مع فجر الحضارة أُصيبت الإنسانية بمرض الحرب ، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة ، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة ، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لانتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لايقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع ، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود ، والعدم يلف الكون ، والانتحار ينتظر الجميع ، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة . لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة ، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة : ياأبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفية كأس العالم لكرة القدم ، ولا أهمية ألعاب الأولمبياد ، أو سباق الماراتون ؟؟ اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته ، كما اعترف للقاريء بأنني استغرب أحياناً وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة ، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام !!
قلت لصديقي الدكتور عماد : هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراتون ؟ هز رأسه بالنفي ، قلت له إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس ( دارا ) لبلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراتون مما جعل العدَّاء اليوناني ( فيديبيدس _ PHEIDIPPIDES ) يركض إلى كلٍ من أثينا التي تبعد خمسين ( كم ) واسبرطة التي تبعد ( 224 كم ) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة وطلب المساعدة الاسبرطية من جهة أخرى ، ويقال أنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل ، فهذا هو سباق الماراتون وأصله التاريخي .
وصف المؤرخ ( ولز ) ( H . G . WELLS ) عبور كزركسيس ( XERXES ) لمضيق الدردنيل ( HELLESPONT ) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان : (( حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن ورأى كل شواطيء سهول أبيدوس غاصة بالرجال ، قال عن نفسه إنه لسعيد ، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع فسأله عمه أرطبانوس فإنك قد وصفت نفسك رجلاً سعيداً تذرف الدمع الآن فأجاب الملك : أجل إني بعد أن أحصيتهم عداً دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة ، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حياً بعد أن تمضي مائة من السنين )) ( 1 )
وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الأغريق بحراً وبعدها بعام هُزم قائده ماردونيوس ( MARDONIUS ) في معركة بلاتيا عام ( 479 قبل الميلاد ) براً على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس ، وكانت معركة بلاتيا ( PLATAEA ) من أكثر معارك التاريخ القديم حسماً ، لإنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية ، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الاغريق في هذه المعركة هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها ، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وماهو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة ؟
رحلة القوة
نحن في هذه المسألة لسنا في صدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح ، فهذا له بحثه الخاص ، والمقالة حصرت نفسها في تطورأداة
القوة وطريقة استخدامها ، ومانريد تسليط الضوء عليه هو ( رحلة القوة ) كيف بدأت ؟ كيف نمت ؟ كيف تطورت ؟ وأين وصلت اليوم ؟ أي إننا نطبق منهج ( الجنيالوجيا ) ( GENIALOGY ) على علم الحرب (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ))( 2 ) ، فهي محاولة لفهم كيفية بدء ( خلق ) ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح ؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به منذ أن خُلقت الخليقة !! . يمكن بللورة الصراع المسلح عبر التاريخ في المراحل أو الأفكار الأحدى عشر القادمة :
1 - المرحلة الأولى : يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي ، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما ، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً ( أسلوب لأقتلنك ) ، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة ، مقابلاً أسلوب ( القتل ) بأسلوب جديد مدهش هو ( التخلي عن القوة من طرف واحد ) ، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية .... ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجر .
2 - المرحلة الثانية : دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة ، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي ( التعددية ) وعدم الاعتراف بالاختلاف ، من خلال تطوير أدوات ( لأقتلنك ) ، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح ، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش ( الذكورية ) ، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة ، لإن مرض الحرب دخل في تركيب احلضارة فيما يشبه الخطأ ( الكروموسومي ) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا ( مرض ) . إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت ( دورة الحرب ) تأخذ نظماً تاريخياً ، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف .
3 - المرحلة الثالثة : أصبحت ظاهرة الجيوش ( الذكورية ) ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة ( الدفاع ) عن المجتمع ، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وامبراطوريات التوسع إلى مايلي :
أولاً : تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة .
ثانياً : تطوير أداة البطش والتدمير الممثلة في تطوير أنظمة السلاح والتكتيكات العسكرية والتقنية الحربية بوجه خاص ، بل وتسخير كل إمكانيات المجتمع لخدمة الهدف العسكري .
هذا التنافس بالطبع لن يؤدي في النهاية إلا إلى حملات التوسع والاصطدام مع الدول المجاورة ، كما حدث في الحروب الرهيبة في العالم القديم على الشكل الذي أوردناه في حملة كل من دارا وكزركسيس على اليونان ، أو الحرب ( العالمية ) القديمة بيم روما وقرطاجنة ، التي استهلكت موارد كلا الدولتين من خلال ثلاث جولات من الصراع المريعة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد وقادت الأولى إلى الفناء تحت التراب ، والثانية إلى ( العدمية ) فوق التراب وبذا ماتت الاثنتين عملياً !! (3)
4 - المرحلة الرابعة : كانت دورات الحرب تمشي في اتجاهين ( الأول ) : هو الاستمراية والتواصل وكانت فترات السلم ( هدنات ) لأخذ النفس ومتابعة الحرب ، من خلال قانون العنف والعنف المضاد ، فكل فعل له رد فعل مضاد له في الاتجاه ومساوٍ له في القوة ، وهذا يستتبع بالتالي رفع جرعة رد ( رد الفعل ) أي نصل لـلاتجاه ( الثاني ) : فحتى يمكن التغلب على رد الفعل الجديد فلابد من رفع قوة الفعل الجديدة ، أي أن الدورة الجديدة من العنف سوف تبدأ أعنف من الأولى وفي جعبتها كل تجارب الدورة السابقة ، فلو أردنا تصوير مايحدث فهو أشبه بهرم مقلوب الرأس ، ذروته نقطة بداية العنف وقاعدته المتوسعة باستمرار العنف المستشري ، أو هو شكل لولب صاعد كحلقة دخان أو نفثة نار تكبر مع صعودها إلى السماء بدون توقف ، أو هي حلقات الماء بألقاء حجراً فيها فتكبر الحلقات بدون نهاية . أو انتشار موجات الصوت أو الضوء !! حتى خيل للبعض أن السلام عملية مستحيلة ، أو هي خدعة مؤقتة ، أو أن الوجود مؤصل على العنف المقدس ( كذا )
5 - المرحلة الخامسة : كان أمل القوى المتصارعة دوماً ومن خلال تطوير أداة الحرب أنه سيقهر خصمه ويستولي عليه بل ويلغيه ويحذفه من الوجود ، وهو بهذا الأسلوب يخلق العدو باستمرار ، ويلغي حتى وجوده الخاص ، وكانت هناك علاقة جدلية بين طغيان الشر وتطوير ( أداة البطش ) وهكذا أغرى قديماً مثلاً الدولةَ الآشورية براعةُ الآلة الحربية الآشورية التي تكللت باختراع ( العربة الحربية الآشورية ) ذات الأنصال الباترة حيث كانت تقضم أذرع المقاتلين فتقع ترتعش ، قبل أن يحس المقاتل بفقدان ذراعه أو قدمه !! ، وحفزتها لتطويع وتركيع الأمم المجاورة ، ومع امتداد هذه الذراع البطَّاشة سال اللعاب أكثر فأكثر لافتراس المزيد من المدن والأمم ، فكلما زاد ( كمال ) أداة الحرب كلما أصيبت النفس بمرض التضخم والشعور بالتجبر الكاذب ، وبذا تضخمت الدولة الآشورية بشكل مرعب في جنوب غرب آسيا ، فحكمت بدون رحمة ، ودمرت ولم تأبه ، وسوَّت معظم مدن الشرق الأوسط بالتراب ، وحملت شعوباً بأكملها إلى معسكرات الاعتقال ، ومايزال الشعب اليهودي يحمل في الذاكرة الجماعية التاريخية فظائع ( نبوخذ نصر ) .
كانت الأداة الحربية الآشورية تحت المراقبة والتطوير الدائمين ، إلا أن الحملات التي لاتنتهي لإخضاع الشعوب المجاورة على النحو المذكور ، ومعاناة هذه الشعوب وآلامها التي لاتنتهي ، استنفدت
في النهاية دماء الدولة الآشورية فماتت على الشكل الذي وصفه المؤرخ ( توينبي ) عن مصير النزعة الحربية ( الجثة في الدرع ) ( 4 )
6 - المرحلة السادسة : تحت شعور ( السيطرة ) على مقدرات الناس تم دفع أداة الحرب وتطويرها بكل سبيل ممكن ، وسُخر العلم لذلك ، وهكذا حدث تناقض عجيب ، حيث تمت ازدواجية بين خدمة العلم لآلهة الحرب ، وبين تطوير العلم من خلال تبني المؤسسات العسكرية له !! وهكذا تم تطوير أبحاث الذرة بشكل مرعب خلافاً لمؤسسات علم دراسة النفس والمجتمع ، كل ذلك تحت معلومات كاذبة ، أن هتلر يطور سلاحه الذري الخاص به ، وأظهرت التحريات ومقابلة العلماء الألمان بعد الحرب ، أن الألمان لم يكونوا قد خطوا بعد في هذا الطريق شيئاً يذكر ( 5 ) ، بل وكشف النقاب عن هدف إلقاء السلاح الذري على اليابان ، أنه لم يكن هو المستهدف به بالدرجة الأولى بل الإعلان الأمريكي لمرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية ، لإن اليابان كان في حكم المهزوم . ويقع الاتحاد السوفييتي في رأس قائمة الذين يجب إرعابهم ؟! .
7 - المرحلة السابعة : انتقل تطوير السلاح في دورات من أسلحة ( الصدم ) و ( القذف ) والوقاية من خلال جهاز ( الدروع ) ، فالأولان للاختراق والأخير للدفاع والوقاية أثناء الهجوم كما هو الحال اليوم في سلاح الدبابة ، وكما يحدث تماماً أثناء اشتباك مجموعتين من الأطفال في العراك حصل نظيره في تاريخ الحروب في التاريخ ، فالأطفال يعمدون إلى التراشق ثم الاشتباك بالأيدي والقبضات أو بالعكس ، وهكذا مشت رحلة التسلح في دورات من المشاة المدرعة ، فالخيالة الخفيفة ، فالخيالة المدرعة ، وأخيراً العربات المدرعة . ( 6 ) وبالطبع فإن بحثنا هذا لم يكتب للعسكريين وإن كان يستهويهم ، وهكذا تطور السلاح بين الإنسان المدرع ، فراكب الحصان المدرع ، فراكب العربة المدرع ، والذي غلب ( كزركسيس ) في معركة ( بلاتيا ) كان نظام ( الفالانكس الأغريقي ) ( PHALANX ) عام ( 479 ) ق . م . الذي يعتمد القوة المركزة المزودة بالرماح الطويلة التي تعمل كـ ( المطرقة الثقيلة ) ، ثم تطور هذا النظام على يد الملك فيليب المقدوني والد ( الاسكندر الكبير ) الذي هيأ له الآلة المناسبة لاجتياح الدول المجاورة ، حيث تم صقل جهاز الفالانكس بحيث يستطيع المناورة بشكل أفضل ، ومن هنا نرى سخرية القدر في عمل الفرس باجتياحهم بلاد اليونان ، كي يحركوها لتقوم برد الفعل بعد 146 عاماً لتطحن جيوش داريوس في معركة ( أربيلا ) عام 333 ق . م . استطاع الاسكندر بجيش لايتجاوز ( 47 ) ألف مقاتل أن يحطم جيوش ( داريوس ) كما تفعل المطرقة في صدم وعاء من الفخار !! فعلى الرغم من جيش داريوس الهائل والمكون من قرابة مليون من الجنود !! والفيلة والعربات ذات الأنصال ( العربات الآشورية ) فإنها لم تصمد أمام جهاز ( الفالانكس ) الأغريقي والمكون بشكل رئيسي من المشاة المدرعين ، المزودين بالحراب الثقيلة الطويلة ، في أرتال منظمة تعمل كالمطرقة في الاختراق وتتحرك في مجموعات تشبه كل مجموعة ( القنفذ ذو الأشواك ) . ثم جاء دور ( الليجيون - LEGION ) الروماني الذي تسيد الصراع لقرون لاحقة بفضل التطوير الجديد على نظام ( الفالانكس ) الاغريقي ، فأضاف السيف الاسباني القصير المعمر وأنقص طول الرمح ليطور الرمح الخاص به بطول قدمين ( PILUM ) ، إلا أن نظام الليجيونات الرومانية تم هزيمته واختراقه سواء بمبدأ ( الكماشة ) الذي طبقه هانيبال في معركة ( كاني - CANNAE ) ( 7 ) بحيث أصبح لفظ كاني دليلاً على الكماشة الفظيعة !! أو عن طريق الجرمان الذين طوروا ( الفأس مخترق الدروع - الفرانسيسكا ) أو أخيراً على يد الخيالة القوط في معركة ( أدريانوبل - ADRIANOPLE ) عام ( 378 ) م حيث تسيد راكب الحصان الذي يستخدم سلاح الصدمة ( الرمح والقوس ) للفترة التالية . ثم جاء الدور من جديد ليُلغى دور الخيالة الخفيفة وأقواسها الممتازة على الرغم من براعة أصحابها كما حصل لجيش ( العاصفة ) القديم المتمثل في جيوش جنكيزخان التي لم تقهر ، كان ذلك بواسطة ظهور الخيالة المدرعة والتي أرعبت الناس حينما ظهر الملك ( شارلمان ) يلمع بالحديد المخيف تحت اشعة الشمس حينما حقق انتصاره في معركة ( بافيا ) عام 814 م ؟! ثم جاءت هزيمة الدروع من داخلها فقد أثقلت الفارس إلى الدرجة التي لم يعد الحصان قادراً على حمل كل هذا الحديد ، وكان منظر سقوط الفارس المدرع من ظهر الفرس على الأرض يثير الشفقة لإنه لايعود بعدها يستطيع حراكاً كما يحصل مع الحيوان البحري إذا اخرج من الماء !! وعندما بدأ ترقيق الدروع فاجأتها أسهم القوس المتصالب والقوس الطويل في كلٍ من معركة ( هاستنجز ) عام 1066م تلك التي انتصر فيها الدوق ويليام واحتل فيها بريطانيا ، أو في معركة كريسي عام 1346 ميلادي حيث كان بإمكان السهم اختراق الدرع والفخذ وتسمير الفارس في سرجه الخشبي !! وعندما أراد الفلاحون السويسريون التخلص من الأقطاع الألمان طوروا سلاحهم الخاص بهم والذي يُرى في المتاحف الآن ( الهالبارد ) ذو نهاية ثلاثية : رمح للطعن وفأس لضرب الخوذة ثم خطاف لنتر الفارس من ظهر الحصان . ثم جاءت القفزة النوعية في تطوير الأسلحة النارية فمع البارود بطل دور قلعة ( الإقطاعي ) ومعه النظام الإقطاعي ، إلا أن البندقية الأولى وحاملها ( الموسكيتير ) وجد صعوبة في التكيف معها بين الحشي والإشعال والإطلاق لمرة واحدة ، حتى جاء القائد المبدع فريدريك لينجز انتصاره الرائع في معركة ( لوثن ) من خلال الاستخدام الجيد للسلاح الناري ، وأمكن تطوير أمد الرصاصة وقوة انطلاقها من خلال أمرين تطويل السبطانة و ( حلزنتها ) ، ولبطء الحشي في المراحل الأولى تم إضافة ( السونكي ) كي تأخذ البارودة وظيفة الرمح والبارودة بنفس الوقت !! واستمر تطوير نظام ( لأقتلنك ) ، وعندما أمكن الوصول إلى ( الماشين غن - الرشاش ) استطاع الجنرال كيتشنر دحر المهديين ورماحهم في السودان ، كما قُتل من خيرة جنود كيتشنر في الحرب العامة الأولى ستين ألفاً في إحدى الهجمات برشاشات الألمان المتمركزين في وحول ( السوم ) ، ويعتبر نابوليون المعلم الكبير في استخدام النظام المدفعي وبه شق الطريق لأمجاده في حروب أوربا قبل أن يهزم في واترلو ، ومع تطوير الطيران والرشاشات والمدفعية ثم الدبابات وأخيراً الغازات السامة بدأت معارك الحرب العالمية الأولى تتحول إلى مسالخ بشرية فعلية ، حيث قتل في إحدى المعارك في ( السوم ) في مدى أربعة أشهر مليون و265 ألفاً من الشباب الأوربي بين ألماني وفرنسي وبريطاني . ثم ( ختامها مسك ) ؟! اختتمت الحرب العالمية الثانية بتطوير الصاروخ والسلاح النووي ، وبتركيب الثاني على ظهر الأول لم يبق مكان على وجه الأرض ينعم بالامن ، وبذا انقلب السحر على الساحر .
8 ـ المرحلة الثامنة : كانت الحروب في العصور الوسطى تعتمد الجنود المرتزقة ، فأعدادهم قليلة والمعارك تعتمد الفروسية ، وتكاليف ساحات المعارك يبقى بين حملة السيف ، ومع الثورة الفرنسية والأمريكية حصل انعطاف في تركيبة الجيوش ، فأصبحت شعبية وبالتالي بدأ المدنيون يعانون من الحروب بشكل مباشر وغير مباشر ، وبدأ مايسمى ( الحرب الشاملة ) ، وأصبح أكثر الضحايا بين المدنين وهكذا تغيرت الصورة وانقلبت الآية .
9 ـ المرحلة التاسعة : في صباح يوم 16 تموز - يوليو من عام 1945 ميلادي وفي تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً ، حصل انعطاف ( نوعي ) في امتلاك القوة ، حيث وضع الإنسان يده على الوقود الكوني هذه المرة ، حيث تم تفجير قنبلة ( البلوتونيوم 239 ) التجريبية ، وكانت قوة التفجير التجريبية في ذلك الصباح البارد حوالي 15 ألف طن من مادة ت . ن . ت . ، وطبق هذا السلاح بكل أسف في إبادة البشر مثل فئران التجارب تماماً وكانت كل قنبلة ( مع أن كل محتواها لم ينفجر تماماً كما تبين بعد ذلك ) قد مسحت مدينة عظيمة بمعظم سكانها ، مع أن قدرة التدمير كانت متواضعة ؟! وقد يتساءل القاريء وكيف كانت متواضعة ؟ والجواب أن الجيل الثاني من السلاح النووي طور قوة التفجير حتى وصل بقنبلة تجريبية إلى ( 58 ميجاطن ) أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 3800 مرة ) ؟؟!! واعتمد الجيل الثاني على مبدأ الالتحام ( لمادة الهيدرجين ولذا سميت هيدرجينية ) وليس الانشطار ( انشطار مادة اليورانيوم 235 أو 239 ) كما كان مع الجيل الأول . وكان وراء القنبلة الأخيرة الاتحاد السوفيتي فأراد البنتاغون إنتاج قنبلة بقوة 100 ( مائة ) ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 6666 ) مرة ، وعند مناقشة الموضوع شعر الجميع أن هذا الطريق الذي يمشون فيه ليس إلا ( جنون مطبق ) و ( انتحار جماعي ) و ( تلويث للبيئة ) وتهديد جدي للإنسانية ، التهديد هذه المرة بالفناء الماحق المترع بالعذاب ، حيث لاتوجد كرة أرضية ثانية نجرب عليها أو ننتقل إليها بعد خراب الأولى ؟! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) . ثم مشت الرحلة إلى جيل ثالث من القنابل النووية ، ثم مالت النفوس إلى إنتاج ( تفاح ) من الحجم الصغير أي عيار كيلو طن واحد فقط كما هي مع الألغام المزروعة في الجولان السوري ، أو تلك التي تحمل في المعارك التي ينبغي تطويقها لتطلق من مدافع بسيطة ؟؟ هذه المعلومات هي يوميات بسيطة لاستراتيجي الدفاع والأمن والتسلح العالمي اليوم ، وكما ذكرتُ فهذه المعلومات هي لرفع مستوى ( الوعي ) عند إنساننا ، كي يدرك طبيعة العالم الذي نعيشه ، وأن عهد البطولة قد ولى ، وملف الحروب قد طوي ، وأن أشعار ( أبو تمام ) لم تعد تطرب ( السيف أصدق أنباءً من الكتب ) .
10 ـ المرحلة العاشرة : عندما كتب ابن خلدون في مقدمته عن عدم اعتماد الأخبار لمجرد نقلها عن الثقات ، بل يجب عرضها وقارنتها مع ( أصول العادة ) و ( قواعد السياسة ) و ( طبيعة العمران ) الخ ... قام بستة تطبيقات على ذلك ، منها أن جيش موسى في التيه لايعقل أن يبلغ ( 600 ألف مقاتل ) واعتمد ابن خلدون مشكلة الاتصالات في الجيش في تفنيد الخبر ، فكيف يقاتل جيش لايعرف طرفه مايحدث في الطرف الآخر ؟! وهو محق بالنسبة لعصره ، ولو بعث ابن خلدون في أيامنا الحالية لما تعجب من حملة ( بارباروسا ) التي قادها هتلر ضد الاتحاد السوفييتي بخمسة ملايين جندي ، والسبب هو أن مشكلة الاتصالات أمكن حلها والسيطرة عليها .
إن تحقق هذه الإمكانيات قفز بالحرب قفزة ( نوعية ) ، فمع التراكم المعرفي والتقنيات الحديثة ، لم تعد الحرب كائناً بسيطاً ، بل تحولت إلى كائن خرافي ، ولم تعد الحرب ( حرباً ) بالمعنى الحرفي للكلمة . يقول صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة الجنرال فيكتور فيرنر : (( إننا اليوم أمام ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل ؛ ذلك أن حجم التدمير وسرعته اللذين يمكن أن يحدثا لن يغيرا أبعاد الحرب فقط ، وإنما سيؤديان إلى تغيير في جوهر الحرب ، فإذا كان هناك إنسان طوله متران ونصف المتر ، ووزنه 200 كلغ فإنه يبقى إنساناً بالرغم من أنه غير عادي . ولكن هل يمكن أن نعتبره كائناً بشرياً إذا بلغ طوله مائتي متر ووزنه عدة أطنان ؟؟ )) ( 8 )
11 ـ المرحلة الحادية عشر : ثم رأت أعيننا شيئاً لم يخطر على قلب بشر في العالم القديم ، فلو قام من قبره الآن داريوس أو الأسكندر الكبير أو نابوليون أو جنكيزخان لفركوا عيونهم من هول الجبروت الذي امتلكه الإنسان المعاصر ، ثم سوف يتحول عجبهم إلى مايشبه الجنون فلايكاد يصدقون رؤية الظواهر التالية :
الأولى : سقوط أعظم امبراطورية ، تملك أعظم سلاح امتلكته قط أي قوة مرت على وجه البسيطة حتى اليوم ، فالاتحاد السوفيتي هوى صريعاً لليدين والجنب ، وفي قدرته تدمير الكوكب الأرضي أربع مرات ؟!
الثانية : صعود قوى لاتملك أي سلاح ، بل هي مجردة من السلاح ومشروط عليها أن لاتتسلح مثل اليابان وألمانيا ، وهذا يعلمنا أن الصعود لايحتاج لقوة ، فهل يدرك الأفغانيون هذا الدرس من التاريخ ؟! أو هل تفهم الحركات الإسلامية المتلمظة للقوة منطق التاريخ ؟؟!
الثالثة : إن المشكلة التي تواجه مالكي البلوتونيوم والسلاح النووي اليوم هو كيفية التخلص منه وليس تركيبه ؟؟
إن هذه المرحلة التي عاصرناها شيء عجيب حقاً فقد رأينا ثلاث أمور كل واحدة أعجب من أختها ؛ رأينا توقف ظاهرة الحروب عند من يملك العلم والمعرفة واستمرارها عند المتخلفين ، ورأينا اتحاد الأوربيين الذين اقتنعوا بأن الحرب لاتحل المشكلات بل تخلق المشكلات سواء منتصراً أو مهزوماً ، ورأينا انتهاء الحرب الساخنة والباردة ووُدعت الأخيرة بجنازة خاشعة في باريس إلى المقبرة عام 1989 م .
فإذا استطعنا هضم الأفكار السابقة في مجمل بانوراما القوة فيمكن طرح الأفكار التالية :
1 ـ تقول الفكرة الأولى : إن الجنس البشري جرب حظه من الحروب وامتلاك القوة ، ووصل ليس فقط إلى نهاية الطريق المسدود ، بل مشى كالأعمى يتلمس الطريق في هذا الكهف المظلم ، حتى لمس الجدار الصاعق الحارق فاحترقت يداه فهو مايزال يعالج يديه المحروقتين ، وسمع دمدمة الشياطين في جهنم ( الفناء النووي ) خلف الجدار !! وهذا أكثر من درس للمغفلين والحمقى الذين يريدون دخول مخاضات عبرها غيرهم ، ووصلوا إلى هذه النتيجة من عبثية الحرب وعدم جدوى امتلاك الأسلحة بما فيها خرافة السلاح النووي ، ولعل عدم امتلاك العرب لهذا الصنم سوف يوضع في تاريخهم كرواد إنسانيين .
2 - وتقول الفكرة الثانية : إن الذين وصلوا إلى نهاية الرحلة واحسوا بعدمية هذا الاتجاه أخذوا يرجعون عنه ، ونحن مثلنا كما يقول المثل السوري ( يطعمك حجة والناس راجعة !! ) فإذا فات موسم الحج أبينا إلا أن نقيم كل يوم موسم حج للعنف والقوة ؟! وهذا يوحي بأن هناك فريق من الناس خارج التاريخ والجغرافيا ، وتشوش عليهم الفرقعات التي تحدث هنا وهناك ، بل يمضي بعضهم إلى اعتبار أن الحروب ستبقى إلى قيام الساعة ، والعالم المعاصر يحتفل بتدشين إغلاق هذه الدكاكين العتيقة .
3 ـ الفكرة الثالثة تقول : إن نفس القوى العظمى التي أدركت هذه الحقيقة تحاول أن تعمي على عيون وعقول الآخرين كي ( تزغلل ) الرؤية عندهم ، وهكذا مازالت أسواق الأسلحة قائمة ( بما فيها البلوتونيوم المهرب ) وهم يدركون تماماً أنهم يبيعوننا عتاداً ميتاً ولى وقته وانقضى ، ويفعلون هذه من أجل المحافظة على امتيازاتهم في العالم ، فالعالم اليوم مقسوم إلى شريحتين منها 10% تأكل خيرات 90% وشريحة مقلوبة بنفس النسبة أي تشكل 90% ولكنها تمنح 10% من خيرات العالم ؟؟!! وبالطبع فهذا وضع مرضي يجب التخلص منه ، وهي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى ، فسوف نبقى ندفع فواتير ( نعال الجمال ) حتى نرشد ( 9 )
4 ـ والفكرة الرابعة تقول : إن الذين يريدون إشعال الحروب يخطئون مرتين وليس مرة واحدة ، الأول أنهم انقادوا ودخلوا الحقل الذي لايسيطرون عليه ، بل يسيطر عليه الآخر ويعرف أسراره ، فنهاية الحرب لن تكون بأيديهم ، بل بيد من يملك تمويلها ، فينصر من يرى أن من مصلحته نصره والعكس بالعكس ، وهذا تناقض عجيب يعيشه العالم هذه الأيام حيث لايقاتل من يستطيع ، ويقاتل من لايستطيع ولايملك مقدرات نهاية الحرب !! وهكذا فإن من يدخل الحرب يدخل مكان اللعبة التي لايعرف أسرارها بل يتحول هو إلى أحد رموز اللعبة ، وللخلاص من هذا وجب إما الخروج الكامل من اللعبة أو عدم دخولها ابتداءً .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .
بقلم الدكتور خالص جلبي
هوامش ومراجع :
( 1 ) معالم تاريخ الإنسانية ( THE OUTLINE OF HISTORY BY H . G . WELLS ) - هـ . ج . ولز - المجلد الثاني - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ص 367 . ( 2 ) سورة العنكبوت - الآية 20 ( 3 ) راجع تعليق المؤرخ الألماني أوسفالد شبينجلر في كتابه أفول الغرب عن آثار تلك الحرب وكيف أنها امتصت آخر طاقة حيوية لروما - الجزء الأول ( 4 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ - جون أرنولد توينبي عن انتحارية النزعة الحربية ( 5 ) كشفت مجلة صورة العلم الألمانية النقاب عن التسجيلات السرية لمجموعة العلماء الألمان الذين أسرهم الحلفاء الغربيون ووضعوهم في فيلا مريحة في بريطانيا لمدة ستة أشهر ، قد وضع في كل زاوية منها جهاز تنصت ، موصول بجهاز تسجيل مركزي يعكف عليه خبراء باللغة الألمانية لفك كل كلمة للعلماء ، وعرف على وجه الدقة أن العلماء الألمان كان قد فاتهم القطار _ لحسن الحظ _ في موضوع السلاح النووي ، ولكن بنفس الوقت فإن الحلفاء استفادوا من الخبرة الألمانية في تطوير جهاز الصواريخ ف 1 وف 2 الذي عانت منه بريطانيا في نهاية الحرب الثانية ( 6 ) راجع في هذا كتاب الأسلحة والتكتيكات - ونترنغهام وبلاشفورد- سنل - ترجمة المقدم حسن بسام - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ( 7 ) معركة كاني عام 216 قبل الميلاد سحق فيها القائد القرطاجي جيشاً رومانياً ضخماً وبلغ قتلى الرومان فيه حوالي خمسين ألفاً من أصل ثمانين ألف مقاتل ، واعتمد مبدأ الكماشة على تقسيم الجيش إلى قلب وجناحين حيث ينسحب القلب إلى الداخل وينفرج الجناحان ، فيجر معه الجيش الروماني إلى الداخل في الحين الذي تطبق فيه الأجنحة من الجانبين والخلف وبالتالي يتحول الجيش المقاتل إلى كتلة مختنقة تقاتل فيها الحافة فقط ، ويتحول جيش هانيبال إلى مفرمة لحم !! ( 8 ) الحرب العالمية الثالثة الخوف الكبير - الجنرال فيكتور فيرنر - ترجمة هيثم كيلاني - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 21 ( 9 ) يروى أن وصياً كان يعرض على القاصر كل سنة أمواله وفي نهاية الحساب يقول : وقد دفعنا يابني ثمن كذا وكذا لنعال الجمال ، ففي إحدى السنوات قال الغلام : ولكن ياعماه ماأراه أن الجمال لاتنتعل الأحذية ، قال الوصي أردت امتحانك فقد رشدت فهذه أموالك أعيدها إليك . والفرق بيننا وبين القصة أننا لن نسترد مادفع ثمناً للأحذية .