ديكارت والمقال على المنهج :
في الوقت الذي كان العالم الاسلامي يضع عقله على الرف، ويتوقف الزمن عنده على ضرب صنج الصوفية، ويشخر في أحلام وردية على قصص ألف ليلة وليلة، كانت بذور منهج الغزالي في التأسيس المعرفي من خلال مبدأ الشك يثمر ثمراته في جنوب ألمانيا بطريقة مختلفة. يقول ديكارت عن نفسه أن الثلج والبرد اضطره الى قضاء الشتاء في جنوب ألمانيا قريباً من مدينة أولم ( ULM ) . كان رينيه ديكارت من نبتات التنوير العقلي الجديد ، الذي امتد من شمال إيطاليا الى كل أوربا من الشعلة التي قدح زنادها لابن رشد.
يقول ديكارت أنه التجأ الى هذه المكان وهو فارغ البال من الهم والحزن والهوى. كان الشيء الذي يحتل كل ملكاته العقلية هو إمكانية الوصول الى الوثاقة واليقين في العلوم، فديكارت كان قد ودع الفكر القديم وفقد ثقته به فكتب:
(العقل هو أحسن الاشياء توزعاً بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لايسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه . ويشهد هذا بأن قوة الاصابة في الحكم التي تسمى العقل أو النطق تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لاتنشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، لأنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل)(6)
المنهج الديكارتي : أنا أفكر .. أنا موجود:
استولى الشك على كيان ديكارت كاملاً فبدأ يتنفس الشك ويعيش فيه، ويقول أن تلك الليلة شعر وكأن دماغه ـ من شدة التفكير ـ يوشك على الانفجار، ثم انقدح امامه فجأة المنهج الجديد، الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي، الذي لنا عودة تفصيلية اليه اثناء الغوص في بحر الفلسفة. قال ديكارت إنني عندما أشك أفكر؛ حتى لوشككت في كل شيء؛ بمافيه وجودي بالذات، حتى لو زالت الدنيا كلها، فإن شيئاً لايزول ولايتزحزح وهو انني أشك؛ أي إنني أفكر وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة أنني موجود على صورة من الصور ولكنني موجود؛ فهذه هي الحقيقة الراسخة الوحيدة التي يمكن أن استند اليها في كل عمليات التفكير.
هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريق لعصر التنوير في أوربا واعتبرت الفلسفة الديكارتية أحد المفاصل الجوهرية التي قامت عليها الفلسفة الأوربية الحديثة، باعتبار أن ديكارت وعشرات من أمثاله كانوا البناة النظريون للعصر الحديث بكل انجازاته، لأنه مع حركة العقل تم تدشين حرية التفكير، ومع حرية التفكير انطلقت الابحاث العلمية بدون حدود، ومنها نبعت التكنولوجيا الحديثة والنظم السياسية أي الليبرالية الاقتصادية والديموقراطية السياسية، فهؤلاء المفكرون العظام هم الذين حلوا أعظم مشاكل الجنس البشري؛ في علاقة السلطة بالمواطن، ونقل السلطة السلمي، وبناء مناخ الحرية الفكرية الكامل بدون أي خوف أو تابو. ولكن مؤتمر جمعية العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) الذي ضم مايزيد عن عشرين ألف عالم، اجتمعوا في مدينة سانت دييغو في مقاطعة كاليفورنيا خرج ببعض النتائج التي بدأت تهز الأقدام تحت نظرية ديكارت.
مؤتمر (سان دييجو) يثير بحث المشكلة الفلسفية من جديد:
ومما أذكر من تسعينات القرن العشرين أنه اجتمع كمٌ ضخم من أطباء العصبية والمعلوماتيين (INFORMATIKER) وعلماء النفس والفلاسفة ومشرحو الدماغ وبيولوجيو الكيمياء العصبية في مؤتمر هام في سانت دييجو، يريدون حل المعضلة القديمة للفلسفة: ماهو الوعي الانساني؟ لقد حاولوا اقتحام الدماغ لفهم أسراره الدفينة. ولكن من أجل فهم ماذا يعني الكيان (أنا) كان عليهم تجاوز عقبة كؤود غير قابلة للاختراق على مايبدو حتى الان وهي: دور المشاعر والاحاسيس وعلاقتها بالعقل والفكر؟!
إن الثورة العقلية التي بدأها ديكارت مع عام 1644 م عندما أطلق مقولته الفلسفية الشهيرة (أنا أفكر أنا موجود)(COGITO, ERGO SUM) كان قد وضع أحد الأحجار الأساسية في الفلسفة الحديثة، فأما الروح والعقل والوعي فإنها تخص الكنيسة، وأما البدن فيمكن اقتحام التابو فيه وتعريضه للتشريح، وهكذا أوجد النظرية الثنائية في أن الانسان كيانان يسبحان جنبا الى جنب الروح والبدن في ثنائية متلازمة غير مفهومة. ولكن كما تفعل الثورة مع ابناءها فيبدو أن هذه الثورة العقلية تهدد بأكل ابناءها الذين دشنوها على حد تعبير مجلة الشبيجل الألمانية (7) فالاتجاه بدأ ينعكس الآن ليس البحث في البدن بل في الروح؛ فكيف نفهم الذات؟ كيف نعرف من نحن؟
كل السر على مايبدو يربض تحت عظم الجمجمة، في المادة المخية التي تضم مائة مليار خلية عصبية، في تعقيد لايقاربه شيء في الكون.
مراجع وهوامش :
(6) مقال على المنهج ـ رينيه ديكارت ـ ترجمة محمود الخضيري ـ الناشر دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ ص 110 (7) مجلة الشبيجل الألمانية العدد 16 1996 م ـ البحث عن الذات ص 190