء والكمبيوتر وجراحة الجينات والسلام ، بالطبع مازال بعض الناس يعيشون على فتيل المصباح والعد باليدين والكي واستخدام هراوة الغابة ، ولكن العبرة بخواتم الأعمال وآخر الفتوحات العلمية ، فإذا أصر المرء على ركوب الدواب والعد بالأصابع بدل استخدام الكمبيوتر تحول إلى عالم المسخَّرات ( بالفتح )
**************************
يقدر عالم الفيزياء الكونية ( ستيفن هوكينج ) في كتابه ( قصة قصيرة للزمان ) أن الشمس استهلكت من وقودها حوالي النصف ، وأن أمام الشمس في إطلاق النور والحرارة مايزيد عن خمسة مليارات من السنين ؟! فإذا كانت الحضارة الإنسانية بدات قبل ستة آلاف سنة فقط ، والثورة الزراعية تسعة آلاف ، وأفضل إنجازات الجنس البشري تمت في مدى الخمسين سنة الفائتة ، فماذا ينتظر الإنسان في مدى مائة عام القادمة فضلاً عن الآلاف أو الملايين ، كيف سيكون الإنسان بعد عشرة آلاف سنة ياترى ؟ خاصة وأن العلم يمشي بشكل متسارع ؟ قد نصاب بالحزن في اكتشاف أن التاريخ الفعلي للإنسان لم يبدأ بعد ، وأننا ولدنا مبكرين للغاية وحرمنا من الرؤية المتألقة لعلم الله الذي سيتحقق فينا بعد حين ( إني أعلم مالاتعلمون ) .
مراجع وهوامش :
( 1 ) مات باسكال ( 1623 - 1662 م ) دون الأربعين ( 39 سنة ) ويقول سانت بيف عن هذه الفقرة (( ليس في اللغة الفرنسية صفحات أروع من الخطوط البسيطة الصارمة التي تحتويها هذه الصورة التي لانظير لها )) راجع قصة الحضارة - تأليف ويل واريل ديورانت - طباعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1979 م - ترجمة فؤاد اندراوس - الجزء 31 - ص 100 ( 2 ) البقرة 20 ( 3 ) يراجع كتاب ( EVOLUTION ) - كتاب طيف العلم الأمريكية - الطبعة الألمانية ص 17 _ ) SPECTRUM SCIENTIFIC AMERICAN4 ) سورة يس 65 ( 5 ) سورة الزلزلة الآية 4 ( 6 ) العنكبوت الآية رقم 20 ( 7 ) تم كشف هذه الظاهرة على يد العالم النمساوي كريستيان دوبلر وسميت باسمه ومفادها معرفة موجة الصوت أو الضوء القادم من الهارب ، حيث تكبر الموجة وتنضغط في حال هجوها علينا والعكس بالعكس ، وفي الضوء باعتباره مكون من حزمة من الألوان فإن رأسه القادم باتجاهنا هو أزرق ، في حين أن ذنبه الهارب عنا ذو لون أحمر ، وهي ماترسله كل المجرات لإن الكون يتوسع مثل البالونة ( 8 ) سورة القيامة الآية 4 ( 9 ) طالما انفجر الكون في كل اتجاه فلابد أنه ترك أثراً من إشعاع في كل الكون ، هذا ماكشف عنه العالمان المذكوران بدقة وتبلغ ( 5.3 ) فوق الصفر المطلق ( - 273 ) راحع كتاب العلم في منظوره الجديد تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو - ترجمة كمال الخلايلي - عالم المعرفة 134 - ص 61 ( 10 ) تراجع القصة بالكامل في مجلة المختار عدد ديسمبر من عام 1981م صفر عام 1402 هـ ( ص 114 ) عن اكتشاف هيكل لوسي .